مجلة السنونو (
العدد الرابع ) -
من
التاريخ
جوليا دومنا ... امرأة حمصية على عرش روما
( خالد عواد الأحمد )
لم تكن جوليا دومنا تلك الفتاة الحمصية بارعة الجمال تحلم قبل ألفي
عام أن تصبح السيدة الأولى في قصر الإمبراطورية الرومانية التي كانت من أعظم
الإمبراطوريات في ذلك العصر ، رغم أن النجوم قد بشّرتها بزواجٍ ملكي،على حد وصف
المؤرخ ( جان بابليون)
وكان هذا كافياً لسبتيموس سيفيروس العربي الليبي أحد ثلاثة قادة للجيوش الرومانية
في عهد أحد أباطرة الانطونيين ( مارك أوريل أو ماركوس أوريليوس ) كما يُسمى
بالرومانية . كان هذا كافياً له لأن يعمل على الزواج منها، وهو العسكري المجبول على
إطاعة الأوامر العليا كما يصفه بابليون، وبخاصة إذا كانت تلك الأوامرآتية من السماء
التي يجب اللجوء إليها في كل أمر عظيم .
كانت حمص في العصر الروماني مشهورةً بعبادة إيلا غابال ( إله
الشمس) الذي يرمز إليه حجر أسود مخروطي الشكل أُقيم في معبد الجبل ، المعبد الكبير
والهام في حمص، وهو مكان الجامع النوري الكبير حاليا ، وكان الكاهن (باسيانوس
الحمصي) هو المُولج برعاية هذا المعبد والعمل على خدمته،
وكان لهذا الكاهن ابنة تدعى (جوليا دومنا) على قدرٍ كبيرٍ من الجمال والذكاء ،
وشاءت الأقدار أن يأتي إلى حمص القائد الليبي (سيبتيموس سيفيروس) بمهمة من الحكومة
الرومانية للقضاء على الفوضى التي قامت فيها، ولقطع دابر الأشقياء والمفسدين، فقام
بالمهمة خير قيام ، وفي حمص تعرف على باسيانوس وأُعجب بابنته إعجاباً شديداً ،
وانتهى هذا الإعجاب بالزواج سنة 187 وجرى للعروسين احتفال
أسطوري يليق بهما،
ولم تأت سنة 193 حتى نادى الجيش بسيبتموس سيفيروس إمبراطوراً على روما ، وبذلك وُضع
الأساس لصرح الأباطرة السيفيريين ذوي الأصل الحمصي عن طريق جوليا دومنا التي عملت
على جلب أختها
(جوليا ميسا) وابنتي اختها (جوليا سوميا ) و(جوليا مامة ) إلى مدينة
روما حيث امتزجت أسماؤهن بتاريخ روما، واعتلين عرشها الإمبراطوري بالتتالي.
العاصي والتيبر
لم تكن سيدة القصر الإمبرطوري في روما
(جوليا
دومنا ) امرأة عادية بل كتلة من المواهب العبقرية التي جعلتها تصنع جزءاً كبيراً من
نجاحات زوجها الإمبراطور سيفيروس ، وكأن مقولة " وراء كل عظيم إمرأة" التي تتردد
كثيراً في أحاديثنا اليوم ، كانت حقيقة مجسدة في ذلك العصر .
لقد اتصفت جوليا بكل الصفات التي جعلت منها أنثى استثنائية ، وهي
صفات كانت نادرة الوجود لدى السيدات الرومانيات آنذاك ، من حدة في الذكاء ، وسعة في
الحيلة،
وإصابة في الحس، وعناد في الإرادة،
وجرأة وإقدام، وقوة فكرية ، واستطاعت جوليا بما أُوتيت من ذكاء وحزم وتخطيط أن تسهم
مع زوجها في تصريف شؤون الإمبراطورية وأن ترافقه في رحلاته وانتصاراته، حتى منحتها
روما لقب " أم الوطن " ولقب " أم الشيوخ " ، وأنشأت (جوليا دومنا) صالوناً ثقافياً
في أثينا عرف بصالون الإمبراطورة ، كان يتردد عليه عدد كبير من أدباء وفلاسفة
ومفكري ذلك العصر، من أمثال الفيلسوف السفسطائي
(أبولويانوس)
والشاعر ( أربياه ) والطبيب البارع (واربا ) والفيلسوف ( أبوجين أرتيني ) الذي
أهداها كتابه( حياة الفلاسفة ) والمؤرخ (أثينوس وماربوس ماكسيموس ) والفيلسوف (
هيرود أتيكوس ) و( أبولي ) أمين سرالإمبراطورية ومؤلف كتاب ( الحمار الذهبي )
والمؤرخ (هيبرابوليس ) قنصل وحاكم بثينا الذي ألف كتاباً أسماه ( تاريخ السيفيريين
)
واميل بابنياس الذي يعتبر اشهر الفقهاء في العالم وفي كل العصور وقد
ولد في مدينة حمص عام
142 م وقتل عام212م بامر من كركلا ابن جوليا لانه رفض كتابة دفاع
وتبريرلكركلا تبيح للأخير قتل اخيه غيتا دفاعا عن النفس وكان جوابه المشهور الذي
قتل بسببه ( أن ارتكاب جريمة قتل الوالدين ايسر من تبريرها ) ويعني تبرير قتل كركلا
لاخيه وقال : ( ان تبرير قتل النفس ليس اسهل من اقتراف القتل ).
وساعدت جوليا على انتشار النفوذ الثقافي السوري في روما،وأحاطت
نفسها بعددٍ كبيرٍ من المفكرين والعلماء والأطباء السوريين ، وهذا النفوذ هو الذي
دعى الشاعر اللاتيني (جوفنال) لأن يتذمر في هجائيته المسماة " بابل" بأن نهر
(العاصي) السوري أصبح يصب منذ زمن بعيد في (التيبر) والحياة أصبحت في روما لا تُطاق
من كثرة هؤلاء الأغراب الذين توافدوا على العاصمة واستقروا فيها . وقد لعب الجانب
الديني دوراً كبيراً في ترسيخ هذا النفوذ ، فسورية في ذلك الوقت كانت موطن الديانات
الشرقية ، وموئل التدين والعبادات الشرقية في الوثنية الرومانية وكانت الشمس في
المعتقد السوري أقوى الآلهة، فهي تتحكم بمسار الأزمنة والأشياء وتقود دورة النجوم
، وهي كما يقول " شيشرون " " قائد وملك كل الأنوار السماوية الأخرى والعقل المدبر
للعالم كله " .
ومن خلال معبد الشمس استطاعت حمص أن تتربع على عرش روما سيدة العالم
في ذلك العصر لمدة خمسين عاماً تقريباً ، كمااستطاعت أن تفرض لفترة قصيرة عبادة إله
الشمس الحمصي " إيلاغابال " الذي لا يُقهر كأعلى وأعظم الآلهة في مدينة روما
ومن الأعمال العظيمة التي انجزها سيفيروس مدرسة بيروت للحقوق التي
أنشأها إكراما لزوجته جوليا دومنا وتعتبر أشهر مدرسة للحقوق الرومانية في التاريخ،
وأطول المدارس عمرا رغم أنها لم تكن الوحيدة ومما يدل على أن سيفيروس هو الذي
انشأها المعبد الذي اقيم لسيفيروس في بيروت ووضع داخل المعبد تمثال له، و " اجتذبت
مدرسة بيروت للحقوق – كما يقول الباحث احمد غسان سبانو في دراسة بعنوان ( الأثر الشرقي في القانون الروماني – اللاتيني) كثيراً من الطلاب العرب والأجانب وذلك من مختلف مناطق الإمبراطورية الرومانية وكان من خريجيها كثير من الأباطرة ورؤساء الحرس الإمبراطوري والحكام القضائيين ورؤساء الديوان ( الوزارة ) وكثير من الوزراء والعظام وكان لأساتذة المدرسة شهرة فائقة وتأثير كبير في مؤلفاتهم على الحقوق الرومانية وهذا ما جعل مدرسة بيروت للحقوق أكاديمية جامعية ذات شهرة عالمية ، وقد قضى زلزال حدث في عام 551 م على المدرسة وهدمها فوق طلابها وأساتذتها كما هدم مدينة بيروت وذهب ضحية هذا الزلزال ثلاثون ألف شخص من سكان بيروت ومنهم عدد كبير من الطلاب الأجانب أبناء الأسر النبيلة . وعُثر على بقايا لهذه المدرسة منذ سنوات أثناء تجديد وسط مدينة بيروت .
أيلا
غابال
بعد وفاة (سيبتيموس سيفيروس) في إحدى معارك الرومان في بريطانيا
بقيت الأسرة السيفيرية مسيطرة على حكم روما من خلال ابني سيفيروس من جوليا دومنا(كراكلا)
و(
جيتا ) ولكن صراعاً دموياً نشب بين ال الأخوين اللذين كانا يكنان لبعضهما منذ
الطفولة أشد أنواع البغض والكراهية، ولذلك حاول كركلا وهو الأكبرأن يجعل نفسه
الحاكم الوحيد لروما، وفي سبيل ذلك دبّر اغتيال أخيه ( جيتا ) وهوفي جناح والدته
الخاص ، وكان ( جيتا ) قد دُعي إلى ذلك الجناح للتوفيق والصلح مع أخيه كراكلا
وأُصيبت جوليا نفسها بجراحٍ في يدها أثناء محاولتها حماية ابنها، وقد حدث ذلك في
سنة/ 112/ وهي السنة التي منح فيها (كراكلا) حق الرعوية الرومانية ( المواطنة
بالمفهوم المعاصر ) لجميع سكان الولايات الأحرار ، وكان آنئذٍ في الثالثة والعشرين
من عمره ، ومنذ ذلك الحين حُكم على الإمبراطورة الوالدة التعيسة أن تبكي على موت
الولد الراحل وعلى حياة ابنها الآخر غريب الأطوار.
وقفت والدة كراكلا مكتوفة اليدين تجاه تصرفات ولدها ،ولم تجرؤ على
ذرف دمعة واحدة على ابنها الذي مات غيلةً ، وبعد خمس سنوات من توليه الحكم في روما
قُتل كراكلا على يد قائد الحرس القضائي (ماكران) الذي نصّب نفسه بدلاً عنه ، ولما
بلغ جوليا ذلك وهي في أنطاكيا أُصيبت بحالةٍ شديدة من الحزن والكآبة، وقد دفعتها
هذه الحالة إلى محاولة الإنتحار جوعاً، ليس بسبب موت ابنها المكروه (كراكلا) بل
لأنها لم تستطع التفكير بالعودة الى الحياة العادية بعد أن كانت تأمل أن تصبح
الحاكم الوحيد لروما، وأن تجعل نفسها معادلةً لسمير أميس ، ونجحت أخيرا محاولاتها
المتكررة في الانتحار، وحُمل رماد جسدها، ووضع في مدفن " أوغست " في روما دلالةً
على المكانة الكبرى التي تمتعت بها عند الرومان ، وأعاد " ماكران " أختها وإبنتيها
مع حاشيتها إلى حمص ، إلا أن الفرقة الرومانية الثالثة المؤلفة من الجنود السوريين
أعلنت " أفيتوس " ابن كركلا ابن (جوليا سوميا) إمبراطوراً بعد إعلانه الانتصار على
ماكران وتم الأمر لافيتوس الذي غلب عليه اهتمامه بالجانب الديني ، وأصدر أوامره بأن
تُقام الطقوس الدينية للإله (ايلاغابال) في جميع أنحاء الإمبراطورية ، بل واصطحب
معه الحجر الأسود إلى روما، وبنى له معبداً خاصاً على شاكلة معبد حمص في موقع كنيسة
" سباستيان " الحالية كما رفع مدينة حمص إلى مصاف متربول المدن الكبرى .
وقُتل أفيتوس غيلة أيضا، فحكم من بعده الإسكندر سيفر ووالدته (جوليا
مامة) ابنة شقيقة جوليا دومنا الذي قتل هو الآخر على يد أحد قواده ، وبزواله زال
حكم السلالة السورية من روما، كما زال السلم وعمّت الفوضى في أرجاء الإمبراطورية
الرومانيـة.
|
|||
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
جميل
ردحذف