مجلة السنونو (
العدد الثامن ) -
خاطرة
|
الأمية
رمال متحركة
( د. قصي أتاسي )
|
الأمية رمالٌ متحرِّكة
د. قصي أتاسي
في
أحد الأعداد من مجلَّة (رسالة اليونسكو) الخاص بمشكلة العجزة أو المعوقين تقارير
إضافية عن اهتمام العالم بموضوع المعوقين ورعاية شؤونهم والاهتمام بهم والغيرة
عليهم والسهر على تربيتهم وتنمية ملكاتهم وإعدادهم إعداداً خاصاً يعمل على تهيئتهم
لممارسة ألوان النشاط الرياضي والفكري والثقافي... فمن مدارس ومعاهد وجمعيات, على
مؤسساتٍ وأنديةٍ ومخابر وتجارب. ومن دراسات جادَّة معمَّقة حول أوضاعهم وإمكاناتهم
إلى ابتكار الوسائل والأجهزة وتسخير المربّين والمربّيات, وبناء العيادات والمشافي
وتكوين المختصِّين والمختصَّات لخدمة هذه القضية الإنسانية... حتى كان ما كان من
نجاحاتٍ في هذا الميدان.
وهكذا راح المعوَّقون أو العجزة ممن حرمتهم الحياة نعمة الحواس المكتملة السَّليمة
ينعمون بمباهج الحياة ويخرجون من عُزلتهم ويتخلّصون من عُقدهم وأمراضهم, ليخوضوا
ميدان الحياة الرَّهيب, ويشاركوا الأسوياء فيما ينشطون فيه في كلِّ مجالٍ وميدان...
في القراءة والكتابة والكلام بطرائق ولغاتٍ مخصوصة, كما في السباحة والتزلّج وسائر
أنواع الرِّياضة, بل في التمثيل والعزف والغناء وممارسة البحث والتأليف ومتابعة
الآفاق التي يرودها الفكر الإنساني في مغامراته الجريئة النبيلة.
وهناكَ اجتهادات ومذاهب ومدارس في مجال تربية المعوَّقين وإعدادهم, كالمدرسة
الفرنسية, والمدرسة الرُّوسية, والمدرسة الانكليزية وغيرها من المدارس التي تتبارى
وتتنافس في السباق نحو الأفضل والأكمل والأجدى في ميدان خدمةِ هؤلاء المظلومين ورفع
الحيْف أو جزء من الحيْف الذي كُتِبَ عليهم وليس لهم فيه ذنب.
وتروي أولغا سكوروكودوفا في كتابها الشهير ((كيف أُدركُ العالم)) تجربتها الفريدة
المتألقة, تجربة مخلوقة روسيّة عمياء صمّاء بكماء استعادت في عيادة خاصة
بالمعوَّقين شيئاً من قدرتها على الكلام... ثم راحت تتابع المناهج المدرسية
والدراسات العليا في التربية وعلم النفس, وهي اليوم عضو في معهد المعوقين بأكاديمية
العلوم التربوية, إلى جانب قيامها بالتدريس في مدرسة خاصة بالأطفال المكفوفين
الصُّم. ومثل هذه التَّجربة أقرب إلى المعجزة تحققها الإرادة الجبَّارة والبصيرة
الحادَّة, مضافاً إليهما الرِّعاية والسهر والتوجيه والاحتضان والنيَّة الطيِّبة
والتوجُّه المخلص النبيل.
ولكن العالم العربي لا يزال يتفرَّج على الأمية التي تدق نسبتها الصاعدة المحلِّقة
ناقوس الخطر... ولكن من يسمع؟ ومن يعي؟ وقد يشار إلى الأمية بين الحين والحين, في
مؤتمر أو ندوة فتُلقى الخُطب وتُتلى التقارير وتُسرد الإحصائيات وتوضع التوصيات مع
الإقرار بأن الأمية داءٌ لا بدَّ من علاجه وبأنها ظاهرة مرضية خطيرة... ثم ينفضّ
السّامر ويبقى السّرطان, سرطان الأمية, وكأنه القدر المكتوب أو القضاء الذي لا
يُردّ والجبل الذي لا يزحزح أو السيل الذي لا يُدفع.
وتكرِّس الملايين لمشاريع التنمية, ومثلها للتوجه إلى التصنيع, وتُفتح المدارس في
المدن والقرى, وتشاد المعاهد والجامعات, وتشق الطرق وترتفع السدود, وتبنى المطارات,
وتُدشَّن أضخم وأفخم وأجمل الفنادق والمرابع... ولكن ماذا ينفع كلُّ ما يُبنى؟
وماذا يجدي كل ما يشاد؟ وماذا يحقق كلُّ ما يُنجز مع الأمية التي تأبى أن تتراجع
وتنحسر, بل تأبى إلا أن تمتد وتشتدّ وتستفحل! وماذا يا ترى في هذا الإحصاء الطازج
السَّريع الميداني المأخوذ من مدرسة ابتدائية واحدة؟ يقول الإحصاء بالحرف الواحد:
إن خمسين طالباً من طلاّب هذه المدرسة الناجحين المواظبين سابقاً من مختلف الصفوف
لم يحضروا إليها في مطلع هذا العام الدراسي, بل غادروها إلى غير رجعةٍ طائعين
مختارين!
إذن ماذا يُجدي التصنيع؟ وماذا تُفيد التنمية مع هجمة الأمية التي ليست هجمةُ
الصحراء على الخضرة بأخطر منها ولا أرهب. نعم, لماذا نغرس البستان بأرقى وأكمل
الأشجار المثمرة وبأجمل الزهور الناضرة وبأحلى الورود الزكية ما دامت الطحالب
والأعشاب الضارة والحشائش السّامة تنمو وترتفع في أرض البستان؟ لماذا ننطح السَّحاب
بالعمارات الشاهقة السامقة ذات المصاعد والمرافق والحدائق إذا كان الأساس رمالاً
هشَّة متحركة؟ ولمن نسخِّر الكهرباء والإلكترون والمخابر والأجهزة الدقيقة الرهيفة
إذا كان منطق الحيّ والعشيرة والأسرة والطائفة ما يزال يحكم السلوك ويقود الأفعال
وردود الأفعال؟ لمن نُجري المياه إذا كانت رمال الأمية تمتصّ كلَّ شيءٍ ولا تبقي
على قطرة؟
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق