مجلة السنونو (
العدد الثالث ) -
قصص قصيرة
|
|||
رياح جنوبية - إملي
نصرالله
|
|||
جاءت مع الربيع. تسلَّلت من خياشيم الأبواب والنوافذ، هادئةً، حانية.
شعرتُ بها تنتَقِلُ فوقَ رموشِ عينيّ. تقتحُُمُهما، تُلامسُ جبيني، وتغرسُ بين
الحاجبين كلمة سرّها.
رياحٌ جنوبية.. آهٍ كم اشتقتُكِ!
فجأةً تأتين، تجتاحين كياني، حاملةً عبير الصَّعتر وبخور مريم ونكهةَ
الكروم وعِطر الزيتون، ناقلةً إليّ ذلك العالَم القديم الذي ما عرفتُ أقربَ منه إلى
شِغافِ القلب.
سألوني: "ما سرُّها تلك المنطقة؟ ما سرُّها تحملينها مع كل خطوةٍ من
خطوات العمر وتسيرين؟ تحملينها في سواد العينين"؟.
أجبتُهم : " أستعير أقوال المتصوّفين لأردّ على السؤال فأقول لكم : " الذين
يعرفونها لا يتحدثون عنها، والذين لا يعرفون ينشرون الكلام ".
قالوا: " ولكنها ليست من المناطق السرية الغامضة في الكون : أرضٌ وصخورٌ
وبضعة أشجار، وربّما ينبوع ماءٍ منسيّ عند سفح الجبل ".
أجبتهم: " ... وينابيعُ تتفجّر وتتدفّق ملءَ القلب والعينين، وأرضٌ
تُنبتُ الزيتون وسنابل القمح، وتفتح الذراعين تأخذُك بين ذراعيها إلى أعمق منابع
الحنان وتغرسك هناك فلا تعود تطلب من وجودك سوى النعاس الأخير، والإلتحام بها إلى
أبد الدهر".
وصمتوا. عند آخر نُقطةٍ على السطر أغلقوا دفتر الأسئلة، وتركوني في غرفةٍ
من مدينةٍ تليق بها كل الأوصاف، مدينة سعت لتمحو لوعة تسيل من القلب، وحنيناً يقطرُ
ملء الشفتين، وشظايا بريق يطفر من العينين، وحاولَت أن تمسح بأناملها السحرية قطرات
بلّورية تغتنم كلّ فرصة لتتساقط بصمت.
آه، ما أعذب دمعاً يسيل توقاً إليك!
من مكاني البعيد أبعث الرسالة. أُحَمّلها طيور السنونو، كي تغرسها في عُش
لها تحت حاجب
الباب الشرقي أو في عباب شجر اللوز العتيق.
ولكن، ماذا بوسع الرسالة أن تفعل؟ ماذا يمكنها أن تقول؟ هل تدخل غرف
الدار تتفقدها غرفةً غرفة، وتمسح الأبواب العتيقة بأنامل الشوق وتقبّل الجدران؟
والرسالة، هل تتوقّف عند بابٍ تهاوت مفاصله واندثر طلاؤه، وبرغم عسف
الزمن وطول الهجر ظلّ يشدّ أوصاله كي لا يسمح للعواصف أن تتسرّب إلى الداخل، ولا
يترك الفرصة للزلازل كي تخلخل الأسس الثابتة من الجهات الأربع ؟.
والرسالة، هل تعبُرُ المربَّع وتجلس حيث ديوان الضيوف، وموقد لم يبقَ فيه
سوى الرّماد؟ أو تتوقف عند باب كلِّ غرفة وتسمع الأصداء العابرة إليها من ذلك
الزمان البعيد حاملة صخب الصغار و "هيصة" الأفراح والحكايات المغروسة فوق مصاطب
السّمر؟.
وكيف للرسالة أن تفتح عينيها وتضمُّ مشاهد طوتها الأيام، أو تسرّبَت من
خصاص الأبواب تُسجّلَ صور الوجوه البعيدة والقريبة، وجوه الراحلين والمغتربين،
والذين يحجّون إليها مع كل رفّة عين ؟.
لن تعرف الرسالة طريقها إلى ذلك المقعد القديم، قرب النافذة المطلّة على
فتحة الوادي وحمى السنديان. لن تُبصر الفتاة الصغيرة تجلس ساعات من نهاراتها
ولياليها، تتأمّل تحوّل الفصول ونموّ الشجر، وتحصي الطيور الراحلة والغمام الطموح
المتسابق إلى بلوغ قمّة حرمون أو تطويق القمر، وتتأمّل شيخ الجبال في شمخته المهيبة
حين ترتفع عمّة الثلوج فوق رأسه، أو بعد انحسارها مخلِّفةً صلعته الجرداء صامدةً
تُعارك الزمن وترقب عودة الفلاحين مع الغروب وعودة الرعاة وقطعانهم، والصبايا
القرويات بأثوابهنّ الزاهية والجرار الفارغة، أو الجرار الملأى بالماء والأحلام فوق
أكتافهن.
والرسالة يمكن أن تتعثّر بأذيال ثوب الجدّة العجوز الجالسة فوق كرسيها
الهزّاز، في يدها سُبحة صلاةٍ وفوق شفتيها إبتهال، وهي تصلّي: للأطفال والشباب
تصلي، لمن حضر ومن غاب عن العين، للمقيمين والمسافرين في البحر والبرّ، للأصدقاء
وللأعداء تصلّي. ومع كرّات المسبحة يتساوى الجميع ولا يعود فرقٌ بين وجه آخر، بين
اللحظة واللحظة.
تقول لها الرسالة: "أذكرينا في صلاتك يا جدّة، أُذكرينا". وتتلفَّت
العينان الحاملتان هموم الزمن. تتلفّتان لتُحدِّدا مصدر الصوت، ثم تعود المرأة
فتتابع حوارها مع خطّ نورٍ نابع من الأعماق. "إلى هذا الخطّ خذينا، وفوق مساره
ثبِّتينا، يا جدّة. فأيام الحزن تغلغلت حتى لامست الأعماق ومسحت الفرح وغرست مكانه
بقع الصدأ. ونحن، من هذه الزاوية المتوارية خلف أبواب الحديد وجدران الإسمنت
والرّماد، نمدُّ إليك أيدينا كي تُساعدينا في العودة إلى الجذور، في العودة إلى دار
عتيقة، أمينة على الأسرار والذكريات. رُدّينا إليها، وأوصِدي خلفنا الأبواب".
وتهبُّ الرياح الجنوبية مع عودة فصول الدفء. تعود فتلفح وجهي وتفتح
عينيّ، وتمسح من بين الرموش الحزن والنعاس، وتقرأ عليّ رسالة الجواب.
تقول لي : " الدار تنتظر. الأبواب ستظلّ موصودة، والنوافذ لن تفتح للشمس
والنور. وأحلام الصبية الصغيرة قابعة في صندوق مقفل، والجدّة تغرس في مسبحتها حبّةً
جديدة مع شروق الشمس كلّ صباح".
وتقول
الرسالة : " الأرض تحفظ لكم كل شيء: الوعود والأحلام، والكلمات المغروسة فوق صدرها
كحبّات الياقوت. والفصول تتناوب على حراستها وتحميها. والأرضُ تَعِدُ بأن تظلّ
تنبتُ القندول والقبّار، وتحجبُ فرحها وذهب السنابل إلى أن تعود زنودٌ تشتاقُها،
وتعرف بأيّ اللغات تُخاطبها، وتعود شتلاتٌ اقتُلِعَت من فوق صدرها وغرست في مطارح
الغربة والصقيع".
وتقول الرسالة: " الأرض إذا وعدت وفت، فبلّغوا عنها كلّ السائلين والمنتظرين عند
أعتاب الزمن. طمئنوهم بأنها باقيةٌ على العهد، أرضهم القديمة، حلم الطفولة ومثوى
الأجداد".
حفنة رياح جنوبية، حاملةٌ الوزّال، وشذا الصنوبر والصّعتر وبخور مريم،
هبّت عليّ عند المساء، تسرّبت من خلال كل الحواجز، وتغلغلت عميقاً بين شغاف القلب،
وأيقظت الذكريات.
آهٍ لو غافيةً تبقى الذكريات!.
* * *
*
القصة
الحائزة على جائزة سعيد عقل.
|
|||
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق