مجلة السنونو (
العدد الرابع ) -
بلاد الجدود
La patrie des aieux
|
|||
قصـة نهـر منسـي
(
زيـــــاد ديـــــاب
)
|
|||
إشارة
لما كتبه الأستاذ رجب السيد في العربي عدد (531) فبراير 2003 صفحة 152 وأسوة بنهر
النيل كان لابد أن يتعرف العربي على نهر منسي له فصل من فصول الحضارة. " أن نهر
النيل هو الوحيد في العالم الذي يتجه في مساره من الجنوب إلى الشمال" والحقيقة أن
المبالغة في تفرّد مصر في حضارتها وأهرامها ومسلاتها ونقوشها وما كتبه الإخوة
المصريون قد تعدوا فيه التاريخ ووصلوا إلى نتيجة تقضي بتفرد مصر حتى في جغرافيتها؟
وقلما يذكرون أن الحضارات المعاصرة لمصر والتي سبقتها والتي لحقتها لها فضل على
الإنسانية جمعاء، وكأن الله لم يخلق سوى مصر ونيلها؟ وما الحكمة من الصدفة الطبيعية
لجريان نهر الجنوب إلى الشمال؟! هل تستحق هذه الظاهرة دراسة تاريخية وجغرافية
وطبيعية وبشرية وحضارية أم الاحتكار الحضاري خاص بمصر وشعبها؟ يا سيدي هناك أنهار
كثيرة تجري من الجنوب إلى الشمال، ولا نبتعد كثيراً، فإن نهر العاصي في سوريا يجري
من الجنوب إلى الشمال، وهو أيضاً نهر عالمي وحضاري وإنساني لا يقل قيمة عن نهر
النيل، فهو ينبع من جنوب بلاد الشام (لبنان) ويتجه شمالاً مخترقاً سهول (حمص)
ومشكلاً بحيرة (قطينة) التي قامت عليها حضارات ومدن كبيرة أهمها مدينة (قادش) وفيها
قامت أعظم معارك التاريخ القديم بين الفرعون رمسيس الثاني في القرن الثالث عشر ق.م
والحيثيين بقيادة (شابيلو ليوما) وإثر المعركة تمّت أول معاهدة في التاريخ قامت
بالقرب من بحيرة قطينة وعلى ضفاف العاصي. وتمّت أول مصاهرة بعد هزيمة الفراعنة في
قادش وذلك بين الفرعون وإحدى الفتيات السوريات. وفي مدينة طيبة بمصر نقش يدل على
لوحات تذكارية عن معركة قادش وأهميتها، وأيضاً في معبد أبي سمبل. ويتابع العاصي
مسيرته الشمالية ليخلق لنا مدينة حمص وحضارتها القديمة ويتابع شمالاً ويشكّل سدّاً
في الرستن ويصنع حضارة "الرستن" منذ الألف الثانية ق.م. ويفجّر العاصي إلهام
الفنانين
.
ويرسمون لنا لوحات فسيفسائية رائعة تدل على مدى الغنى والترف والنعيم الذي عاشته
المنطقة بفضل العاصي وخاصة في العصر الروماني والبيزنطي والإسلامي، ويستمر اختراقه
شمالاً ليصل سهول أفاميا حيث قامت مدينة تضاهي روما في جمالها وعظمتها وذلك كله
بفضل العاصي المتجه شمالاً ليخلق خطاً جغرافيّاً حضاريّاً قلّما يتكرر في التاريخ
بسعته وتنوّعه وكثافة الحضارات المنتشرة حوله وخاصة الآرامية والعمورية والسريانية.
ولا يزال العاصي متجهاً شمالاً ليصل إلى "شيزر" حيث المدينة التي قاومت الصليبيين
وخرج منها أعظم أبطال المسلمين وأنبغ مؤرخيهم آنذاك "أسامة بن منقذ" صاحب صلاح
الدين الأيوبي ومؤرخه الخاص. عدا عن القلاع العسكرية المنتشرة حول العاصي لحماية
بلاد الشام الداخلية من التوغل الصليبي أهمها قلعة "أسامة بن منقذ" في حمص وقلعة
شيزر، وكان الفضل في إقامة هذه المدن العسكرية والقلاع والسدود والقناطر لنهر
العاصي؟ هذا النهر الهرم هو نهر الحضارة السورية بلا منازع. وما إن يدخل مدينة حماة
العتيقة العريقة حتى يفجر ينابيع الهندسة الميكانيكية وأساليب الري الحديثة المذهلة
والتي لا تزال موجودة حتى يومنا هذا، وهي فكرة الري عن طريق النواعير لأن العاصي
يدخل حماة وهي في منخفض وواد كبير، وليتمكن النهر من سقاية الأراضي المرتفعة، تمكن
المهندسون من اختراع نظام مائي فريد من نوعه في العالم. وأعجب من الذين قيّموا
وأسموا أعاجيب الدنيا السبعة كيف لم يضعوا النواعير من أعاجيب الدنيا، علماً أنها
لا تزال موجودة إلى اليوم تؤدي المهمة نفسها التي كانت لها منذ ثلاثة آلاف سنة. فهي
أعاجيب مستمرة تنبض بالحياة وما زال صداحها وأنينها وعنينها يملأ وادي العاصي،
وتبكي على عز ماض. ويستمر النهر متجهاً شمالاً حتى يدخل الاسكندرونة شقيقة
الإسكندرية لأن الاسكندر المقدوني بنى كلتا المدينتين الرائعتين. انبهر الاسكندر
بالعاصي فعمّر مدينته وأعطاها اسمه
.
ليضيف إلى تاريخ التمدن مدينة جديدة لا تزال موجودة حتى الآن، وتستمر رحلة العاصي
المضنية الطويلة، فقد أنهكته الحروب، وإنشاء السدود، وبناء القلاع والأسوار، وينعطف
على كتفه الأيسر ليستريح استراحة المحارب، ويصب في البحر الأبيض المتوسط بكل هدوء
تاركاً وراءه هموم التاريخ لأن قاع النهر الهادئ مليء بالوثائق والأحجار والأثريات
وبقايا الحضارات، فقد رفض أن يجلبها معه ليرميها في البحر كما تفعل بقية الأنهار
التي ترمي كنوز حضاراتها في البحر، إنه نهر يحب التاريخ لأن أقدم إنسان عاش في
الأرض كان على ضفتيه، وهذا ليس ببعيد، لأن "هرقل" عظيم الروم أقام في حمص وبنى
قصراً له على ضفة العاصي، ولهذا يقول أهل "روما" مثلاً لا يزال يُتداول حتى اليوم
"إن نهر التيبر يصب في العاصي" وألهم العاصي المخترعين والمهندسين لاختراع طاحونة
تدار على المياه لطحن الحبوب وهي كثيرة على ضفة النهر. ويستوقفنا العشاق وعلى طول
النهر حيث القرى الكثيرة المنتشرة على سهل واسع فسيح دون أي تضاريس طبيعية أو
معوقات تعترض خط النهر.
محنة العاصيحكايا الحب والعشق كثيرة، وأكثرها مندثرة وكان مسرحها العاصي، ولا تغيب عنّا قصة حب خالدة لا تقل قيمة وأهمية وإثارة عن قصص الحب العالمي التي قامت بين شاعر حمص والعصر العباسي كله "ديك الجن" عبد السلام بن رغبان، حيث أحب معشوقته من قرية "الدوير" ومن شدة حبه لها وهيامه بها لم يستطع فراقها، وبعد سفرة قصيرة إلى بلده "سلمية" رجع إلى حمص فقتلها ورمى جثتها في نهر العاصي فداء للنهر الذي كان سبب حبه لها وتعرّفه بها، كما كان يلقي فراعنة مصر أجمل فتياتها في النيل اتقاءً لشره. نهر له قصص غريبة وعجيبة وتدخل في سجله أساطير نرى إحداها في معابد مصر الفرعونية في القرن الثالث عشر ق.م حيث تقول الأسطورة إن رمسيس الثاني عندما وصل "قادش" على ضفاف العاصي كان يحمل معه من مصر قارورة مليئة بمياه النيل فكسرت القارورة وجرت مياهها متجهة شمالاً و اخترقت الأراضي، فكان نهر العاصي لأنه عصى أنهار سورية وأتخذ نهج أبيه النيل متجهاً من الجنوب إلى الشمال؟!.
أحبّ أهل العاصي نهرهم وأسموه "الميماس"
وتغنّوا به كثيراً، وكانت أجمل لياليهم على ضفتيه، وما "السيران" إلا ميزة لا
يعرفها إلا سكان بلاد الشام، ولها نكهة خاصة ومراسم ومواسم وطقوس يتفنن بها أهل
العاصي، وهو نزهة جماعية مليئة بالمرح والسرور والغناء الأصيل، وهو تقليد قديم منذ
العهد الروماني، فقد عُرف عن عائلة آل دومنة الحمصية التي حكمت روما مئات السنين
وعائلة كركلا التي تربّعت على عرش روما مدة طويلة، ونقلوا عاداتهم ولباسهم وطعامهم
وأسلوب حياتهم الحمصية إلى روما وجعلوا من نهر التيبر متنزهاً كما كان العاصي
متنزهاً ؟.
لم يخطئ الفيلسوف الروماني "لونجين"
عندما استقر في حمص ليكون على مقربة من العاصي، لتأتي إليه تلميذته الرائعة
"زنوبيا" لتعلم الفلسفة واللغة على يديه حتى تخرجت من مدرسته لتحكم "تدمر" التي
نافست روما وكادت أن تقضي عليها... ووقعت أسيرة في حمص وكبّلت بسلاسل من ذهب، وتدخل
روما بكرامتها وعزة نفسها وتُسجن في قصر يليق بها ويكون لها ذرية، ومن ذريتها يخرج
ضابط أصبح في يوم ما حاكم روما يقال إن أسمه "سيفيروس سبتيموس" وكان وقتها قائداً
لحامية ليبيا...
ومع المحن التي أصابت العاصي والفواجع
التي ابتُلي بها وإجباره على الخنوع والخضوع، فقد أصيب بداء الهرم وأصبح يسير
بطيئاً متكئاً على أشجار الصفصاف والسرو العتيقة الهرمة، وتساعده في المضي نحو
الشمال حافراً أخدوداً عميقاً كما تحفر الأيام أخاديد على وجه الرجل المحارب الذي
يصنع الحضارات. وأبى النهر بكل كبريائه وعنفوانه مذكّراً شبابه وفتوته إلا أن يظل
بطلاً واقفاً شامخاً ليقدم أجمل بساتين وأخصب أراضي بلاد الشام قاطبة. وأحياناً
ينتفض رافضاً الحواجز الكثيرة التي أقيمت حوله في محاولة لكبح جماحه ويطغى، ولكن
بلطف، ليتذكر أنين نواعير حماة ويطرب على أجمل سيمفونية في العالم، بل العازف
الوحيد في العالم الذي يقدّم لنا مقطوعات قلّما نجدها في أي نهر في العالم ؟!.
حمص ـ سوريا ، عن مجلة العربي عدد 544 مارس2004
. |
|||
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق