مجلة السنونو (
العدد الثامن ) -
خاطرة
|
حتى جذور
الأوائل
( الدكتور اسكندر لوقا )
|
حتى جذور الأوائل
الدكتور
اسكندر لوقا
ليس اعتباطاً أن يجرف الحنين إلى أرض الوطن أنسانا ً تجاوز الخمسين أو الستين, وليس
اعتباطاً، أيضا ً أن يجرف هذا الحنين إنسانا ً لم يبلغ هذه السنّ, وربما لم يبلغ سن
ّ الرشد بعد.
ففي تقدير الدراسات النفسية, أن صورة الوطن تكبر أو تصغر, في الغربة, بمقدار ما
تنمو في أعماق المغترب, عوامل الجذب باتجاه أرض المنبت, مسقط الرأس بتعبير آخر.
ولهذا الاعتبار يقال بالجسور التي تقام بين الوطن والمهجر, ويقال بالمحطات,
وبالحبال, وإلى ما هنالك من عوامل أخرى تؤكد على الانتماء في ختام المطاف. ولعّلنا
لا نغالي إذا قلنا أننا أمام مسألة الانتماء, يجب علينا تجاوز كل المسائل الأخرى,
لأنها الأقل أهمية أو الأدنى مستوى من تلك المسألة. وبمعنى آخر لأن الانتماء مسألة
المسائل كلها.
وبطبيعة الحال, فان مسألة كهذه لا يمكن أن تتفاعل في نفس الإنسان إلاّ بفعل خارجي
يساعد على محورة النفس حول هذه القيمة, وفي وقت مبكرة من عمر المغترب على وجه
التحديد.
أتراها المدرسة؟ أم الأم؟ أم وسائل الاتصال بما في ذلك الكتاب والصحيفة وأفلام
الدعاية؟
ربما أحد هذه العناصر, وربما كلها متجمعة.
نقول بالسنّ. وبالسن المبكرة تأكيداً, لأن الفعل في سنوات ما قبل الثبات في أرض
الغربة, يقابل الانفعال تلقائياً.
ومن هذه الزاوية بالذات, تترسّخ الروابط بين الإنسان وجذوره, ويبقى الوطن كبيراً
كجذع شجرة تتغذى من أرضها ومائها ومن هوائها.
كذلك الإنسان حين ابتعاده عن عشّه, كلما أبعدته الأيام, ازداد عطشه إليه, ليس لسبب
إلا لأن شعوره بالعراء يتتبعّه من مكان إلى آخر ولا يهدأ حتى يعود إلى ذلك العش,
حتى إذا كان العش صورة رسمت له, أو اسماً كتب له, أو كلمة همست في أذانه.
ترى إلى متى يستطيع الإنسان أن يمارس غربته تحت مثل هذه الشرو , وهي, كما نرى, شروط
قاسية وتفرض نفسها, تلقائياً, على مشاعر الإنسان؟
لا
نعتقد أن أحداً يستطيع الإفلات من مثل هذه المشاعر, وتحديداً, عندما يتجاوز تلك
السنوات التي تنقله إلى دوامة التفاعل مع القضايا الحسّية اليومية, وربما, أيضاً ,
دوامة الاندهاش بما في العوالم الجديدة, حيث يصل أو يستقر. فترة من الوقت, أو كل ما
تبقى من الوقت.
وأيضاً, من الطبيعي أن تفرض مثل هذه الحالة نفسها على الإنسان, في بدء تكونه, وأن
تغدو جزءاً لا يتجزأ منه, أو أن تصير هي ذات نفسه, كل نفسه, بحكم الهجرة المبكرة
جداً أو بحكم الولادة.
ولكن تبقى مسألة المداخلة, أولاً وأخيراً, مسألة ذات أهمية بالغة التأثير, وذلك من
حيث كونها, كما أسلفنا, عملية تربية, بل عملية تربوية, من بداية الرحلة إلى نهاية
الرحلة, وقبل كل شيء, انطلاقاً من القناعات المبدئية التي تتوالد, مع الزمن, ومع
زمن الغربة قبل أي شيء آخر تلك القناعات التي تصنع الانتماء في نهاية المطاف, وتعيد
الإنسان, بالتالي, إلى ما هو أسمى من كل المدهشات, ومن كل العوامل الجذب المادية,
إلى هويته.
وأمام هذه الهوية, فأن أغراء ما لا يمكن أن ينبض, وأمام هذه الهوية بالذات, ينهار
كل ما ليس له صلة بالحنين الصادق والحقيقي للأرض الذي روّت الجذور, وحتى جذور
الأوائل ممن سبق إلى الاغتراب سواه.
ومهما كانت الأسباب الدافعة إلى هذا الاغتراب, بحثاً عن الرزق أو طلباً للحرية, أو
هرباً إلى المغامرة وإلى الضياع, تبقى المعادلة قائمة, وهي أن يشعر الإنسان بأنه
ليس غصناً بلا جذع, أو طيراً بلا عشّ, أو جناحاً من دون ريش.
وأن يكون للإنسان وطن, أينما كان موقع هذا الوطن, معناه أن تكون له رئة, وقلب
وذاكرة.
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق