مجلة السنونو (
العدد الرابع ) -
رسائل
|
|||
أدب الرسائل ترف أم ظاهرة أدبية؟ (
سميـــرة رباحيـــة طرابلســـي )
|
|||
الإبداع
ضرورة لحياتنا الفكرية وهو مقياس لتقدم الأمم، وهو يظهر في مجالات شتى مثل: الرسائل
الأدبية التي ارتبطت ارتباطاً عاماً بالثقافة لمجتمع ما، وهي جنس أدبي قديم تجلى في
مظاهر الإبداع الفكري والفني، أسهم في إنتاجه بعض الأدباء نذكر منهم: الكاتبين
العبقريين: جبران خليل جبران ومي زيادة اللذين احتلا موقعاً في أدبنا العربي لم
يستطع أحد أن ينافسهما فيه. فجبران ومي تبادلا الرسائل بدافع الاستجابة لما اضطرم
في أعماق نفسيهما من أحاسيس نسجاها من ذاتهما وروحهما بمنتهى الصدق والشفافية
معبّرين ببراعة عن جمال تلك اللحظات، لحظات توقع وانتظار وصول الرسالة ولحظة الفرح
والنشوة لدى وصولها، فجبران يقول: "وأنا يا مريم لا أمزج الشراب القدسي بعصير
آخر...! " وهذه الرسائل تجلَّت فيها مقدرتهما الفائقة في بث مشاعر هذا الحب السامي
الذي تولّد عبر هذه المراسلة الطريفة والتي تضمنت مساجلات نقدية، فكرية، وروحية
ألّفت بين قلبين متوحدين وروحين مغتربين، استطاعا أن يبنيا من هذه المساجلات عمارة
فنية بديعة.
ولدى قراءة هذه الرسائل يدخل القارئ في دائرة الإدهاش حين يعترف أن كلاً
منهما كان يفتش عن روح (شقيقة) تلاقت عبر الرسائل فامتزجت الروحان بعشقٍ أضاف إلى
الحب نمطاً جديداً تخطى حدود الزمان والمكان ليعانق السماء كلها.
جبران أحب (مي) أحب فيها ذكاءها وعقلها النيرّ الذي تجلى في مقالاتها
وكتبها، وأحب فيها جرأتها في تناولها مقالاته بالنقد الموضوعي الجريء، فكتب لها
أحلى الرسائل التي ظهر فيها هذا التوحد فصهرها مع لبنان سبيكة لا تقبل التشظيّ، هي
وطن صغير تمركز في قلب وطنه الكبير لبنان، إذ قدّم "مي" في رسائله بهذه الصورة، فباتت رمزاً للحب الأنثوي الإنساني ورمزاً لحب الوطن.
إنها فلسطينية المولد لبنانية المنشأ والهوية عربية الدم واليد واللسان،
كالدم الذي يجري في عروقه فكان هذا الحب الطاهر الذي جعل كلاً منهما يبحث عن الله
في قلب الآخر، قال لها في إحدى رسائله:
"... الأفضل أن نبقى هنا، هنا في هذه السكينة العذبة، هنا نستطيع أن
نتشوق حتى يدنينا الشوق من قلب الله" كان حبه بليغاً عندما قال : "أنت تحيين فيّ،
وأنا أحيا فيك" وقوله عن نفسه الوحيدة تسبح في "نشوة محاطة بحفيف الأجنحة فالوحدة
فيها ليست بالوحدة، وألم الحنين إلى غير المعروف أطيب من كل شيء عرفته. هي غيبوبة
ربانية يا ميّ... تدني البعيد، وتبين الخفي، وتغمر كل شيء بالنور" ومثل هذا قولها
في إحدى رسائلها : " إن كربة الروح وتباريحها تشتد وسط الجماهير" فمن خيالهما
الفسيح وعالمه المزدهر كانت تتجلى صرخة الحب التي تحلّق بعواطفها الرقيقة الشفيفة
فيغسل النور من روحهما المتواضعة التي تبعث على التفاهم فينطلق قلباهما في سفينة
أحلامهما البهية المترعة بالحب الصافي النقي.
وتشاء المصادفات أن تعيش الأديبة (مي) أغرب قصة حب نشأت عبر القارات وعبر
إعجابها بالأديب جبران بداية بمقالاته ثم تحول هذا الإعجاب إلى حب، فكتبت له رسائل
تضمنت ومضات من الحب الرومانسي على طريقتها المستوحاة من العزلة والوحشة فأحبته
"كثيراً وبحنو ـ كثيراً وبحنو" قائلة أيضاً "هل من شقاء وغربة في غير وحدة القلب!".
كانت الأديبة (مي) الذائعة الصيت آنذاك في المجتمع المصري تعاني من الغربة والكآبة
الروحية بعد أن دخلت في تفاصيل حياة جبران، فكتبت له رسائل وفيها تبرز مقدرتها في
بث مشاعرها العشقية السامية وشفافيتها ورقة أسلوبها وقد ضمنتها ومضات من الحب
الرومانسي على طريقتها الصوفية إذ كتبت له : "... غابت الشمس وراء الأفق... ومن
خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة واحدة هي الزُهرة، إلهة
الحب. أترى يسكنها، كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون...؟ ربما وجد فيها من هي مثلي، لها
جبران واحد، حلو بعيد هو القريب القريب، تكتب إليه الآن والشفقُ يملأ الفضاء..."
هذه الرسائل المتبادلة عبرت عن آراء الأديبين ونمط حياتهما وهي تسجيل
لخطواتهما الهامة في الحياة " إذ كانا ينشدان عطش الحب لا ارتواءه" وهذا ما يفسر
خوفهما من اللقاء وعزوفهما عنه لأنهما كان يحلو لهما أن يرتفعا فوق حدود الواقع
ليحلقا في فضاء القلب. ونظرة جبران إلى الحبيبة تذكرنا بنظرة جلال الدين الرومي إلى
المرأة إذ قال: "ليست المرأة معشوقة، بل هي نور الله".
والحق أن رسائل جبران هي نتاج فني وإبداعي ودليل على نقاء صاف يحدد من
خلالها موقفه من الحب منطلقاً من شعوره بالإنسان وبالكون المحيط به، ومن عمق إحساسه
بالله لأن مائدة محبته كانت مترعة بمواسم بهيجة ومضيئة من رسم شعر، ونثر.
كان يحس بأنه "كالضباب يغمر الأشياء ولكنه لا يخالطها" وقد أعطى رسائله
بعداً كونياً فصارت حدثاً أدبياً معاشاً إذ عبر بجمالية عالية عن عالمه النفسي
الداخلي، العالم الذي يضطرم بمشاعر وأحاسيس تمور بين لقائه بمي " وبعده عنها لتبقى
حبيبته في عالم خياله. كتب لها مرة يعتذر عن لقائها في وطنه قائلاً " الغربة بين
الغرباء أهون من الغربة بين أبناء وبنات أمه".
أما "مي" فإحساسها بعزلتها فقد أورتها الوحشة التي بثتها في كتابتها بألم
شاعري موجع، وقد كشفت رسائل (مي) كذلك تفاصيل إبداعها بأنها كاتبة رقيقة ذكية بالغة
الحساسية والصدق وأثْرت برسائلها الحركة الأدبية في عصرها بعد أن عشقت وتطهرت بنور
الشمس والحب.
فالرسائل عامة بدت لنا في ثنايا حروفها قمةً في ثرائها الفني، وجديدة في
ابتكار صياغتها تشكل مدرسة هامة بسبب بعدها عن النمطية والتقليد، والمتجلية فيها
استحضار وضعهما الحياتي ودلالاته البعيدة في التعبير عن وضع المجتمع آنذاك.
ونخلص إلى القول أن الرسائل كانت أدباً فاعلاً في عصرها منحها "جبران
ومي" من موهبتهما روحاً ووجداناً في نصوص ستظل حية متألقة، أو ربما كانا يحاولان أن
يحسّا بالسعادة ويعيدا خلقها نتيجة غربتهما، فأبدعت مخيلتهما وتلونت ريشتهما بهذا
الألق الرائع وهذا الشغف الذي دفعهما لأن يجعلا من رسائلهما جنة منداة برائحة
الياسمين وبقعة نور تعرش في حياة القراء.
حمص في 20/9/2003
ـــــــــــــــــــــ
المراجع :
الشعلة الزرقاء ـ سلمى الحفار الكزبري ود. سهيل البشروني.
أوراق مهجرية أحاديث ومقاربات، رسائل د. عبدالكريم الاشترر.
كتاب جميل جبر.
|
|||
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق