الخميس، 29 أكتوبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - حمصيات عتيقة - معتصم دالاتي

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - حمصيات عتيقة
معتصم دالاتي
   حمصيات عتيقة                                   De vieilles traditions homsiodes
لكَن الغسيل
      قبل دخول الغسالات الأتوماتيك منازلنا ، وأيضاً قبل الغسالات الكهربائية ، كانت ربات البيوت يغسلن الثياب بأيديهن ، وكان يوم الغسيل يوماً مشهوداً ، تتفرغ فيه الأم وبناتها وكناتها لتلك العملية ، فتسخين الماء يتم بطناجر النحاس على بابور الكاز وربما موقدة الحطب ـ فتلك موجودة في كل منزل ـ والثياب التي بحاجة إلى غلي ، يتم غليها بواسطة برميل صغير ، أو ما شابه ، أما عملية الغسيل اليدوية فكانت بواسطة طبق نحاسي مستدير يدعونه (لكَن) بتشديد الكاف تلفظ الجيم باللهجة المصرية .
     في ذاك الزمن الغابر الهادىء الذي هو ما قبل منتصف القرن الماضي ، كان الناس يعيشون بساطة الأشياء ، فلا هَمْ ولا غم ، فالحياة سهلة ليس فيها الكثير من المتطلبات ، ويكفي تدبير ثمن الخبز ، وبعض الإدام ـ أي ما يؤكل مع الخبز ـ بالإضافة إلى الحاجيات القليلة ، فلا فواتير ماء أو كهرباء أو هاتف إلا بالحدود الدنيا لمن كان يمتلك في بيته مثل أو بعض ذاك الترف الذي لم يكن يشكل ضرورة كبيرة.
      وأيضاً لم تكن معرفة القراءة والكتابة بالأمر الشائع ، فإن وصلت رسالة إلى أحد ، فلربما يوجد في الحي شخص يستطيع فك طلاسم حروفها يلجؤون إليه ليؤدي تلك الخدمة .
     قصدت أم مصطفى جارها معلم الكتاب أبا خليل ، وقالت له : يا جارنا أبو خليل ، متعودين على  إحسانك . الله يوفقك بدي إبعت مكتوب لمخدومك مصطفى ، كانت تلك عبارات الأدب التي تصدر في حالة طلب خدمة من أحد .
     تناول أبو خليل الريشة ، وغمسها في المحبرة ، وبدأ بالكتابة على الورقة ما يعادل ثلاثة أو أربعة أسطر من محفوظاته ، تلك هي الديباجة أو المقدمة التي لابد منها في بداية كل رسالة .
     ـ نعم يا أم مصطفى ، ماذا تريدين أن تقولي لمصطفى في المكتوب ؟
     فذكرت بعض الأشياء ، وكان ابنها هذا يعمل في إحدى المدن السورية .
     وتابعت أم مصطفى : أكتب يا أبا خليل لمصطفى أن يبعث لي مصاري لأشتري " لكَن" للغسيل، وهنا أسقط في يد شيخ الكتاب ، وحار في كيفية كتابة هذا اللكَن ، فإن كتبها بالكاف فسوف تقرأ لكن، وهي حرف مشبه بالفعل من أخوات إن ، وإن كتبها بالقاف فسوف تقرأ لقن ، وهذا ما لا معنى له، فقال لها:  يا أم مصطفى ، سوف أعيرك لكَن الغسيل الذي عندنا ، وعندما يعود ابنك من السفر اطلبي منه أن يشتريه لك، فبدأت أم مصطفى بالدعاء لأبي خليل، ثم تابعت: أكتب له: جارنا أبو خليل الله يوفقه عارني  لكَن الغسيل ، وعندما ترجع بالسلامة أريد منك أن تشتري لي لكَن جديد، لأني والله أتعب كثيراً من الغسيل من دون لكَن …وهنا ثارت ثائرة شيخ الكتاب وقال لها : أنا ضْرْبت على قلبي وأعرتك   لكَن الغسيل لأتخلص من كتابته ، فتطلبي مني أن أكتبه لك ثلاث مرات بدل المرة الواحدة ؟!
     وكم كانت المفاجأة مدهشة لأم مصطفى بأبي خليل شيخ الكتاب الذي يكتب كل شيءٍ ، ويتحاشى كتابة  اللكَن ، مع أنه كتب لها أشياء أكبر حجماً من اللكَن وأكثر أهمية منه ، بما في ذلك الحجابات بأنواعها ، ولم تعرف أم مصطفى أن أبا العلاء المعري الذي تفاخر بأنه سيأتي بما لم يأت به الأوائل، قد أعجزه غلام صغير حين تحداه في أن يأتي بحرف واحد زيادة عن الأحرف الثماني والعشرين التي أتى بها الأوائل .. فأسقط في يد أبي العلاء رحمه الله .
     ترى ألم تكن أم مصطفى رحمها الله هي وبنات جيلها من جداتنا وأمهاتهن أكثر سعادة وراحة بال من نساء هذا العصر، بالرغم من أنهن أي القدامى كن يقضين يومهن كاملاً وراء اللكَن من أجل الغسيل، وسيدات هذه الأيام يقمن بمعظم أعمال المنزل بكبسة زر؟ ومع ذلك لا يكففن عن النقيق؟ وهذا ينطبق علينا نحن الرجال، فنحن أيضاً لا نكف عن الشكوى والتذمر.
     ترى هل الخلل من الزمن، أم من أهله ..
     سبحان العليم .
 
     
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - خاطرة Pensée suggestive - خاطرة ( ريما صيرفي )

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - خاطرة Pensée suggestive
خاطرة ( ريما صيرفي )
              
إرهابيّة في قبرص !
            في المطار القبرصي ، كنت العربيّة الوحيدة التي دخلت الترانزيت ، للسفر الى باريس عبر إحدى الخطوط العالمية التي دعتني على متنها ، لتسجيل انطباعاتي حول خدماتها وسلامتها الجويّة .
أذكر أنّ حجم حقائبي كاد  يفوق حجم قامتي (لناحية الطول والوزن!). ولمَ لا ؟ طالما أنّ الشركة التي دعتني نوّهت بأنّني ضيفة فوق العادة في الدرجة الأولى ، فيحقّ لي بذلك "شحن" بيتي إذا أردت (!) ، وذلك من دون أي مقابل ! …
وعندما علمت الصديقات بأنني قادرة على شحن أيّ وزن زائد ، مجاناً ، سارعن إلى تحميلي الأكل والهدايا لأقاربهنّ في فرنسا ، وكأنّ هؤلاء سيموتون جوعاً في عاصمة النّور والحضارة والديمقراطيات… كل المؤونة اللبنانية صارت في شنطي : من كشك بلدي ، وبن مطحون، وزعتر برّي ، وزيت زيتون أصلي ، ولبنة ماعز ، ومربى المشمش ، وتين مجفّف ، وبزورات شكري حماصني ، وحلويات البابا (والماما) !…
وكادت جارتنا أن تحملّني "طبخة غمّة" لإبنها طالب الطبّ النحيل ، ولكنّي اعتذرت منها "Sorry . طانت ، صناديق الشحن بالطائرة خالية من البرّادات!" …
ثمّ حضرت إحدى الصديقات وهي تنتقد الناس كيف أنّهم يرخون بثقالتهم على المسافر "المجّاني" فيحملّونه فوق طاقته . ولم تكن أفضل من هؤلاء عندما قالت لي : " مسكينة جارتنا "أمّ غابي" ، تريد أن ترسل معكِ لابنها غرضاً صغيراً " . قلت : ما هو؟ فأجابت: "منقرة(1) كوسا !" . صعقت. ماذا ؟!…منقرة كوسا ؟!وهل يجيد "موسيو غابي" في بلاد الـ Tour Eiffel نقر الكوسا ؟!.. أو حشو الكوسا ! .. فليأكل الكوسا مسلوقاً ، أو مطبوخاً مع "الغراتان"! ولكنّ الصديقة أخجلتني بإصرارها المهذّب : "ماعليش،  غرض خفيف ونظيف ، ضعيه في حقيبة يدك!" …
وضعته في حقيبة يدي العملاقة ، ونسيته . عندما وصلت إلى قسم مراقبة الحقائب على الكمبيوتر ، تغيّر لون شرطية الأمن القبرصيّة ، فزمّت شفتيها ، ودوّرت عينيها ، وبحلقت في الشاشة أمامها ، وتمتمت كلاماً بالقبرصي ، ثم قالت لي بالإنكليزية : "افتحي الشنط". وفجأة تحلّق حولي رجال الأمن القبارصة ، ورصدوا حركات يدي ويدهم على خصرهم (أو على مسدساتهم!) . استغربت ما يحصل ، ولكن الشرطيّة "العفريتة" اختصرت الموضوع ، وقالت بلهجة البهدلة والتأنيب : "لقد وجدنا معك آنستي سلاحاً قاتلاً!" ، وأخرجتْ من حقيبة يدي "منقرة الكوسا " !!.
غرقت’ في ضحك انتشرت أصداؤه في كل أرجاء المطار ، فيما المسافرون حولي مندهشون لما يجري . ولإصلاح الموقف ، وإزالة سوء التفاهم ، رحت’ أشرح للشرطية مزايا منقرة الكوسا في الطبخ اللبناني . وترجمت’ اسم المنقرة إلى Pumpkins Curver   . فتعجبوا لهذه الآلة التي تدرج في خانة الأدوات المطبخية ، وتعجبّوا أكثر عندما أخبرتهم بأننا نتخلّص من لبّ الكوسا لنحشوه أرزاً ولحماً ! وحاولت أيضاً أن أعتمد الومى(2) باليدين لتفهم الشرطيّة تحديداً معنى " نَقَرَ ينقر’ نقراً" حبّات الكوسى الصغيرة !..
وبعد ساعة طبخ مع "الشيف ريما" كدت أن أفوّت بسببها موعد طائرة باريس ، وعدْت’ كلّ طاقم جهاز الأمن في مطار قبرص ( خصوصاً بعد أن لاحظت بأنّ كلامي عن الكوسا أثار شهيّتهم)، بأن أرجع من باريس وفي يدي طنجرة "كوسا محشي" تمرّن على نقرها "موسيو غابي" بمنقرة أمّه الشهيرة التي كادت أن تلبّسني زوراً تهمة " عربيّة ـ إرهابيّة " في قبرص !
  ملاحظة مفيدة : " أفضّل الباذنجان على الكوسا … منذ تلك الحادثة " !! .
(1)     محفارة كوسا
(2)     الإيماء والإشارة

 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - جسر الرسائل والذكريات - نهاد شبوع ( حوار عبر البحار )

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - جسر الرسائل والذكريات
نهاد شبوع ( حوار عبر البحار )
     جسر الرسائل والذكريات                      Pont des lettres et des souvenirs
.. هكذا هنأ الوطن المقيم يوماً الشاعر المهجري المرحوم زكي قنصل بمناسبة فوزه بجائزة "ابن زيدون" عام 1988
        شاعرنا الأثير:
     للتّو يسعفني الفرج مما شدّ على عنقي بأمراس (1) ، وللتو أراني في حل ٍ من لغة الحزن والعزاء وفي التحام مع لغة الفرح والخلاص تغسل عني صدأ القلب وقتاده ، وإنك الأعرف بيباس ٍ يعتري القلب كلما سقط في الحلبة فارس ، وكلما غاب وجه أعرفه ـ أو لا أعرفه ـ عن هذه الأرض والسماء ، وإنك الأعرف كم يخنقني الموت ويخرسني ، وكم يمرضني ويرمضني أن يكون لأشيائنا ـ كل أشيائنا الحلوة ـ نهايات !!
      أما وهذه هي الحال .. فهل تستغرب أن يتعدى القلب الضعيف عصف خبر رحيل شقيقك الذي علمته بأسف .. من رسالة الأخ رامز (2) الى جريدة (حمص) ، لينسى القلب دمعة أو دمعتين ـ أو يتناساهما ـ مغلباً عليهما أخرى لا تحمل معناهما استدعاها الخبر المرافق : خبر فوزك الكبير
( بجائزة ابن زيدون) الذي نشرته أغلب صحف الوطن المقيم بفرحة واعتزاز قوميين جهيرين ؟؟
      هل تستغرب أن يؤثر شراعي نهرَ الفرح المخلّص ، فأنساح في تياره ، وأهزج مع قومي ووطني ، واتجاوز الموت بالحياة ، وعليه أفوز أنا الأخرى ؟
     أهزج مع قومي ووطني ! أجل .. إن الفرح غلاب دوماً .. والشعر والشاعر ـ معاً ـ لنا .. لنا ..!! بل في حال كهذه يصبح الفوز من نصيب الوطن أكثر من كونه نصيب الفائز .. لأنه يكون صك أعتراف بحقيقة نبوغ وإشعاعة تاريخ وعبقرية حضارة ، والفائز يصبح وطناً كبيراً ممتداً مغتبطاً بمعاني عطائه مشرعاً باباً واسعاً، عبره يدخل مؤمنون جدد مرحلة الانتماء الواضح لذواتهم ولأرض جدودهم وآبائهم ، بل يصبح الفائز المهاجر عائداً قريباً ، في كل زاوية ينزرع له حضور ، وعلى كل لسان يشمخ له ذكر . مَنْ لم يعد بأجنحة الحديد والطائرات عاد بأجنحة الحنين والعطاء .. بأجنحة الحب والولاء ..!
           شاعرنا الأثير :
     إذ أعترف أمامك وأمام الملأ بأنني أخذْت’ بدخولك ملكوت العطاء الانساني الأرحب بأكثر مما أخذت’ بدخولك حلبات الشهرة الباهرة ، التي طالما فيها حللتَ ، ومن غارِها قطفت، فأنني لأهنئك بدخولك ذلك الملكوت الأقدس . . . لا بالغار المقطوف، وأهنىء نفسي وكل من يتوجس معي يأساً بأنه لا يزال الذوق بخير ، والتقدير بخير ، والقيم بخير ، والزمن العربي بخير ، وأنه لا يزال هنالك من يأبى أن يشهر أمام وجه الحقيقة سيفَ قهر ، وأمام وجه الزيف والبطل وسام نصر ، ومَنْ يأبى أن يجرّح بالشوك والمسامير يداً امتدت الى الجموع بعطاء بل من يرفض أن ترتد هذه اليد بغير الجوزَ والسكر والوفاء .!
      وألهث برحابة ! إذ لا يزال يقوم ـ بيننا وبين تراكم البشاعة في نفوسنا وجفاف ينابيع الايمان في داخلنا ـ أمداء وأسوار ، وأنه لا يزال بمقدورنا أن نفرح ، وأن نسند رؤوسنا المتعبة على صدر الشعر ، ننتصر به ، ونشكو إليه ، ونصلي له كي لاتنهار دولته ، وكي لا تموت عصافير الحب فيه برصاص المصلحة والمادة الهازئة . ونرجو ..
      نرجو أن يظل الوحي’ والروح’ مستمرئين السكنى في أجفان أرض حلولنا الطيب ، يضرمان الدفء حولنا ، يجنباننا زمهرير التفاهة والحسد ، ويقربان ملكوت الله إلينا ، يعلماننا كيف نلج العالم مرة أخرى عن طريق قلبه وانسانه لا عن طريق قلاعه وحصونه !
           أيها الشاعر العظيم :
     أن تتفتح لك أبواب الأندلس على مصاريعها ، وأن تستقبلك عرائش الياسمين في فسحات دورها العربية ـ مرة أخرى ـ أمر ليس من الغرابة في شيء : فبالأندلس يربطك ألف سبب ونسب ، وهي على الأقل لن تنسى أباً ، كان أيضاً أباك ، ولن تنسى وشاح حضارة منسوجاً بخيوط الزمن وخيوط القلب ، ألقاه يوماً هذا الأب على كتفها وكتف تاريخها ، ووكل بمثله إليك ـ خلفاً مفضلاً ـ تنسجه الآن بحروف حبك وضوئك وتلقيه على آفاق الانسان !! كما أنها لن تنسى قيثاره الشرقي الحنون الذي منه تعلمت كل جداول الأندلس وأغصانها ونسيماتها وعنادلها أحلى تواشيحها الأندلسية ورقرقات أغانيها الشجية .. بل لا تزال هذه الأندلسُ الحافظةَ الأمينة لكل خفقة من خفقات أنفاسه ولكل نبضة من نبضات قلبه ولكل إيقاع من إيقاعات جياده العربية المطهمة في كل مدينة أو قرية أندلسية مستريحة على سفح جبل ، او مستلقية على صدر بحر ، وفي كل دمعة من دموع بركة عربية ما اصاب وشلها وناء ، وفي كل نسمة عذبة في (الزهراء) اعتلت إشفاقاً على آلاف المبعدين المدنفين كابن زيدون، وما زالت الى الآن معلولة بحرقة الأشواق !!
      هنيئاً لك أن يوكل إليك كل ذاك .. هنيئاً أن تنبض عبرك شبكة’ شرايين متداخلة لعلاقات تاريخية عريقة ابتدأت منذ أن احتضنت قرطبة وهجَ دمشق وروح دمشق وملامح دمشق وعانقتها حتى امتزاج الدم بالدم .. وشكراً ( للمعهد العربي الاسباني) يوقظ ذاكرة التاريخ بسنابك شعرك الأصيل ، فتنهض الحضارة العربية مزهوة وقد استعادت صحتها ونشطت دورتها الدموية .
      أيها الشاعر الكبير
       كلنا ـ عبرك ـ مكافؤون .. كلنا بك وطن ممتد وراء البحار .. يصنع أندلساً اخرى .. وينسج حضارة اخرى ومنارة تاريخ اخرى ..!
        خذ من تحياتي المقطوفة من القلب ـ أيضاً ـ كتهنئتي ، وزع ِ منها للسيدة قرينتكم
(أم عمر) وللعائلة الكبيرة .. ومنها لا تنس رامزاً وسائر إخوتي واخواتي في (ندوة الأدب العربي)
و(المعهد العربي الأرجنتيني) الذي كرم وطننا فيك واسلم .   
       (جواب الوطن المهاجر)   بقلم : الشاعر المهجري الكبير

زكي قنصل

      الأخت العزيزة : نهاد ..
      أغلى من الجائزة التهنئة ، رسالتك الحلوة تنتقل بين أناملي وعيني كأنها كرة نور وعطر أرسلها لي القمر . كيف أشكر الحياة ؟ لقد أعطتني أكثر مما أستحق .. وكيف أشكر الشعر ؟
      أين الذين يقولون إن الشعر في حالة احتضار ، وان ايامه اصبحت معدودة ؟ يقولون : " علماء’ الاجتماع ( أو لا أدري مَنْ ! ) يؤكدون ان التطور العلمي يجرف امامه كل قيم الجمال ، وأولها الشعر " . ويزعمون : ان الشعر كان له هيبة وحرمة يوم كان العلم في اقماطه ، اما في هذه الأيام فالقارىء لم يعد يفتح الجريدة على الصفحة الأدبية ، بل على الأنباء اليومية العابرة ويتتبع باهتمام اخبار الفتوحات العلمية .
      وقد يضيفون ـ مثلاً ـ ان ارتياد القمر اليوم والمريخ غداً قد استأثر باهتمام العالم وكان مدار أحاديثهم وتعليقاتهم في البيت والشارع والمقهى ، والولد الصناعي ـ إذا صحت التسمية ـ كان له نفس الشأن واستحوذ على الخواطر ، وكل هذا صحيح ، ولكن الصحيح ان مصير الفنون الجميلة الى زوال ؟
      في تقديري أن هذه المزاعم لا صحة لها ، فالانسان ما يزال يطرب للكلمة الحلوة ويهتز للنغمة الشجية ويقف بخشوع امام اللوحة الجميلة . وإلا فما معنى ان تباع لوحة المصور الهولندي بملايين الدولارات وتستمر المطابع في كل انحاء العالم بإصدار الكتاب المقدس ومؤلفات جبران ؟..
      إن خارقة الوصول إلى القمر استولت على العقول ، ما في ذلك شك ، ولكن الموجة ما لبثت أن انحسرت وعادت العقول سيرتها في تلمس مواطن الجمال و (الولد الصناعي) كان موضع اهتمام البشرية ، ولكن هذا الاهتمام ما عتم أن خبأ شيئاً فشيئاً حتى قارب الزوال ، وعاد القارىء العادي ـ والبشرية كلها هذا القارىء ـ إلى ما كان عليه من العدو وراء أخبار الممثلين والشعراء والرسامين والمطربين ولاعبي كرة القدم !
      وسوف يكتشف العلم ألف خارقة وسوف يقلب الانسانية من حال الى حال ، ولكن مادام في الكون قوام يتثنى ، وعصفور يتغنى ، وزهرة تتضوع فلن تستطيع قوة ان تزحزح الشعر عن عرشه الجميل الخالد .
      سعيد أنا بعاطفتك الأنيقة وكلماتك المشرقة يا نهاد وفخور أنا بأن هذه الجائزة أثارتك لكتابة هذه القطعة الخالدة من البيان المشرق الزاهي فكيف أشكرك وكيف اعبر عن شعوري ؟
      لك تحياتي فاغترفي منها ووزعي على الأصدقاء واحداً واحداً .
(بعد المطر الأول …)
       وَطني :
بإيعَازات الأشوَاق خفقت أقدَامُ السُعداءِ العائدينَ في أزقّتكَ الضّيقة، وَبدَفع اللّهفة والحَنانِ دَقّوا عَلى حجَارتك.. فانفتح لهُم شطرٌ من عُمُرٍ مَدفونٍ وَذكرى مقيمَة ..!
وَعَبقت أرضُنَا بالحَيَاة وَحَفلت بكل مَاهُوَ خَيرٌ وَجَدير، هَكذا بعد المطر الأوَل تعبقُ الأَرضُ بالحَيَاة وتفرَحُ بعُمقٍ وَدَمعٍ كأمّ كبيرة ..!
 نهاد شبوع

(1) اقترن خبر فوز الشاعر بالجائزة بخبر موت شقيقه جورج قنصل .
(2) الأستاذ رامز شقرا مراسل جريدة حمص من الارجنتين .
 
   
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - أبحاث مهجرية Essais de l'émigration الوطن الغائب - الحاضر

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - أبحاث مهجرية Essais de l'émigration
الوطن الغائب - الحاضر ( المغترب اللبناني الأول : أنطونيوس البشعلاني ) الدكتور: فيليب حتي

* قصة كفاح عصامية العربي وطموحه في سبيل الحرية والعلم والنجاح مقرونة بالأخلاق

·   سيرة حياة اللبناني الغائب ـ الحاضر … أمس واليوم وغداً … تجسدها حياة أنطونيوس البشعلاني

 * بين صليما وبيروت تعريب المؤرخ الدكتور فيليب حتي
 من هو هذا الفتى الذي ظهرَ في سماء المهاجر الشرقية كنجم ساطع أو كشهب ثاقب ما لبث أن لمع حتى اختفى؟ من هو هذا الشاب الذي قضى بين الأميركان عامين غير كاملين فأحرز ثقتهم واصبح موضوع اعتبارهم وإعجابهم . بحيث شيدوا له ضريحاً وكتبوا فيه كتاباً ؟ من هو هذا الرائد الذي اكتشف أميركا ووطئت أرضها قدماه قبل أن درى جمهور اللبنانيين بوجودها ؟ ما اصله؟ وفصله وكيف نشأ وتربى؟
  بين أحراج الصنوبر في أعالي المتن من لبنان بلدة صغيرة تدعى صليما. في هذه البلدة عاشت عائلة حرفتها تربية شجرة الزيتون والعنب . في الثاني والعشرين من شهر آب لعام 1827 رزقت العائلة طفلاً نشأ كسائر أبناء القرية في الفلا وتحت الأشجار . وعلى ضفاف الساقية وبين الصخور. ذلك هو أنطونيوس البشعلاني . وسط هذا المحيط الطبيعي الفخم تفتحت طيات دماغ أنطونيوس . من صخور لبنان استمد الحدث صلابته واستقلاله الفكري. ومن نسيمه اكتسب رقة المشاعر ولطف المعشر . وتشبهاً بزهوره العطرة فاح أريج صفاته. وهناك لأول مرة أحس بوجود قوة إلهية وراء الكون وفوق الكون تدير الكون . وكان ذلك الإحساس يقوى فيه بتكرار الأيام إلى أن تمكن منه بكليته وجعله آلة بيد محرك الوجود ومهندسه الأعظم .
 لم يكن صبا أنطونيوس صافياً خالياً من السحب السوداء كما هي الحال أيام الصيف في سماء لبنان التي ترعرع تحتها ، الفتن عام 1837 كان من نتائجها احتراق بيت والده وتدمير كرومه التي اعتاش والعائلة منها. ففرّوا جميعاً إلى أوّل مكان آمن حملتهم إليه أقدامهم إلى قرية في جوار بيروت،آسفين على مروج خضراء وينابيع رائعة ورياض كانوا فيها يمرحون ويسرحون .
 ولم تكن تلك الحادثة خاتمة أحزانهم . على اثر الفرار توفّي الوالد في صليما في 5 آب سنة 1839 وقام ابنه الأكبر مقامه بتحمل مسؤولية العائلة . فتوجه إلى بيروت حيث توفق بالاستخدام عند قنصل إيطاليا . أحرز انطونيوس ثقة القنصل ورافقه لأزمير ولجزر عديدة في البحر المتوسط ..
 استمر أنطونيوس في خدمة القنصل حتى إذا انتهى عام 1850 وطد العزم على مباشرة مهنة الترجمة للسياح الذين كانوا يؤمون الديار المقدسة . وكانت وظيفة الترجمان عبارة عن تهيئة وسائل النقل للزوار الأميركيين والأوروبيين وإمدادهم بالمأكولات والخيام وهدايتهم إلى اسهل الطرق وأأمنها مدة تجوالهم في لبنان سورية وفلسطين . وكانت بعض سفرات أنطونيوس تتناول الاسكندرية ووادي النيل .

*… إلى أميركا

 احتكاك أنطونيوس مع السياح الإنكليز والأميركان وأكثرهم من الطبقة المثرية المهذبة وسع أفق بصيرته وشدد فيه الميل لاكتساب المعرفة ولزيارة بلاد المغرب . وجعل له بينهم أصحاباً كان لهم على تكييف مستقبله تأثير كبير ومن جملة هؤلاء الأصحاب رجل من ذوات نيويورك تحدث عن أنطونيوس قال :
أول مقابلة مع أنطونيوس كانت في صباح بديع من أيام تشرين الثاني سنة 1852 وذلك في دار لوكندتنا في بيروت حيث كان يبيع كتاب ترجمه من العربية إلى الإنكليزية . كنا يومئذ على أهبة السفر إلى مصر وكان أنطونيوس من المستخدمين عند ترجماننا. حالما تسنت لي معرفته واختباره أيقنت انه يمتاز عن غيره بشهامته ونشاطه وبسلامة طبعه وذكائه وبعدم احتفائه بالكسب والدينار . أما تفانيه في سبيل الواجب فكان بينا واضحاً في كل ما يعمله . لم يكن أنطونيوس في ذلك الحين يحسن الإنكليزية بل الإيطالية التي لم نفهمها . على انه كان يتكلم لغة يفهمها الجميع ، هي لغة المحبة، لغة القلوب .
وأني لم أزل اسمع صوت ضحكه وقهقهته يرن في أذني واشخص رقصته الشرقية في حلقة من المتفرجين هو مركزها ولم اذكر أني رأيته أبداً غضبان . وكان أنطونيوس يختلف عن غيره بأنفته واستنكافه عن طلب (البخشيش) وغاية ما كان يطلبه كتاب توصية .
 حلم أنطونيوس بالعالم الجديد وراء البحار ونفسه الحرة الأبية تاقت للتملص من قيود القديم والتخلص من تقاليده فحول مقتنياته إلى نقود بلغت قيمتها نحواً من ثلاثمئة ريال وحظي بمقابلة إخوته للمرة الأخيرة ، أما والدته فضنت عليه بكلمة الوداع ، واقلع من بيروت في شهر آب سنة 1854 وإذ كان المركب يسير بازاء الشاطيء اللبناني كان فتانا ينظر بعيون ملؤها الدموع إلى الأكام المجللة بأثواب الصنوبر والزيتون حيث قضى ماضيه . والى القرية التي دفن فيها أباه ميتاً وأمه حية . والى المدينة التي استنزف فيها عرق جبينه دون تحصيل رزقه . أبحر على رجاء العودة لخدمة البلاد بلاده وأبنائها واخوانه . ولم يدر ما كنزته له الأيام في مستودعاتها .
 نزل في مدينة بوسطن في شهر تشرين الأول سنة 1854 وكان من أمره في الولايات المتحدة ما كان . لم تطل إقامة أنطونيوس في أميركا فأقلع في بحر اكبر من المحيط . إلى عالم أوسع من العالم الجديد . وألقى عصا الترحال على الجانب الآخر من الأبدية . بعد أن دون اسمه في قلوب العديدين من أصحابه . وطبع صورة أخلاقه في صدورهم . وخلد ذكره في صحفهم لطيفاً ، وكان شجاعاً وكان متقداً بالغيرة على نفع مواطنيه .
 وإن صح أن الحياة تقاس بعرضها لا بطولها ، فيكون وهو ابن التاسع والعشرين ربيعاً ، قد عمر اكثر من الآلاف من أبناء جيله الذين عاشوا للستين والسبعين . وجمعوا ما جمعوه من المقتنيات والأموال . أما اليوم فليس من يدري باسمهم أو يحفل بذكرهم . فكأنهم لا عاشوا ولا ماتوا . حقاً ان معظم الناس يزول ذكرهم بزوالهم أما ذكر أنطونيوس الصديق فإلى دور ودور .
 * بالزي الشرقي في أسواق نيويورك
في عصارى أحد أيام تشرين الأول من سنة 1845 بينما كان تاجر أميركي في نيويورك مكباً على عمله في مكتبه فتح الباب وإذا بشاب بالطربوش المغربي " والكبران " داخل يتهلّل . ذهل التاجر وتفرسه فعرف فيه ذلك الفتى اللبناني الذي رافقه في سياحته في الأرض المقدّسة بصفة ترجمان ، وما لبث أن هتف له ورحّب به . ولنسمح الآن للتاجر أن يتكلم بنفسه ويقصّ علينا حديثه :
 سألته فأجابني انه نزل إلى البر في بوسطن من حيث أتى إلى نيويورك على قارب ضخم اعجب بفخامته وإتقان فرشه .
 وزادني انه لما برح لبنان حسب أميركا في طرف المعمور ولكنّه تيقن أن أصدقاءه من السيّاح الأميركان الذين خدمهم في لبنان وسوريا وفلسطين سيحسنون وفادته ويعملون على نجاحه وإسعاده بناءً على ما عهده فيهم من السجايا الحميدة .
 وبعد أن جدّد أنطونيوس علائق الوداد مع أصحابه ولقي منهم كل حفاوة وتكريم عمد إلى درس الإنكليزية وتلقن القواعد فاستخدم في بيت أحد الأغنياء على "الففث افنيو". وكم كان عجبه عندما مرض فقامت سيدة البيت نفسها على خدمته وتمريضه ، الأمر الذي أثّر فيه تأثيراً لم ينسه أنطونيوس مدى حياته . وطالما أشار إليه في أحاديثه والى امتنانه من تلك السيدة ، وتمرمر لعجزه بالإنكليزية عن تبيان شعوره وإيفاء واجب شكره .
 ومما استلفت انتباهي من أمر هذا الشاب انه برغم كونه ولد في قرية صغيرة من لبنان ونشأ في محيط اجتماعي متواضع كان يتنقل في بيوت الأسر الأميركية ذات الثروة والنفوذ دون تلبّك أو استغراب فكأنه في بيت أبيه. وكان وجهاؤنا يتسابقون لدعوته لضيافتهم مما يثبت قول شاعرنا بوب Pope :
 " إنّما الشرف والشهرة ليسا في المولد والمنصب بل في القيام على العمل الحسن الواجب لمـن عرفـه"
فتحت أمامه أبواب القلوب قبل أبواب البيوت . رقة خلاّبة ، وبصيرة نيّرة ، ومحاسن فطريّة ، وهمّة لا تعرف الملل والكلل رفعت هذا الخادم اللبناني المتواضع وأنزلته منزلة المساوى لمخدومه .
 شغف أنطونيوس بالدرس والعلم واخذ يظهر بمظهر شديد في أوائل عام 1855. عكف الشاب على تحصيل المعرفة بنفسه واستعان ببعض أصدقائه ، وعلى ما أذكر تردد إلى إحدى المدارس العمومية . وكان الكتاب المقدس وقاموس "وبستر" رفيقيه الملازمين . على انه لم يسع لتحصيل العلوم لنفسه بل لخدمة غيره ولمنفعة أبناء وطنه .
 ولم تطل المدّة حتى انفصل أنطونيوس عن بيت مستخدمه وشرع بتدريس العربية لمن طلبها مما مكنّه من تحصيل معاشه واستئجار معلّم أميركي خاص يلقنه قواعد اللغة والإنشاء. جهاده في هذا كان مدعاة لشفقة الكثيرين من أصحابه وإعجاب الجميع . النور في غرفته لم يكن لينطفىء قبل منتصف الليل أما حماسته فكانت أبداً متقدة .
وكما تذوب الشمعة تحت تأثير الحرارة والنور هكذا كان جسم فتى لبنان يسيل بداعي الكد والجد تحت سماء العالم الجديد . وربما كان مناخ أميركا القاسي الذي لم يألفه قبلاً من جملة العوامل التي دكّت بنيانه الجسدي فابتلى صاحبنا برشح شنيع رافقه سعال قوي لم يكن له سبيل للتملّص منه.
 وما كان صيف سنة 1855 حتى أخذه صديقه المسترهـ .ر. برفقته إلى  رتشفيلد سبرنكس Richfield Springs المصيف المعروف بجودة هوائه وحسن موقعه . فأحكم أنطونيوس عرى الصداقة مع عدد من الطبقة الراقية المتنورة من المصطافين . ورافق الأحداث منهم مراراً بقصد شمّ الهواء والتنزه . أما حنينه إلى بلاده وأهله فكان على أشدّه لأن منظر الآكام والأشجار في رتشفيلد كان أبداً يعيد إليه ذكرى لبنانه.
 * في المدرسة
في خريف عام 1855 نال أنطونيوس ما تمنى ووجد الضالة المنشودة بدخوله المدرسة. سروره بتحقيق رغائبه العلمية أمر يسهل تصوره ويصعب وصفه. ولدى وصوله إلى مدرسة أمينيا سمنري Seminary Amenia  في مقاطعة دتش Dutchess Country من أعمال ولاية نيويورك وجد كل شيء على ما يرام وأمل أن جودة المناخ تشفيه من سعاله على ما يستفاد من تحرير لصديقه المستر ايتش.
 أكب أنطونيوس بكل ما أعطى من المواهب على عمله . وسار في دروسه سيراً أذهل معلميه ورفاقه . أما منظره وهو يجهد قواه برغم تخافت صوته وتواصل سعاله فكان أمراً مؤلماً . وهاك ما كتبه بشأنه رئيس مدرسته المستر أندرو جاي هنت Andrew J. Hunt  :
 " عندما اتصل بي في خريف 1855 ان تلميذاً شرقياً مقبل للمدرسة خشيت انه يعرض نفسه لسخرية الطائشين من التلامذة بداعي عوائده الشرقية المخالفة للمصطلح عليه عندنا .
فجمعت التلامذة للحال وقصصت عليهم نتفاً من سيرة حياته تلافياً لما كنت أتوقعه من إساءة المعاملة إليه. بيد أن أنطونيوس ما عتم أن دخل المدرسة حتى اصبح بطلها. كان الطلاب ينافس الواحد منهم الآخر في إرضائه والتقرّب إليه . وما ذلك إلا لكون الشاب مجمّلاً بلطف المعشر وبساطة النيّة وممتازاً بعذوبة الحديث والفكاهة حتى أن اشرس التلامذة خلقاً لم يكن ليتمالك عن الشعور بالانجذاب إليه.
  عدم تمكنه من اللغة صعب عليه فهم الدروس ولكن همته ذلّلت معظم المصاعب ونفسه سوّلت له تتميم عشرة أضعاف ما يتممه غيره من الطلبة لو لا أني حاولت كبح جماحها بالنصح والإرشاد. كل عناء كان في نظره قليلاً زهيداً لدى فكرة الاستعداد لخدمة لبنان والشرقيين . ولم يكن انحطاط صحته وشعوره بقرب الأجل إلا ليزيده تشبّثاً بالدرس ورغبة بالعمل ، وما هي إلا اشهر قصيرة حتى نهكت قواه واصفر لونه وتملكَ منه السعال ، إنما حدّة ذهنه بقيت على مضائها " ..
 امتاز أنطونيوس بين رفاقه بتاريخ حياته الذي هو أشبه برواية منه بتاريخ ، وعرف بينهم بظمأ للعاوم ، وببساطة تصرّفه ، وعذوبة طبعه ، فضلاً عن تديّنه الحار وتوكله الدائم على الله .
ما عملته في سبيل هذا الشاب قليل لا يذكر ولكنه هو أصر على معاملتي باحترام شرقي وإكرام مستفيض فكأنه جهل أني من حيث الروح لا يصح لي ان اجلس عند قدميه .
 رجع أنطونيوس لنيويورك في نهاية الفصل المدرسي الأول ولم ير من باب الحكمة الرجوع للمدرسة مدّة فصل الشتاء.
فعاد لتدريس العربية ودرس الإنكليزية على يد معلمين خصوصيين . وسلّم نفسـه للدكتور لنزلي Dr. Lindsly يعالجه . فوصف له الدكتور زيت السمك فيما وصف ولم يبخل عليه بما حواه من المعرفة لإنقاذه ، ويؤخذ من الرسائل التي كتبها أنطونيوس في هذه الأثناء انه كان عرضة للصرع والعرق الليلي .
وفي مكتوب منه لرئيس مدرسته المستر هنت إشارة إلى انه كان ساكناً في غرفة تحت رقم 260 من الأفنيو السادس ، ومما جاء في المكتوب قوله : " وان شئتم السؤال عن تقدّمي إلى العافية فهو أشبه بسير الزحافات " .
وكان أنطونيوس يتردد على يونيون سكواير Union Square ( في السوق الرابع عشر ) للنزهة والترويح عن النفس ، فتعرّف بفريق من العملة الطليان وكان يجيد الكلام بلغتهم فأنشأ لهم جمعية واستأجروا غرفة جعلوها منتدى لهم وقاعة لدرسهم وأبحاثهم .
 راح الشتاء وجاء ربيع عام 1856 فانتعش ميت الرجاء في صدر أنطونيوس وتجددت فيه حياة الأمل بتجديد مظاهر الحياة في الزهور والطيور. فعاد لأمينيا في شهر نيسان وقلبه يخفق طرباً وبهجة . وزينت له مخيلته إمكانية تتميم دروسه وتصور نفسه حائزاً مجمل أسباب السعادة  عاملاً على إسعاد أهله وذويه عن طريق التهذيب والإفادة . ويستفاد من رسالة إلى صديقه الحميم المستر جاي سي ايتش بتاريخ 19 نيسان انه كان يدرس الإنكليزية واليونانية واللاتينية . إنما الميكروب الخبيث في رئته لم يكن ليحفل بتلك الآمال وهذه الدروس فأصر على عمله كما أصر أنطونيوس على درسه .
 والتفّ حول أنطونيوس رهط من المحبّين والمعجبين كان له فيهم خير تعزية وسلوى في وحشته ومصابه . ووجد في المسز ايتش والدة رؤوفاً تعطف عليه عطفها على بنيها .
ولم يذكر لي إلا مرة واحدة انه استاء من أميركي عرفه في الشرق واعتبره باللباس الشرقي في نيويورك ثم تغاضى عنه بعد أن تزيا باللباس الإفرنجي .
          خجل دون جبن ولا تأنث ، مجاملة بلا رياء أو تكلف ، تواضع عن غير مسكنة ، طرب بلا خفة ، ذكاء دون تكبّر ، ذلك هو أنطونيوس البشعلاني وتلك المزايا التي حببته ومراسلاتهم . فاثبت للملأ أن في صرف الحياة ونحوها الفعل الوحيد الذي يستحق التصريف هو فعل "العطاء" لا فعل الأخذ ولا فعل الجمع ولا فعل التحصيل فكان أنطونيوس شهماً وكان مقداماً .
 * نبذة مما كتبه انطونيوس بتاريخ 3 ايار سنة 1856:
" يا والدة الغريب :
الواجب يقضي عليّ أن اكتب لأفيدك عما حلّ بي منذ غادرت مدينة نيويورك . أنّ الله شاءت إرادته أن ينتابني بضعف لا سبيل لي لاحتماله مع صرامة الطقس حتى أني صرت بحيث لا أستطيع المشي ميلاً واحداً. وعندما أفكر بما أصابني من البلايا في هذه البلاد لا أجد من تعزية سيدتي سوى ترداد ذكرى حنوك علي . وإذا أمرت لساني بالسكوت أجاب : " الجبال تزول والتلال تنحل قبل أن ينفك عني التغني بألطاف هذه المحسنة" . قيل أن الكتابة نصف المشاهدة فلا تضني علي بها وسأشكر لك فضلك ما حييت ، حتى وبعد الموت تثني عليك عظامي في قبرها إاذاً ان موتي قريب وآلامي على تزايد ولا من دواء لدائي" .
 *          *          *
آخر رسائل الوداع من أميركا
إلى أهله في صليما
     إلى صليما ، لبنان
     يصل ليد حنا أو سعدالله أو إبراهيم يوسف البشعلاني أطال المولى بقاءهم .
     ليس لدي من المال ما أورثكم إياه . كلما انتجته يداي أنفقته على الأطباء وفي تحصيل العلوم . أما كتبي البالغة قيمتها ألفي قرش فباللغة الإنكليزية وقد أوصيت بها لأصدقاء لي من الأميركان .
     قال الشاعر :
     " رجل الخوف يبدو من وراء خبائه
      والقلب ذاب من المتاعب
      والعين تبكي للفراق عن الأحبة
      لا أحد قربي في بعادي
      ولا من يؤانسني في عالم الكد والجلبة .
إلى اخوتي المحترمين حنا سعد الله وإبراهيم غب أهدائكم تحياتي القلبية والسؤال عن غالي سلامتكم عساكم بأحسن عافية وتوفيق . وان جزتم بالسؤال عن حالة أخيكم فهو بتاريخه على أسوأ حال تحت رحمة الله .
وبيانه أني في نيسان سنة 1855 رشحت رشحاً عنيفاً والأطباء هنا رفضوا أن يفصدوني لأنهم لا يعالجون بالفصد في هذه البلاد .
ثم تجددت علي النزلة ورافقتها قحة شديدة فعمدت إلى الأدوية التي وصفها لي الأطباء إلى أن انفقت عليها ثمانمائة قرش وبرغم ذلك فلم الازم الفراش بل واظبت على دروسي دون انقطاع .
وفي شهر حزيران من سنة 1856 أعاد علي الرشح كرته فأيقنت أني لم اعد من أبناء هذه الدنيا وعليه كتبت لكم هذه الأسطر وسأتركها تحت عناية أحد الأصحاب حتى إذا انتهى الأجل يقدمها لكم .
ولما كان الموت نهاية كل مخلوق فإني ارقد على رجاء القيامة والاجتماع بكم في حالة البر والطهر عن يمين الديان الجالس على عرش المجد في عالم الخلود .
اكتب ذلك كي تعلموا أن ما حل بي لم يكن عن إهمال أو عدم اعتناء فإني عوملت احسن معاملة . كلا ، و لا تحسبوا ـ أشقائي ـ أني أموت كئيباً لأني والحق يقال سعيد بالانفصال عن هذا العالم الفاني . ولقد شبعت عيناي منه . نعم لم يبق لي من رغبة في هذه الدنيا فإني اكتفيت منها.  ولكم من يوم هنيء قضيته هنا مع أخواني . حتى ولا سليمان في كل مجده لم يكن بأهنأ عيشاً مني . وعليه فإني ذاهب سعيداً لملاقاة خالقي وربي .
وأختم الآن ببثكم أشواقي . للمرة الأخيرة أخواني أقول السلام لكم . لا تندبوني بل افرحوا معي واطمئنوا بالاً .
وأما أنت يا شقيق الروح إبراهيم فقبل عني يدي سيدتي الوالدة . اعتن بها وبأمر الأخ داود، والله أسأل أن يسهّل لك سبل الحياة وينجحك في أعمالك ويكون معك في كل أحوالك . وأرجوكم إخوتي أن تهدوا لجميع الأقارب والأصحاب سلام مودّع لهذا العالم الفاني . والرب الإله يحفظكم من كل شرّ ويطيل أيامكم .
كتبت هذا التحرير وأنا قادر على الكتابة وأغفلت التاريخ لأني لا أعلم متى الفظ النفس الأخير.
   أخوكم
   أنطونيوس
   ابن يوسف بن ظاهر البشعلاني
   من صليما جبل لبنان
   إلى المستر جاي . سي . ايتش
   طيّه التحرير المرجو إرساله بعد وفاتي ودفني إلى أهلي .
لا يجوز إرساله قبل ذلك لأن فيه شرح مرضي وهو آخر كتاب يصلهم مني قدمه من فضل المستر جورج سي . هرتر Hurter    في بيروت وسلفاً اقبل الشكر من المخلص .
أنطونيوس
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved  

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - الوطن في عيونهم La patrie dans leurs regards رسالة جبران خليل جبران

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - الوطن في عيونهم La patrie dans leurs regards
رسالة جبران خليل جبران ( إلى الشباب الأمريكي المتحدّر من أصل سوري ) عن "العالم السوري The Syrian World العدد الأول تموز 1926 - ترجمة : د.نجوى نصر
أؤمن بكم ، وأؤمن بقَدَرِكم .
أؤمن بأنكم من المساهمين في هذه الحضارة الجديدة .
أؤمن بأنكم ورثتم من آبائكم حلماً قديماً ، أغنيةً ،
نبوءةً ، ستقدمونها بكل فخرٍ عربون امتنانٍ في حضن أميركا .
أؤمن أن بإمكانكم أن تقولوا لمؤسسي هذه الأمة العظيمة : " ها أنذا ، شابٌ ، شجرةٌ يافعة اقتُلعت جذورُها من تلالِ لبنان ومع ذلك إنني عميقة الجذور هنا ، وسأكون مُثمرةً " .
أؤمن أن بإمكانكم أن تقولوا لأبراهام لينكولن : " المُبارك ، يسوع الناصري ، مسح شفتيكَ عندما تكلّمت، وأرشدَ يدكَ عندما كتبت ؛ وأنا سوف أدعمُ كلَّ الذي قلتَه وكلَّ الذي كتبت " .
أؤمن أن بإمكانكم أن تقولوا لأمرسون وويتمان وجايمس، " في عروقي يجري دمُ الشعراء والحكماء
 القدامى ، وهي رغبتي أن آتي إليكم وأتلقى ، لكنني لن آتي صفر اليدين " .
 أؤمن أنكم كما آباؤكم الذين أتوا إلى هذه الأرض لإنتاج الثروات، أنتم وُلدتم هنا لإنتاج الثروات بالجهد والذكاء .
وأؤمن أن في قرارة أنفسكم أن تكونوا مواطنين صالحين .
وما مقومات المواطن الصالح؟
هي الاعتراف بحقوق الآخرين قبل التأكيد على حقوقكم ، ولكن كونوا دائماً واعين حقوقكم .
هي في كونكم أحراراً في فكركم وأفعالكم ، لكنها أيضاً في معرفتكم أن حريَّتكم رهنٌ بحريَّة الآخر .
هي في خلق المفيد والجميل بأيديكم أنتم ، وتقدير ما خلقه الآخرون بحبٍ وبإيمان .
هي في إنتاج الثروة بالجهد وبالجهد وحده ، وفي إنفاق أقل مما أنتجتم كي لا يعتمد أبناؤكم على الدولة لتعيلهم عندما تكونون ولَّيتم .
هي في أن تقفوا أمام أبراج نيويورك وواشنطن وشيكاغو وسان فرنسيسكو قائلين في أعماقكم : "إنني المتحدر من شعبٍ بنى دمشق وبيبلوس وصور وصيدون وأنطاكية ؛ وإنني الآن هنا لأبني معكم بعزيمة وبإرادة " .
هي في أن تفخروا بكونكم أميركيين ، كما تفاخرون أيضاً في أن آباءَكم وأمهاتِكم أتَوا من أرضٍ مسحها الله بيدهِ الكريمة ومن هذه الأرض انتشر رُسُلُه .
أيها الشبابُ الأميركيُّ المتحدر من أصلٍ سوري ، إني أؤمن بكم .

 

Gibran’s Message To Young Americans of Syrian Origin
 
     I believe in you , and I believe in your destiny.
     I believe that you are contributors to this new civilization.
     I believe that you have inherited from your forefathers an ancient dream , a song , a prophecy, which you can proudly lay as a gift of gratitude upon the lap of America.
     I believe you can say to the founders of this great nation , “Here I am , a youth, a young tree, whose roots were plucked from the hills of Lebanon , yet I am deeply rooted here , and I would be fruitful .”
  And I believe that you can say to Abraham Lincoln : “ the blessed , Jesus of Nazareth touched your  lips when you spoke , and guided your hand when you wrote ; and I shall uphold all that you have said and all that you have written.”
     I believe that you can say to Emerson and Whitman and James, “ In my veins runs the blood of the poets and wise men of old , and it is my desire to come to you and receive , but I shall not come with empty hands.”
     I believe that even as your fathers came to this land to produce riches, you were born here to produce riches by intelligence, by labor.
     And I believe that it is in you to be good citizens.
     And what is it to be a good citizen?
   It is to acknowledge the other person’s rights before asserting your own, but always to be conscious of your own.
     It is to be free in thought and deed , but it is also to know that your freedom is subject to the other person’s freedom.
     It is to create the useful and the beautiful with your own hands, and to admire what others have created in love and with faith.
     It is to produce wealth by labor and only by labor , and to spend less than you have produced that your children may not be dependent on the state for support when you are no more.
     It is to stand before the towers of New  York , Washington , Chicago and San Francisco saying in your heart : “ I am the descendant of  a people that builded Damascus , and Biblus , and Tyre and Sidon , and Antioch , and now I am here to build with you , and with a will” .
     It is to be proud of being an American , but it is also to be proud that your fathers and mothers came from a land upon which God laid His gracious hand and raised His messengers.
Young Americans of Syrian origin , I believe in you.
       
 

WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved  

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - بلاد الجدود La patrie des aieux أسواق حمص

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - بلاد الجدود  La patrie des aieux
أسواق حمص - أهمها "القوافة" و "القيسارية" و"البازرباشي" - ( خالد عواد الأحمد )
  
   تأتي أسواق حمص القديمة في طليعة أسواق المدن العربية والإسلامية من حيث جمالها واتساعها واحتفاظها بطابعها الأصيل ، وهي تمتاز بسقوفها الإسطوانية وعقودها المقببة الضخمة التي تحمي روادها من قيظ الصيف وبرد الشتاء .
      وتبدو هذه الأسواق بعقودها الحجرية وواجهاتها الفخمة وأقواسها الرشيقة وكأنها خارجة من عصور القرون الوسطى وعند تلاقي سوقين أو اكثر تبرز قبة كبيرة تتوج مفرق الطرق وكأنها قبة مسجد كبير ، وبين مسافة وأخرى تتدلى حزم من نور الشمس من فتحات مربعة الشكل تثقب قنطرة السوق فتنير الشارع البازلتي دون أن يتمازج النور مع الظلام فيتعايشان معا دون أن يتداخلا بينما يسود خارج السوق نور باهر وكل شيء في هذه الأسواق شرقي ومحلي وقديم ، ففي الدكاكين الصغيرة يجلس الباعة خلف سلعهم أو


تجد الصانع يشتغل تحت أنظار المشتري وهنا تعرض مئات من المنتجات كالأقمشة الحريرية والمقصبة والجوخ والشاش والآشيات والأصواف إلى جانب أسواق السجاد الشرقي الثمين والعطور والصاغة والخضار والتوابل وحيث يتجول المرء في هذه الأسواق القديمة يدرك أن التاريخ في سوريا ليس فكرة مجردة أو بطاقة مغبرة في مكتبة مهملة ، بل هو تاريخ حي تراه العينان وتتلمسه اليدان وتستنشقه الروح .
      وتحت قبات هذه الأسواق ولدت عام 1985م أول جمعية اقتصادية مساهمة لصنع منسوجات وطنية تضارع المنسوجات الأجنبية ودعيت هذه الجمعية بـ (الجمعية الاقتصادية لتحسين المنتوجات الحمصية) وسارت هذه الجمعية بخطوات واسعة ونجاح مرموق . حتى كادت منسوجاتها أن تضارع المنسوجات الاوروبية وتفوقها في المتانة والاتقان .
 البابوش والطربوش
      يعتمد تنظيم اسواق حمص القديمة على نوعية البضائع ، تماماً كما كان عليه الأمر في الماضي البعيد ويجد الزائر في هذه الاسواق كل ما يخطر على باله من (البابوش الى الطربوش) كما يقول المثل الشعبي. من الثياب الجاهزة والشرقيات والنحاسيات والاقمشة وستائر النوافذ والثياب الداخلية وأغطية الرأس والفضيات والثريات إلى النراجيل والحلي الذهبية والأحذية والقباقيب والجوارب والحقائب ، إلى مختلف مستلزمات الكلفة والتطريز والعطور ، وكل ما يلزم البيت من صمديات وزهور صناعية وشمعدانات الى ما لا نهاية له من هذه السلع ، ولم تكن هذه الأسواق كما تذكر مصادر التاريخ الاجتماعي للمدينة مجرد دكاكين لبيع البضائع بل كانت منتديات للتداول في قضايا الحياة اليومية وفض المشكلات وتنظيم عقود القرآن وممارسة النشاطات الاجتماعية الأخرى ولاتزال بعض هذه الأسواق تحتفظ بوظائفها الاجتماعية ولكن بصورة مختلفة عما كان يجري في الماضي .
      ومن أهم أسواق حمص القديمة سوق (القوافة) أو (النوري) المجاور لباب الجامع النوري الجنوبي وعرف قديماً باسم سوق (السلحفة) نسبة لسقفه الشبيه بظهر السلحفاة الذي كان قائماً على عوارض خشبية مقببة بألواح التوتياء ، وكانت تشغل محلاته التجارية الكبيرة مقاة متعددة منها (الزرابليه، الفاخورة) وعرف هذا السوق باسم (القوافة) لأشغاله من قبل الحرفيين الذين كانوا يمارسون مهنة صناعة الأحذية أو (الصرامي الحمراء) كما كانت تدعى في الماضي ، وادخلت بعض التجديدات المعمارية على طراز السوق أيام الباشا عبد الحميد الدروبي حيث ابدلت الأرضية المرصوفة بالكتل الحجرية الصعبة المسلك ، واستعيض عنها بالبلاط الحجري المشذب الأملس وتتصدر واجهات المحلات اقواس حجرية ذات اشكال نصف دائرية كما تتوضع على عضائدها اشكال هندسية تاجية ذات زخارف بسيطة وتحيط بالسوق من الأعلى نوافذ للتهوية والإنارة ، استخدم في بنائها الحجر الأسود ، وهو المادة التي تميز البناء المعماري الحمصي .
 قيسارية الحرير
      وإلى جانب سوق النوري وبالتصالب معه يقع سوق قيسارية الحرير الذي تم بناؤه بأمر من الوالي أسعد باشا ليكون خانا لاستقبال المسافرين من تجار وحجاج وفلاحين ، ولفظة (قيسارية) من اصل يوناني وتعني البناء الملكي الامبراطوري قيسارية الحرير بعدد من الدكاكين على جوانبها الأربعة ، ولها مدخل بمصراع كبير من الخشب المصفح بالحديد في وسطه باب صغير يسمى (خوخة) وقفل للباب (سكرة) ويلي الباب دهليز مسقوف بعقد يفضي إلى درج حجري يؤدي بدوره إلى الطابق العلوي الذي يتألف من 27 محلاً تجارياً تحيط بها أعمدة حجرية بيضاء تحمل السقوف الخشبية ، وكان سوق القيسارية مخزناً كبيراً للزيوت في الفترة ما بين 1800 ، 1909 ولا تزال آثار المعصرة الحجرية قائمة حتى الآن ، ثم استقل تجار الحرير في الطابق العلوي وتنوعت المهن في سوق القيسارية ما بين عامي 1939 ، 1940 فاشتمل على تجارة بضائع جديدة كالفاتورة ومال القبان .
      وبموازاة سوق القيسارية يقع سوق عبدو آغا سويدان المعروف الآن بسوق العبي وكان هذا السوق أيام الاحتلال الفرنسي ملجأ للثوار يختبئون فيه بعد ان يقوموا بأعمالهم البطولية ضد الاستعمار الفرنسي ويمتاز هذا السوق بطابع تراثي مضمخ بعبق التاريخ وأريج النضال وعظمة التجارة وجاذبية الشرق وهو يمثل نموذجاً مدهشاً لروائع العمارة العربية الإسلامية وتنشط في هذا السوق مهن الخياطة العربية والتنجيد وبيع البسط القديمة .
 البازرباشي والمعصرة
      ومن الأسواق المكشوفة في حمص سوق البازرباشي الذي يبدأ شرقاً من النهاية الجنوبية لسوق النوري ويحده من جهتها الشرقية حمام الباشا وينتهي بساحة تملؤها المحلات التجارية القديمة وفي المنتصف اكشاك صغيرة لبيع أدوات الكلفة والخياطة والتطريز ويتصدر الساحة جامع البارزباشي (رئيس السوق) أو (شيخ السوق) تتصل الساحة بأسواق مسقوفة لبيع الأقمشة مع سوق الصناعة كما تتصل بساحة صغيرة اخرى يتصدرها الحمام العثماني القديم ويتمتع هذا السوق بأهمية تاريخية ويعرف عند عامة الناس بـ (سوق النسوان) حيث كانت النسوة يتولين فيه بيع الاشياء القديمة أو المستعملة ، وهذا نجد أن المرأة كانت تمارس نشاطها التجاري في الحياة الاقتصادية منذ القديم ، وهناك سوق المعصرة الذي عرف بهذا الاسم نسبة الى مهنة عصر الدبس فيه منذ القديم وتظهر في الجهة الشمالية الشرقية منه داخل أحد المحلات آثار المعصرة الحجرية ، والمحلات الأخرى كانت تستخدم كمستودعات لزبيب العنب ولكن هذا السوق تحول الآن إلى محلات تجارية واستخدام الطابق العلوي للسوق حتى عام 1959م لأصحاب مهنة الخياطة العربية والافرنجية كما أن سقفه العلوي جدد عام 1956م ويستخدم حالياً لبيع مواد النوفوتيه والأقمشة وجوانب منه تستخدم كمستودعات للمنسوجات .
      يتألف الطابق الأرضي من ثلاثة عشر محلاً تجارياً والطابق الأول يحتوي على اثني عشر باباً وعشر نوافذ والدرج لولبي الشكل ويحيط بدهليز الطابق العلوي درابزين حديدي .
      وبالتقاطع مع أسواق القيسرية والعبي والخياطين يقع سوق الصاغة الذي يعود تاريخ بنائه الى أواخر العهد العثماني ويشغل كما هو واضح من اسمه من قبل اصحاب مهنة الصياغة وبعض بائعي النوفوتيه وهو أحدث عهداً من الأسواق المجاورة لكنه شبيه بها في العديد من أقسامه ويحتضن هذا السوق الحمام الصغير الذي يمتاز بالعديد من الميزات التاريخية والفنية والآثرية ولكنه للأسف تحول الى متجر لبيع النوفوتيه والألبسة الجاهزة .
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD  
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved