الثلاثاء، 3 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الرابع ) - قصص قصيرة - الوردة ( وفاء خرما )

مجلة السنونو ( العدد الرابع ) -      قصص قصيرة      
الوردة ( وفاء خرما )
    
     قال لي حارس المقبرة الأعمى : " يوم أمس وأنا أطوف في القبور استوقفتني الرائحة. رائحة حقل من الورد الجوري . كان هذا تماما حين حاذيب قبر أبيك ! ألا تصلك ، اللحظة هذه الرائحة ؟ أحس بقاياها مازالت عالقة بلحمي وحين استحميت تصاعدت مع كل رشقة ماء رشقت بها جسدي أنفاس الورد الجوري لكأني اسكب هذا الماء على زجاجة عطر كبيرة ! زوري  يابنيتي قبر أبيك ... لاتهجريه ! "
اشتعلت البروق . هدر الرعد . انسكب المطر وما أن وضعت رجلي على أول الطريق الترابية المنحدرة إلى قبر أبي حتى تأكد لي أني أغوص في  وحل زلق .   خرجت من المقبرة ودموعي تسابق أمطار السماء !
*****************
أمام قبر أبي رأيت أوراقاً ملونة وكؤوساً خضراء عارية وسيقاناً مقطعة للورد الجوري ظللت قبر أبي شجرة وارفة . استندت إلى جذعها غارسة عيني في بقايا الورد .
أحسست بالخطوات البطيئة المقتربة للحارس الأعمى .
قال وهو يرسل عينين جامدتين في الفضاء :  - ألم تريها ؟    
                                              - بلى ... رأيتها
سكت لحظة ليقول في لهفة : ولكنك لم تريها بعد !
ركع إلى جانبي على التراب الرطب . أزاح بكفه بقايا الورود المتناثرة فوق القبر وقال: " انتظري!"  حدقت دافعة بجذعي إلى الأمام . هناك رأيتها في قلب لوح الحجر الأسود الرابض على فوهة قبر أبي.  وردة جورية حفرت تويجاتها فيه عميقاً ، متفتحةً في بهاء، مشرئبة بساق تطلق أوراقاً تحيط بها كما الوصيفات بالملكة !
هممت أتلمس الوردة الحجرية . أمسك الأعمى بيدي . أبعدها . قال وهو ينهض : اذهبي وفتشي عن هذه الوردة ولا تعودي إلاّ بها !
*******************
امتلأت الدكان بالأزهار والجرار الفخارية الملونة ، والأحواض الصغيرة وشلالات الماء الصناعية، لكنها لم تكن هناك !
صعد بي سلماً إلى السقيفة حيث بدت نباتات الزينة كغابة مصغرة .. لكني لم أعثر عليها... أدرك البائع ما أريد دون أن أنبس بكلمة كما لو انها رسمت على وجهي أومأ إليّ لأتبعه . نزل بي عبر سلم مظلم..  أخرج رزمة مفاتيح أمام باب حديدي . فتحه. دعاني بإشارة من يده إلى الدخول . نزلت من جديد بضع درجات .
أية حديقة أنا في قلبها !
ملأت حيز الجدار الغربي اصص القرنفل . الحائط الشرقي تسلقته عناقيد المنثور أمّا ذاك الشمالي فقد ازدحم بأزهار فم السمكة ، وقبل أن أستدير إلى الجهة الجنوبية كنت أعرف اني سألتقي بحرش صغير للورد الجوري !
نعم ... هناك انتصبت قدوده الممشوقة متوجة بكل الألوان ، يخترق عنفوانها الفضاء !
رفعت رأسي وأجلت النظر .. رأيت البئر والأبواب الخشبية العتيقة والشبابيك التي حال لونها وصدئت قضبانها الحديدية المشدودة خلفها .. رأيت بيتي .. هذا بيتي .. الدار القديمة . التي صارت الآن برجاً بعشرين طابقاً . كيف يحدث أني أراها الآن ؟ كيف ؟
***************
أين الرجل ؟ الرجل البائع الذي دخل بي إلى هنا ؟
قفزت عيناي إلى الباب الحديدي . خطوات في الهواء يندفع بها جسدي نحوه لأكتشف أنه مغلق بالمفتاح !
***************
برودة ! أحس الهواء يشحن بالبرودة .. أتكوّر . يشتد التيار البارد . أنا في  ثلاجة .. لابد أن الرجل البائع أعلى المكان ، أوصل التيار الكهربائي إلى ثلاجة حديقته هذه . أتجمد مع الأزهار ... أنقل جسدي الثقيل باحثة عن قاطع كهربائي ... تسطحت المساحات كلها خلف غابة الأزهار والورود .... لا أثر لقاطع !
بالبطء والانحناء الذي يتحرك به الإنسان الأول شبيه القرد ، تحركت نحو ورودي الجورية.
ضممت إلى صدري حملاً صغيراً منها . خزت لحمي وريقاتها المتقرنة برداً . انتزعت بجهد هائل رجلي المتجمدتين لأخطو نحو الباب وكأني أجر أثقال العالم !
أقف أمام الباب المغلق . أمد يدي إليه . أنغرس في الأرض كتمثال من طين . أرى عين البائع تراقبني من فتحة صغيرة في الباب .
ابتسمت العين حالما هويت مع حملي الوردي متحطمة إلى أجزاء .
ابتسمت ثانية قبل أن يضع صاحبها قناعاً فوق وجهه .
كان القناع لوحاً حجرياً مستطيلاً حفرت عليه وردة جورية .
من خلف القناع حدقت في الفراغ ، بجمود مطلق ، عينا حارس المقبرة !
****************

     
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق