مجلة السنونو (
العدد الرابع ) -
قصص من المهجر
|
|||
أحزان عائلة منغولياس ( خوانا ديب )
(ترجمة: د.عبود طحان - مراجعة: نهاد شبوع)
|
|||
أحـــزان عائلـــــــة منغوليـــــاس
لماذا رضيت أن
يأتي؟.. لماذا أتيت به؟..
يترد ّد صدى هذه الكلمات المتكررة.. بين نساء العائلة العربية المهاجرة.. العرب
يغنون في الفرح كما في الأحزان..!
( نعم.. لماذا أتيت به؟) تتكرر اللازمة.. بينما ينتحب إبراهيم المهاجر
السوري، في حين تبقى أخته وزوجته صامتتين، تبكيان المأساة بدموع سرية، من دون
التفوّه بكلمة واحدة...!
جميل ـ ابن أخ إبراهيم ـ قطع البحار إلى أرض الأمل، وذلك منذ ثلاثة أشهر
فقط..! بالكاد بدأ يفهم بعض الكلمات والجمل من الإسبانية لغة أهل تلك البلاد.. إذ
العائلات العربية المهاجرة تتبادل فيما بينها الكلام بلغتها الأصلية.. وحدهم الرجال
يضطرون لتعلم لغة البلد الذي حلّوا فيه لضرورة العمل، والاتصال بالزبائن، وتدبير
الأمور المعاشية.. وحاجات الحياة..
إنهم هؤلاء المهاجرون السوريون، المضيافون جداً، الكرماء جداً، الذين
استوطنوا (سالتا) من أرياف الأرجنتين.. و من زمن ليس ببعيد...
إبراهيم .. تلقى سابقاً دروس القراءة والكتابة في قريته السورية.. وهؤلاء
النساء ولدن ونشأن تحت كابوس السيطرة التركية العمياء، وبالطبع كنَّ محرومات من
التردّد إلى المدرسة.. لذلك كان من الصعب جداً ـ عليهن ـ تعلّم اللغة الغريبة
الجديدة..
كم كان إبراهيم يكرر خلال ليالي غربته الأولى نهدات الشوق العميق مع
كلمة "يا أمي" المتلاحقة.. يتذكر لحظات الوداع بالأيادي المنهكة المرفوعة.. تلوّح
بمناديل الدمع.. ووسطها يلمع وجه أمه بكل أخاديد الدموع وغضون الحزن وملامح اليأس
والحدس باللاعودة..
تماماً كما كان يتذكر لحظات استقباله هنا بالغناء و (الزغاليط) ورقص
النساء والرجال. وحلقات الدبكة التي كانت دوائرها تلتف حوله لتجعله في وسطها محط
أنظار المرحبين الفرحين.. المستقبلين.. أما أعماقه.. فَمنْ يكتنه أعماقه، وما كان
يختلج فيها من المشاعر المتناقضة المتباينة.. المنجذبة صوب الفرح والأمل تارة وصوب
القلق والحزن والهمّ تارات..!!
نعم.. "لماذا أتيت
به؟!"...
رسالتان وصلتا إلى إبراهيم من أخيه يوسف مع تحيات الأم والأخوة وعطر
الأرض وكرم السماء.. رسالتان...!!
يتذكر إبراهيم الرسالة الثانية جيداً...! (دعْ جميل بقربك.. لقد هدّدوه
بالموت)..!
هكذا كانت رجالات العائلة الواحدة ـ أخوةً وعمومةً وأولاد عمومة يهتمون
بشباب العائلة اليافعين وبمستقبلهم، ويتشاورون في تدبير أمورهم.. ثم يبتّون
بمصيرهم.. وغالباً ما يكون السفر!!.
على الضفة الأخرى لمعت ابتسامة خجل لصبية في الرابعة عشرة من عمرها يعطر
الندى وجهها.. ويكحل الحسن عينيها... وعند هاتين العينين تتوقف أحلام جميل.. دون أن
يدري أو لعله كان لا يريد أن يدري.. إلى أين سيقوده هذا الحب المستحيل..!!
إذ الفتاة من دين آخر.. وهي تعيش على الضفة الأخرى .. والعائلتان على
صداقتهما العميقة، وإخلاصهما المتبادل.. وألفتهما الحميمة، وتشاركهما الحلو والمر..
وتعاونهما الدائم في الشؤون اليومية: تحميص البن..وطحن القهوة على الطاحونة الخشبية
العطرة الرائحة.. إلى شؤون أخرى صغيرة وكبيرة ... العائلتان.. لم تتحللا من هذه
الفجوة العقائدية.. وظلتا تحسبان لها حساباً كبيراً ، ولا سيما الرجال، فهم يخصونها
بكل الأهمية والاعتبار.. ويبالغون جداً في إحلالها المحل الأول من قداسة تقاليدهم..
ترى إلامَ ستظل هذه العصبيات المفرّقة تتحكم بأقدار الناس؟ وتدوس على
عواطفهم..؟
عمه إبراهيم لم يمشِ في طريق ملتوية.. في كل تاريخ هجرته.. أغصان الشجر
وعصافير الوادي كانت تشهد على سيرته العطرة.. أجل..
(لماذا أتيتُ به إلى
هنا)؟..
يوم الخميس روى جميل بأن ابنة صاحب الفيلا الريفية (مغنولياس) اقتربت منه
عن بعــد (400 متر) من الصالة الكبيرة الرئيسية تاركة رفيقاتها المصطافات فيها..
لتهمس في أذنه(لن يكون الخميس القادم، إذ أنني سأسافر برفقة أمي إلى المدينة، وقد
نعود متأخرتين.. لن يكون الخميس بل الأربعاء).. هذا كل ما فهمته منه.
كم هن رائعات أولئك الشابات.. إن في عيونهن نظرات البراءة المشوبة ببعض
ما يعكرها..!.
(أزوسينا) جميلة ذات عيون خضراء موروثة عن جدتها ـ أم أمها ـ وذات شعر
بني محروق، تبدو كملكة.. محبوبة من والديها، تتلقى دروسها على يد معلمة تتردد
يومياً إلى المنزل، إضافة إلى دروس في البيانو.. واللغة الفرنسية.. الكل معجب
بجمالها وكمالها.. هذا ما تقوله (دلفينا) العاملة في المنزل.
يوم الأربعاء سار جميل إلى الموعد.. سيدة المنزل لم تكن موجودة، مشى في
طريق مرسوم بالزهور، تلفه رائحة النعناع.. وتابع دون أن يعلم.. دون أن يعلم...
خدّام المنزل هزّهم ما رأوْه (أزوسينا) ممزقة الثياب.. وبتأوّه وإجهاش
بالبكاء المتقطّع روت أن (جميلاً) نزع(الُّسلُك) وقبّلها، ومزّق ثيابها، وهدّدها
بالخنق إن لم تمتثل لما يريد..!!.
غمر
السخط الوادي وملأه.. والوادي عليه أن يعاقب التهجم والاعتداء على الشابة الصافية.
وحدها (دلفينا) كانت قد رأت كيف أن الشابة قد أغرت الشاب المهاجر الجديد
ـ إذا لم تكذبها عيناها ـ رأت كيف إنها ركضتْ نحوه، وكيف توقف قليلاً ليتابع سيره،
رأتْ أيضاً كيف مزقت ثيابها، وارتمت فوق كومة قمح، وفي هذه اللحظات نادتها طباخة
المنزل فأتتها...
على الوادي أن ينتقم لهذا التهجم، وقد ثأر بالفعل، فالشرطة سلمت جثة
جميل إلى عائلته بعد أن ضُرب حتى الموت.
ـ
"لماذا كنت قد أتيت به"؟
لماذا تركته يذهب معتقداً بأنه أصبح رجلاً؟ وأنه حريص على شرف النساء.. ففي بلدنا،
محظورة وخطرة هذه الأعمال..لا يسمح للمرء بالتمتع بحرارة الحبيب إلا ليلة الزفاف..
" لماذا قد
أتيت به؟ هذا الشريف المطيع.. لماذا..؟"
يمزّقني الندم.. تنهشني الشكوك والأحزان.. لماذا ؟ لماذا ؟...
يبكي إبراهيم في صمت.. وزوجته مثله تجهش بألم عميق.. تفكر في الرسالة التي على
زوجها أن يكتبها، .. وكيف أن والد جميل سيمشي إلى حماة سيراً على الأقدام ليتسلم
الرسالة المنتظرة المبشرة..! من الأرجنتين.. ثم كيف ستتلقى أمه وأخواته الخبر..؟..
(ماريانو) شاب يتيم الأب والأم.. لقد تعهدّه عمه رأس عائلة (منغولياس)..
أوصله إلى الجامعة.. وفوق كل شيء منحه مع زوجته كل الرعاية والحنان.. كما حفظ له
تركة أبيه كاملة دون أن يمسها أو يتصرف بفلس منها..
عندما عاد إلى بيت العم.. بعد فترة الدراسة، شعر بالهواء الحزين الذي يلف
جواء العائلة وكان.. متأثراً من بسمة عمه الممزوجة بهذا الألم الدفين.. ويألم
لانزوائه الدائم في مكتبته بعيداً عن الأنظار.. ولانغلاقه على نفسه التي كان يحس
بأنها مثقلة بالهم والكرب.. كما كان يتأثر لعمته الحنون عندما كانت تلقاه
بابتسامتها المرة ويديها اللتين أضحتا رخوتين وشبه مشلولتين المسندتين أبداً على
ركبتيها بعد أن كانتا كلولبين ماهرين تحيكان الخيوط بحركة خفيفة تشبه اللعب..!!
فاجأ يوماً عمته تبكي في الحديقة، إنها أمه الثانية.. فاقترب منها.. وعانقها
بحنان وحب.. فحكت له مأساتها.. مأساة شرف الابنة البريئة..
لم يفكر مرتين ، هي ابنة عمه .. وهو المسؤول عن شرفها .. وعن الترويح
عنها بجعلها تنسى تجربتها القاسية مع الشاب المهاجر.. ناهيك عن جمالها وبراءتها..
إذن هو.. هو الذي سيغسل العار بالزواج منها.. والستر عليها.. !
خبر مفرح زحزح كربة والدي الفتاة : أن الشابين متحابان.. لم يمضِ زمن
حتى تزوّجا.. ويمما شطر البيت الريفي لقضاء أيام العسل، كانت دلفينا الخادم تنام في
غرفة مجاورة لغرفة العروسين، ولقد سمعت صراخ الرجل وشهقات المرأة ولغطها مما يدل
على عراك أكيد.. وأخذ ورد بين الزوجين، حداها حب المعرفة، فغادرت غرفتها وراحت
تنصت.. سمعت صوت ماريانو يتهدج بغضب (ماذا فعلتِ كي يموت ذلك الشاب المهاجر؟) يا
للجريمة يا للخجل.. عليكِ اللعنة.. لقد جعلته يموت.. إنه بريء.. بريء.. ). ثم سمعت
إغلاق باب الشقة بشدة.. لقد استطاع ماريانو في مهده الزوجي أن يضع وردة بيضاء..!!
أحد لم يدرك اللامبالاة التي انتابتْ (ماريانو) تجاه (أزوسينا)؟ لماذا
تغيّر كلياً بعد زواجه؟ ما من أحد توجه إليه بالسؤال..!! كانا ينامان في غرفتين
منفصلتين..
(دلفينا) هي الوحيدة التي كانت تعلم كل شيء.. دلفينا وحدها التي لمست
أنها عذراء.. تلك اللعينة..!! تلك الكاذبة..المغرورة..المنتقمة بشراسةٍ لكرامةٍ
زائفة..
_______________________________________________________________
خوانا ديب
ولدت خوانا ديب في سالتا (الأرجنتين) عام 1924. وعملت في التعليم مُدرسةً للغة
الإسبانية، والنشر الإداري. كانت الناطقة بلسان لجنة التعاون في المحافظة وصندوقها،
وعضواً لمركز (سالتا) للبحوث الثقافية العربية وللمجموعة العربية – الأرجنتينية.
نشرت شعراً (الأعجوبة والوردة)، (المتألقات)، (المانداغورا)،
(المذهبات)...
لها مؤلفات أخرى /مع دراسات شعرية/ وقصص قصيرة وروايات منها (أصوات
امرأة)، (شعراء من سالتا) كما لها مساهمات في المؤتمر الوطني.
تلقت عدة جوائز عن أعمالها الأدبية ، من مدينة سالتا، من المديرية
العامة للثقافة في المحافظة، من سكرتارية الآداب، من المائدة المستديرة للمجموعة
الأميركية، من مجموعة (نادي 20 شباط)، من القنال الثانية، من المجموعة الأدبية
الأرجنتينية – العربية لجمهورية الأرجنتين ومن مؤسسات وطنية وعربية وأجنبية أخرى.
جزء من إنتاجها تُرجم في جرائد ومجلات عالمية من قبل الشاعر زكي قنصل وحنا
جاسر (الأرجنتين) ومن الأب ميشيل نعمان (سورية).
يقول فيها زكي قنصل: ماهذه العذوبة، ما هذه الشفافية. حضرتك لا تكتب،
إنما أنتِ تُغنين.
|
|||
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق