مجلة السنونو (
العدد الرابع ) -
قصص قصيرة
|
|||
حكمة جدي التي ذهبت مثلاً ( اعتدال
رافع )
|
|||
" أزرق وغميق يا عباس"، قول نسب إلى جدي داوود منذ زمن لا أعيه، وذهب مثلاً للدلالة
على لون البحر، وعمقه. تنبض به الشفاه، وتتفكه به القلوب.. كاما ضاق فضاء الأغنية
والابتسامات.
بعد حرب "السفر برلك"، شحّت الأرزاق، تشققت الخوابي، ونفق الطرش والزرع
والقطط والكلاب (جدّتي أكلت قطتها.. وحذت حذوها النساء، وطبخن يخنة بالبطاطا على
لحم القطط، مدعيات أنه لحم أرانب).
ضاقت البلاد بأهلها، وكانت تلفظهم جثثاً مكومة في "القناية" التي جفّت
مياهها، ويبس طميها، نساء في مقتبل العمر والشباب ينزعن سراويلهن ويقايضن على
عفّتهن وشرفهن بحفنة من الشعير أو الحنطة.. أو كسرة خبز.. وجدي داوود يعصره الألم
من رجولته المهانة لأن "العين بصيرة واليد قصيرة"، يكتفي بإلقاء عباءتَه على
إحداهنّ، ويدعو لهن بالستر. في ليلة ليلاء، عزم جدي داوود مع جدي عباس على السفر
إلى فنزويلا، يحدوهما حلم الشبع، ومرقد العنزة المنتظر. وفي ساحة القرية المتربة،
المحلّقة بأشجار التين والصبار، وأمام دكان عمي عجاج الحلاق، الذي كان يقلع الأضراس
بالكمّاشة، تجمع أهالي القرية لوداع المسافرين، عانقوهما، وذرفوا دموع الفراق،
وألحّوا عليهما أن يكاتباهم، ولا يقطعا رسائلهما كما يفعل كل من يسافر إلى "بلاد
بره".
جدي عباس كان أميّاً، وجدي داوود بالكاد كان يفك الحرف:
ـ اطبعوا لنا شفاهكم على المكاتيب إن كنتم بخير.. وبصماتكم إذا عضتكم
الغربة وعصركم الضيم.
موكب السفر بمؤونته الشحيحة، وصرره المرقعة، انطلق إلى بيروت سيراً على
الأقدام... والمودعون يخفون دهشتهم وفضولهم من قصبة جدي داوود التي كان يجرّها
خلفه، وطولها أكثر من أربعة أمتار!! ترى لماذا يأخذ داوود قصبة معه إلى فنزويلا؟
كثرة الغلبة طبع عليها الإنسان، لأنها السبيل إلى المعرفة... واحتاروا
بأمر القصبة!
عجاج أثلج صدورهم وأرضى فضولهم عندما همس لهم.. وجدي يبارحهم
ويدير لهم قفاه على طريق السفر:
ـ داوود سيصنع من قصبته نايات العتابا والميجانا، ويبيعها في فنزويلا
ويجني الأموال الطائلة، لأن الأفرنج لم يتوصلوا بعد إلى اختراع النايات! صدقوه،
وأثنوا على ذكاء جدي وتفكيره العملي.
في طريق الشوك والمشقّة، وجدي عباس يباعد نبات العلّيق والبلاّن والجربان عن
خطواته، وجدي داوود يلحق به وهو يداري قصبته من التـشظي والإنكسار، قال له عباس:
ـ في فنزويلا لابد من وجود قصبة مثل قصبتك! كأن داوود لم يسمعه، وشفاهه مطبقة على
سرّه الذي سيفصح عنه في حينه، ويسجل بموجبه براءَة اختراع.. مقترنة باسمه!
بعد ثلاث ساعات من السير المتواصل، وصل المسافران إلى الميناء:
جدي عباس كان على عجلة من أمره، سأل عن "البابور" المسافر إلى فنزويلا،
صعد إليه وهو يغلي من الغيظ من داوود وقصبته الملعونة... وداوود كان سارحاً بأبصاره
ومشدوهاً بالبحر، لونه الأزرق، وأفقه الواسع، وأمواجه المتدافعة التي كانت تتكسر
على رصيف الميناء وتغمره بالماء. اغتنم برهة انحسار الموج وتقدم إلى إفريز الرصيف،
وبلمحة خاطفة شك قصبته في البحر.
لم تصل القصبة إلى قعره!!
وصرخ جدي من صميمه كنيوتن:
ـ "أزرق وغميق يا عباس".
كان عمق البحر أطول من قصبته..
نادى على عباس، وضاع صوته في البحر. قفل راجعاً إلى قريته وهو يحسد
نفسه على حنكته ونور بصيرته، التي جنبته أهوال البحر والاختناق بمياهه المالحة التي
لا قرار لعمقها..ويرثي لحال صديق عمره عباس، الذي سبقه إلى "البابور"، وسافر وحيداً
دون أن يترك له فرصة لتحذيره من "الأزرق والغميق":
ـ الله يرحمك يا عباس..
|
|||
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق