الثلاثاء، 3 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الثالث ) - الافتتاحية ( نهاد شبوع )

مجلة السنونو ( العدد الثالث ) - الافتتاحية ( نهاد شبوع )

"عــود علــى بــدء "

في تحفزه للطيران الثالث في فضائكم.. وفي غمرة الذكرى الثلاثين لأمه "رابطة أصدقاء المغتربين" التي تحت أجنحتها قويت أجنحتُه، وبدم قلبها و قلمها نبتت ريشاته.. يحلو للسنونو التنقير على بوابة الذاكرة، في وقفة قصيرة متأملة، بغية الوقوع على ورقة ميلادها.. فإعادة قراءتها متحسساً نبض كلامها.. ومصداقية بشائرها.. وجدارة بذورها الخضراء التي خبّأتها جيوبها للأمس واليوم والمستقبل.. يعهد بكل هذا وذاك إلى محكمة الزمن والتاريخ جاعلاً منكم ـ اليوم ـ شهودها وقضاتها، تنقِّبون في عمق كلامها عن فعلٍ وازى النبوءة، وإنجاز ضاهى الوعود، وبرعم أمل انعقد سنبلة مليئة في حقول الحقيقة..
          إذ كأيّ من كلام هو محارٌ بلا لؤلؤ.. سرابٌ بلا ماء.. ومخدّر بلا شفاء.. في عصر تَفاقَمَ فيه مرضُ الكلام.. والجعجعة بلا طحن.!!
          حتى إذا خرجت محكمتكم المدقّقة بأن ثمة خطى كُتبتْ ولّما نمشِها، وثمة زهرة عطشت ولّما نَسْقِها.. فلا تسيئوا الظنَ.. وثقوا بأننا لا نزال نغذُّ السير في شاسع المنى.. ولا نزال نسابق الشوق لنبلغ المورد.. بل لا تزال أشرعة أحلامنا شامخة تغالب الريح وبحار المرتجى مجدّفة صوب الشواطئ البعيدة المجهولة ناشدة فرحة لقيا.. وتقليص ضياع ونوى بينها وبين أجزاء ذواتنا المسافرة النامية شجرة كونية خضراء وارفة الظلال في حديقة الله الواسعة.. تُساقط على الإنسانية جمعاء ثمراً إلهياً .. ثقافات متبادلة وحضارات متعانقة.. سلاماً شافياً ورطباً جنيا..!!
          إنها وثيقة الميلاد التي ـ كما نوهت ـ أصرّ "السنونو" أن يعيد قراءة ما دبجه الماضي من تاريخها، إيماناً منه بأن الكتابة إعلان استمرار الحياة داخل الماضي نفسه..!!
          وثيقة الميلاد يرفعها "السنونو" إلى ميزان محكمتكم افتتاحيةً لشوطه الثالث، لتتفحصوا، ولتحكموا، وتجيبوا:
           هل تستأهل "رابطة أصدقاء المغتربين في حمص" ـ بما نسجت وبما أنجزت ـ خلال الثلاثين أو ما قبل الثلاثين ـ أن تظل حضوراً مشعاً ينفذ إلى ذاكرة أجيال المستقبل وإيمانهم" ؟؟ .
و هل من الهدى والحكمة أن نظل وإياهم ـ على هذا الجسر" عابرين".؟؟
 الزمان :  عيد الميلاد الأول للرابطة المؤسسة، (15 تشرين الأول/)1973.
المكان :   نادي الرابطة الأخوية في حمص.
الحضور:  وطن مقيم مشوق.. ووطن مغترب عائد أكثر شوقاً.
  وثيقة الميلاد:                 "على هذا الجسـر فلنعبر...."
   بكل عواطفهم العارمة ملؤوا المدينة الصغيرة ، وبكل حماستهم بحثوا عن قلوبهم فيها كعادتهم في البحث مدى الغربة الطويلة...! وبإيعازات أشواقهم خفقت أقدامهم في أزقتها الضيقة .. دقوا على حجارتها وأسفلتها فانفتح لهم شطر من عمر مدفون وذكــرى مقيمة …! وأمام حشود صبيتها احتشدوا صبية عفاريت .. وفي دورهم العتيقة في (الورشة ) و ( بستان الديوان ) و( رأس المقيصلة ) استقبلتهم عرائش الياسمين المستلقية بكل استرخاء وشعث على الحيطان الحجرية ..
وهناك تحدثوا إلى كل الشقوق فيها .. وتذاكروا .. وذكروا .. !
     وعبقت أرضنا بالحياة .. وحفلت بكل ما هو خير وجدير، بعد أن كانت متلهفة متوقعة... وهكذا بعد المطر الأول تعبق الأرض بالحياة .. وتفرح بعمق ودمع كأم كبيرة .. !!
     لمستها أصابعهم العطشى ، وعانقتها عيونهم الجوعى .. وكأنها لم تكن معهم كل أيام البعاد .. وكأن ضيقها الواسع وفقرها الغني لم يكونا هاجسهم ووسواسهم …! وكأن أحلامهم المطرزة في هوائها وآمالهم العالقة في سمائها أو العاثرة في وحولها ووهادها مرحلة يغلبها الترحل والنسيان .. وكأن اقتحامهم ظهيرة الأشواق لم يكن وطناً حضوره آسر عنيد .. ضلّ من ظنّ الوطن في غير لهيب الأشواق .. وخارج عادة البحث عنه .. الشوقُ وطنٌ .. والبحث عن الوطن صك رفض الاندماج بضياع . !
     أهلاً بكم .. يا من كان سفركم بحثاً .. وبحثكم انغراساً ووطناً .. أشواقكم احتلتنا كبحر .. وأعادتنا عودة جديدة وعرّفتنا حمصنا وجهاً آخر .. مدينة حلوة زارها الفرح والمطر ..!!
     هكذا أعتقتموها من حقائبكم ، هكذا انداحت من عيونكم .. أنتم الذين علمتموها هذا الجمال .. أنتم الذين علمتمونا هذا الولوع..! .. ! والتبس الأمر ..! أيّنا العائدون؟أيّنا المقيمون؟؟ لا عائد ولا مقيم .. فأنتم لم تودعوا ونحن لم نفارق .. أنتم لم تمطر عيونكم دمعاً وقهراً ..  ونحن ما يبست عيوننا ودموعنا من انتظار ..!!  شطحت عفوكم …!
 فما أردتها كلمتي معزوفة على وتر عاطفة وشوق عملة غير مصروفة في سوق واقع وملموس.. حتى لا يظن أننا نتحلل ولا نحلل ، نُقال ولا نقول..!
     ما أردتها كلمتي لغة فرح هاجم على كثافة أيام صارمة، لأنني بت أحذر الفرح لخيانته القاسية..!
     ما أردتها مراسم ترحيب بالطريقة التقليدية بعائدين من شطرنا الثاني في "بوينس آيرس" .. وفيهم راشق بذرة ( رابطة أصدقاء المغتربين ) السيد رامز شقرا واصل المنابع العربية بالمصبات .. والأغصان المسافرة بالجذور الراسية.
     نعم .. ما أردتها مراسم مديح تقليدية لعيّنة من مهاجرين يستحقون المديح ، حتى لا يظنوا أنها العملة الوحيدة التي بإمكاننا أن نعطيهم إياها، وكم رفضها الاستاذ "رامز" في أغلب رسائله إلى جريدة حمص تعويضاً مخدّراً لحقوق مغترب لا يزال يعدها منسية مهملة في الأرض الأم .
     أردتها ـ كما أرادوها ـ ترجمة عمل قائم ولد حاجة وريّاً في مدينة لها مع الهجرة مآس وتاريخ عطش ..جسراً يصل من جديد مدينتنا بمدينتهم ، ويزخر بعبورهم إلينا وعبورنا إليهم، فتظل وشائجنا نابضة وثابة ، لا على صعيد سياحة آنية ، أو تبرع سخي في شدّة أو عاطفة حارة في استغاثة أو في انتصار وفرحة .. بل على صعيد وشائج متينة وقضايا مصيرية مشتركة ..                
فوطننا ما عاد يطيق هوة فراق وهجرة روح متمادية في الزمان والمكان ..         
     والله شاء للإنسان ان يمدّ الجسور ، وأن يردم المهاوي وأن يجد واحة في الصحراء ، حتى لا يسيء فهم الكون فيحسبه كله مأزقاً أو هاوية أو صحراء ..!
     أجل .. مأزق وهاوية وصحراء ، أن يهاجر لنا إلى ما وراء البحار آلاف العرب تحت وطأة ظروف اقتصادية واستعمارية قاهرة ، وأن تعطش الأرض اليهم .. وأن يعطشوا هم خارج أمهم الأرض ، ويجتازوا لظى المحارق والحرمان ويخوضوا في البعاد معركة تحقيق الذات ، وأن يصلوا الى نجاحات مرموقة في مجالات التجارة والصناعة الحديثة ، وأن تظل لغتهم بينهم حية بلا وطن .. وأن تنحدر منهم أجيال وأجيال فيضحوا قوة ملايين ، يتمتع معظمهم بسمعة عطرة ويحتلون الدرجات العلمية العالية ، ويشغلون المناصب الرفيعة المسؤولة ، ويكون منهم وزراء دولة وضباط وقادة وأدباء ومحررو صحف ، ويشع نبوغهم العربي في مؤسسات أنسا نية … ومع ذلك نضيعهم وننسى العرى بيننا وبينهم فلا نحدد علاقتهم بالوطن ،
ولا ننتبه إلى أن ضمهم  إليه لا ينفصل عن مرامي معركته الكبرى .
     مأزق وهاوية وصحراء أن يكون من بين من ذكرت متحدرون لا يعرفون من أرض الجدود إلا الموقع الجغرافي على الخرائط ، وإلا ما سمعوه من قصص الرحيل الحزينة في السفن العتيقة .. ويجهلون وسط المحيط الغريب كل شيء عن لغة الأجداد وتاريخهم … حتى .. ويجهلون ايضاً أننا   ـ نحن المقيمين على أرض الأجداد اليوم ـ تغمرنا الحضارة مثلهم ، فلا نستعمل الجمال في تنقلاتنا .. والخيام في مستقراتنا .. وأننا نأكل جيداً ..! ونلبس جيداً .. ونفكر جيداً .. وحرب الـ (14) قد ولى مفعولها تماماً من اوساطنا . ومن أرضنا تفجرت حضارات .. ومن أرضنا مؤهلات لانبثاق حضارات … ومع ذلك نقصّر في حق أنفسنا ونحجب عن عيونهم أضواءنا .. ولا نحسب لهذا الجهل بنا حساباً تجاههم وتجاه الدولة التي احتضنتهم عندما استضافت يوماً اجدادهم وآباءهم ..
     مأزق وهاوية وصحراء أن تتقلص نتيجة لذلك روابط هؤلاء بأرض الجدود والتراث تدرجاً من الأب وهبوطاً إلى الحفيد .. هذا الحفيد الذي لم نضمه ولم ننظمه ولم نعرفه ولم نعرّفه بأصوله ليحبها وليحفظ لها في كيانه بقعة مشعة نيرة ، ولم نشربه لغتها إلى جانب اللغات الأخرى ـ التي كثيراً ما يضيفها إلى لغة محيطه .. بل لم نهيئ له تبادل التجارب الناجحة والخبرات الجديدة في ميادين الثقافة والاقتصاد والاجتماع والأدب والفن ، عن طريق المؤتمرات واللقاءات والاتفاقات الثقافية مع الدول المضيفة ، وتبادل المنح الدراسية ، وتبادل الوفود المهنية والطلابية ، غير متذكرين بما للاتصال المباشر والمشاهدة العينية القريبة من فعالية نفاذة في توضيح الحقائق وجلاء كل غموض ومكافحة الدعايات الباطلة التي حذق فيها الصهاينة إلى ابعد حدود .
     الجهل غربة وظلام .. المعرفة قرب وإضاءة ..      
تلك هي الطاقات العربية الزاخرة التي نخشى ضياعها والتي نريد أن نشدها إلينا وأن ننشدّ إليها لا على صعيد التمثيل الدبلوماسي فحسب بل على صعيد المشاركة الشعبية والصداقات الوطيدة المتبادلة .. تلك هي الطاقات الإنسانية الفكرية التي نريد أن نسلمها أوراق اعتماد قلبية لتكون السفارات الأمينة للوطن العربي وقضاياه وحينئذ نرضى بغربتها ما دامت هذه الغربة لا تمس الفكر والروح . فأخسر ما يخسره الوطن تمادي غربة الفكر والروح ..
     ومن أجل هذا كانت ( رابطة أصدقاء المغتربين ) في حمص ـ كما ستكون في سائر المدن السورية ـ جناحاً شعبياً يتضافر مع المسؤولين ليحمل معهم شرف حبك جسر العودة الجديدة للمغتربين العرب ، وشرف تبنيهم وكسبهم ، شأن كل الأجنحة الشعبية الفعالة في دولتنا الديموقراطية .. وتيمناً بالإنجازات التي لا تخيب إذا أحاط بها تضافر جماعي مؤمن .. وإن ثمرات التعاون الشعبي الصابر كانت ولا تزال أشهى وأضمن من أي ثمرة ترجى من السعي المبتعد المنفرد ..
     ولعل ترخيص الحكومة لهذه المؤسسة أكبر دعم وتشجيع وأسطع دليل على الاهتمام بقضايا الاغتراب ، وأصدق دعوة ديموقراطية للفئات الشعبية المثقفة العاملة لتنخرط بصدق وجد في بوتقة هذا العمل الموحّد ولتسهم في هذه الرسالة الاجتماعية الواصلة .
     أما وقد تجاوزت الرابطة مرحلة الاستلقاء في خيالنا الى مرحلة الولادة فالحقيقة، فلقد أحببت أن أحيي معكم في هذا اللقاء هذا العيد لها .. وأن أردد على مسامعكم روح منطلقاتها ورفيف أجنحتها .. لا لأمنحها من ازدياد معرفتكم بها دعامة وحضوراً جديدين ، بل لأقبس لها من حواركم ومقترحاتكم.. فكل باب للحوار يغسل عتمة ويشعل نوراً .. وقد خلق الله الحوار حين منح الإنسان عقلا وأطلق لسانه وصوته .
     أما عن جنودها .. فجنودها ـ يا سادة ـ عاملون صامتون مؤمنون . هم كل متسم بنضوج الفكر وسعة الأفق وصدق السعي .. وهم خارج حدود سجلاتها أكثر بكثير ممن هم داخل سجلاتها ، والبعيدون منهم عن حوزة ذاكرتنا أكثر بكثير ممن هم في حوزتها .. فما أغزر عددهم ـ إذن ـ في مهجركم ودار إقامتنا . !
     ومكانها الفاتح صدره لهم .. ففي كل الوطن .. ! وفي كل قلب فيه ..! وفي هذا عزاؤها عن كل أمكنة الأرض التي عزت عليها للفجوة التي لا تزال قائمة بين مرغوبها وممكنها .. ويوماً ما ستردم بالايمان كل الفجوات ..
     إخوتي العائدين ..
  إنها لغتنا اليوم في استقبالكم .. وهي اللغة التي قطفناها ـ كما أردت يا رامز ـ من قاموسكم الذي لا يعترف بالكلام كلاماً إلا إذا قاد إلى الفعل ، أو انبثق  عن الفعل : " من يتكلم يخلق بالضرورة .. أي يعمل .. ".
     في هذا  اللقاء  بكم مهجراً كاملاً ، وبنا وطناً مقيماً، نتسلم طرفي الجسر .. ونتعاهد على دعمه وتخليده بايمان وجدية .. والجسور: استواؤها في رسوخ طرفيها ، وحياتها في الحركة المتموجة المتبادلة عليها..
     بذرنا البذور وجاء دور العرق فلنتقاسم العرق الساقي يا شطرنا ..
     لن نعد أنفسنا بدروب حريرية تمسح على أقدامنا برفق .. كما لن نفترض أمامها الدروب المعفرة المستحيلة لنتراجع متخاذلين.
     ومهما قاومنا الشوك والموت يبق البعيد معنا ، ما دمنا قد دللنا إليه من سيأتي بعدنا ..
  والفكرة المزروعة بذرة خصبة ، لابد فارضة جذور حضورها في الأرض والريح.. والصبابة مهما تكن شحيحة تظل متفوقة على اليباس الغبي ..
   إخوتي ..
 على هذا الجسر فلنعبرغرباء أرض وأبناء حنين وغرباء نفس مقيمين.. فعلية لاغربة ولا عطش ولا ضياع.. وبدفع محبتـه خلق ووفاء ولقاء..
 حمص - نهاد شبوع

   
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق