الثلاثاء، 3 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الرابع ) - من تاريخ الاغتراب - الرواد الأول - تعاملو بقيم القرية والأمركة أوهت الروابط

مجلة السنونو ( العدد الرابع ) -      من تاريخ الاغتراب
الرواد الأول - تعاملو بقيم القرية والأمركة أوهت الروابط ( إسماعيل الصغير )
    
     شكلت أميركا، في أواخر السبعينات من القرن التاسع عشر، عدناً واعدة للكثيرين، الذين رحلوا باتجاه الحلم. وعلى بوابة نيويورك كانت اللهفة تنسيهم متاعب الطريق ومكابدات السفر. لقد رحل معظم هؤلاء الرواد الأول، ولم تبق غير ذكرياتهم، تركوها لأولادهم وأحفادهم، مع ما تركوا لهم من طرق ممهدة وسبل عيش آمنة بل وثروات ومآثر، وما كان ليتم لهم ذلك لولا عصبية جمعت في ما بينهم فتعاونوا، فقد كان الخيار الوحيد أمامهم أن تمتد يد من جاء أولاً إلى من وصل بعده قائلاً له: هاك زاد الدرب، وهذه بداية الطريق. على بوابة نيويورك كانوا يحطون الرحال حاملين على أكتافهم وبين أيديهم صررهم هنا... عالم غريب يضج بألف لون وحركة ولهجة، وهنا يصبح الدليل على مدخل هذا العالم، بمثابة يد تمتد إلى غريق.وهل يُنسى جميل هذه اليد في ما بعد؟.
   أول حاجز كان على المغترب أن يجتازه بعد نزوله من الباخرة، هو مأزق اللغة، إذ تبين تقارير مكتب الهجرة الأميركية العائدة لتلك الفترة أن 53.3 بالمائة من مجموع 47.834 سورياً وفلسطينياً ولبنانياً فوق الرابعة عشرة من العمر، دخلوا بين 1899 و 1910 كانوا غير قادرين على القراءة والكتابة، ويبين أحد التصنيفات الإحصائية لهذه التقارير أن 31.781 شخصاً ما كانوا  يستطيعون أن يكتبوا أو يقرأوا، وأن 153 شخصاً كانوا يستطيعون القراءة من دون كتابة ولا أحد يستطيع أن يقرأ ويكتب معاً.
    لهذا كان وجود مترجم عربي في مكتب الهجرة، يخفف الكثير من الحيرة والقلق عن هؤلاء القادمين، وكان أول مترجم استأجره المكتب هو نجيب عربيلي، ابن الدكتور جوزف عربيلي، الذي جاء باسرته إلى الولايات المتحدة ، عبر نيو اورليانز عام 1878، وانتقلت العائلة إلى نيويورك عام 1881، وبعد إحدى عشرة سنة، في 1892 أسس نجيب بمساعدة أخيه إبراهيم أول صحيفة عربية "كوكب أمريكا" في هذه المدينة، وبعد ثلاث سنوات أصدر إبراهيم كتاباً تعليمياً ابتدائياً إنكليزيا ـ عربياً  لتعليم المهاجرين اللغة الإنكليزية،  يحتوي الكثير من مصطلحات ورسائل الأعمال الأميركية، بالإضافة إلى العادات والأذواق والمجاملات.
     وردة الريح
  وظل نجيب عربيلي يعمل لسنوات، وصار بالنسبة لهؤلاء القادمين البوصلة ووردة الريح يرشد المهاجرين، يجيب عن اسئلتهم، يواسيهم ويقدم النصائح، وعند الضروة كان يضعهم في قطارات تحمل عناوين مقصدهم، ولا يكتفي بذلك، بل يتصل بالأقرباء والأصدقاء ليؤمن وصول القادمين إليهم، وحين كانت تتعقد الأمور ويفقد أحد القادمين عنوان وجهة سيره، لا يتركه في زحمة الضياع، بل يسلمه إلى جالية نيويورك أو يوجهه إلى إحدى فعاليات الجالية أو إلى جماعة من منطقته أو دينه أو أهله. وذاكرة هؤلاء الرواد ما زالت تشير إلى نجيب عربيلي بأنه كان "المعين الشفوق"، وانه كان المترجم الذي تذكره حكايات الآباء مضيفة إلى اسمه الاحترام والتبجيل.  ويقول الياس.ل. الذي وصل عام 1896، في مقابلة اجرتها معه الكاتبة اليكسا نف: "هل تعتقدين إني نظرت إلى خارطة، وقلت إني أريد أن أذهب إلى هذا المكان؟ كلا فلم يكن بمقدوري أن أتفوه بكلمة إنكليزية واحدة، فكم بالحري قراءتها، كان معي أسم سالم بشارة في فورت واين، أريته للسيد عربيلي، فوضعنا في القطار، واستقبلنا سالم".
  وحين كان المهاجر يبلغ ايليس ايلاند ويخطط للتوقف في نيويورك أو أخذ القطار من هناك باتجاه غايته، فقد كان يواجه عقبة أخرى: كان المحتالون واللصوص والباحثون عن اليد العاملة الصناعية أو الزراعية وعملاء مكتب الهجرة الحكومي والهاربون من المآوي وأصحاب عربات الأجرة التي تجرها الخيول، كانوا كلهم يحومون حول القادمين الجدد المرتبكين، وكان في معركة الدهاء بين هؤلاء والمهاجرين رابح وخاسر، لكن لم يكن إلا فواجع قليلة، فقد تعامل القرويون، وكما يحملون من توصيات، بشكل نموذجي مع اغراءات تقديم الخدمات، وكانت الريبة والشك هما ردة الفعل الأولى، ولم يكن من السهل أن يسلموا زمام أنفسهم لأول عرض، وثقتهم لم يضعوها إلا في العناوين التي يحملونها، حتى إذا وصلوا إليها، كانت عدة العمل بانتظارهم: كشة أو محفظة ومجموعة بضائع يتم استلامها من التاجر الموزع.
   القرية والقرابة .
   عند منعطف القرن، كان المهاجرون اللبنانيون المتشجعون قد غطوا البلاد بشبكة من المستوطنات للباعة المتجولين، يقع معظمها في الولايات الشرقية الغربية الوسطى المزدحمة بالسكان، وتناثر الباقي حوالي الجنوب وعلى طول الساحل الغربي، كذلك في وسط المساحات المكشوفة لمنطقة الجبال الصخرية. وكانت معظم هذه التجمعات تتمركز بشكل عناقيد حول المدن الصغيرة والبلدات، عند حواشي المناطق الزراعية وعلى طول خطوط السكك الحديدية.  وكانت الشبكة الوطنية مترابطة بمجموعة من الشبكات الثانوية، التي بدورها ارتبطت بأماكن أصول الباعة المتجولين حيث طائفتهم واقرباؤهم وأهل قراهم، الأمر الذي أوجد نوعاً من التماسك داخل كل جماعة، وبذلك توطدت علاقات القرية والقرابة، بقدر ما كانت كل شبكة ثانوية تجتذب إليها المزيد من الأقرباء والأهل، وتوزعهم بين مستوطناتها. ومن هذه المستوطنات المنشورة اشتق الرواد الأول الشجاعة والقوة كي يطوفوا هائمين على وجوههم أبعد فأبعد، عين على المستوطنة حيث الأهل والعين الأخرى شاخصة إلى الطريق قدامهم.
   ولم تكن المستوطنات هذه مجرد قواعد من أجل إطلاق الباعة، بل زودتهم بمصادر الدعم النفسي والمادي في الوقت الذي هم فيه بحاجة إليه، فتعلموا مبادئ الجوالة، وتقاسموا الخبرات مع الرفاق الذين سبقوهم في القدوم، وما أن تمضى عليهم عدة شهور حتى يكتشفوا أن الذهب الذي سعوا إليه في أميركا لم يكن في الواقع غير هذه الفرص، التي يوفرها الرفاق والأهل للقادمين الجدد. وتدل دراسات أجريت حول الجالية الناطقة بالعربية في فايكسبورغ مثلاً أن الجيلين الأول والثاني من هذه الجالية، كانت تربطهم صلات القربى والقرية، بالمقيمين في جاكسون وهرمانسغيل وغرينغيل وبورت جيبسون وميريديان وناتشز وغيرها من المدن الواقعة على الخطوط الحديدية أو شواطئ النهر، وكذلك مع اولئك المقيمين في ولايتي لويزيانا وتكساس، وأن معظم هذه الجماعات هم ذرية الباعة الجوالين الأوائل، الذين يعود أصلهم إلى سبع قرى في ناحية الكورة من لبنان.
    تعالوا واشتغلوا بالجوالة
  وشكل التاجر الموزع النواة الأولى للمستوطنة، وكان على استعداد دائم لأن يستقبل ويجذب أكبر عدد ممكن من الباعة المتجولين، بل قد يعود أحياناً إلى قريته الأم والقرى المجاورة طلباً لهؤلاء، فيمول سفرهم، ويؤمن لهم الإقامة والبضاعة، وقد يكتب هؤلاء الباعة بدورهم للأهل والأصدقاء "تعالوا واشتغلوا بالجوالة، فنحن نربح مالاً"، وبالطبع، كانوا يأتون إلى نفس العنوان. وهكذا تنمو المستوطنة ويتوزع باعتها باتجاهات متعددة مثل أشعة دولاب العربة، نقطة المحور فيه هو الموزع، الذي يقوم بتسليف الأموال وتدريب الباعة وترتيب إقامتهم،  والاحتفاظ بمدخراتهم وبالتوسط بينهم وبين السلطات المحلية وبكتابة الرسائل إلى الأهل وبتلقي الأجوبة، وبتقديم النصائح والمساعدة لحل الأزمات الشخصية وغير الشخصية.
  وحين يروي الباعة المتجولون الرواد تجاربهم، يعتبرون حتى درجة كبيرة دور الموزع مفروغاً منه، بحيث كان يبدو أنه يتطلب القليل من التمييز، ولا يتطلب أي إعداد على الإطلاق، لقد كان واحداً من الجماعة، ومع ذلك كان يبدو من خلال هذه الذكريات أنه اكبر من أي واحد منهم. وهذا يعني أن أي مستوطنة ارتبط اسمها باسم موزع أو أكثر فيها، وظل هناك الكثير من الأسماء في ذاكرة هؤلاء الرواد كما هي الحال بالنسبة لـ "فورت واين" من حيث هي أنموذج مستوطنات الباعة الجوالين، وارتباط أسمها باسم سالم بشارة مؤسسها من حيث هو أنموذج الموزعين الرواد، والذي تصفه أخت زوجته اليزابيت "كان الجميع يأتون إليه، كان الرجل الرئيس". ويتذكره الذين عاصروه بوصفه "رجلاً محنكاً نشيطاً شريفاً، ساعد الناس من حوله".
   هذه الروابط التي نشأت داخل المستوطنات وعلى طول امتداد شبكاتها، خلقت مزيداً من الألفة والتعاون والتكافل، وسهلت على أعضاء الجالية سبل عيشهم وكسبهم...  وتقول تفيدة .ب. عن تلك الفترة "كان الجميع متقاربين، وكانوا يعيشون بالضبط من أجل بعضهم بعضاً، كانوا يعرفون أن من واجبهم أن يتساندوا".   كان ذلك عندما ظلت قيم القرية الأم هي التي تحكم العلاقات بين الجميع، ومع بدء انهيار عصر الجوالة، بدأت قيمة جديدة تظهر، وعلاقات جديدة تقوم، نتيجة التغير السريع في علاقات العمل، ففيما كانت المستوطنات تفتح الطريق أمام "الأمركة"، لم تكن التغيرات في حضارة المغتربين، في البدء، قاسية وعميقة، غير أن معركة قامت منذ البداية بين قيم الهوية والجذور وبين تيار الاستيعاب، وكان يمكن التنبؤ بنتيجتها منذ البداية، والتي يصفها ادوارد. أ. بقوله" في الأيام الأولى... حين كان أحدهم يحتاج إلى مساعدة كنا نساعده... لم نطلب منهم قط أن يوقعوا على ورقة. تلك هي الثقة. كنا نثق ببعضنا... أما الآن فإن كل ثقتهم هي في الدولار بدلاً من الشرف. لقد فقدنا الشيء الكثير، الكثير جداً ". 
*    *    *

     
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق