الأحد، 22 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الثامن ) - دراسة - في أفياء بثينة بنت المعتمد ( سميرة رباحية طرابلسي )

مجلة السنونو ( العدد الثامن ) - دراسة 
في أفياء بثينة بنت المعتمد  ( سميرة رباحية طرابلسي )

في أفياء بثينة بنت المعتمد
للشاعرة صالحة عبيد غابش
سميرة رباحية طرابلسي
الشاعرة صالحة عبيد غابش واحدة من اللواتي حققن الحلم الذي تفجّر من شريان الأدب الإماراتي. اتجهت إلى كتابة القصيدة العمودية وانتهت إلى قصيدة النثر التي بمعايشتها ترتقي إلى التجديد والتطور.
تعتمد تجربتها الشعرية على (وحدة القصيدة لا وحدة البيت (1)) في طرح ما تريده من مضامين شعرية في ديوانها: ((بمن يا بثينُ تلوذين؟!)) هو حالة فنية تؤخذ كاملة بمضمونها تدفعها للقارىء جرعات بصورة قصائد متتالية تميزت بالجدّة والإدهاش لنكتشف حالَ بثينة بعد السبي، مرسخةً رؤيتها الفكرية والجمالية بتحليل إسقاطاتها ورموزها والصراع الحاصل فيها.
والسؤال يدعونا لماذا اختارت الشاعرة هذه الشخصيةُ من بين آلاف الشخصيات النسائية التي عرفها التاريخ؟ ((بثينة بنت المعتمد بن عباد* )) قائلةً: (( لأن في قصتها شيئاً من الأسطورة... وكثيراً من القيم... وبعضاً مني.. هذا التشابه ليس في تفاصيل قصة الحياة.. ولكن في موقف ومعتقد يكاد لشدة حضوره يكونُ هويةً وحيدةً لامرأة ما (2))).
في النص قصةُ إسقاط تاريخي لشخصية وجدت الشاعرة نفسها بقاسم مشترك أهو التشابه في موقف..؟ أو معتقد...؟ يشكلان هوية لامرأة غير معينة أو لامرأة ما..! أو ربما تحيط جو القصة ((في عالم تسوده الآلام المعاصرة التي خرجت عن الطبيعة المألوفة لبني البشر(3))) وهنا يحضرني التساؤل هل هي رمز للهوية..؟ للانتماء..؟ للوطن.. للقيم أيضاً..؟ ((خداع أبن تاشفين للمعتمد (**))) ربما يدعوني الموقف للقول بأن بثينة والشاعرة مشتركتان ببعد فكري واحد، فتلجأ إلى استطلاع جنبات التاريخ في هذه الشخصية كي تحرك أدواتها إشعاعات تبعث من خلالها بمفاصل معاناتها.. أو تقدم نصاً مجلّياً في الحداثة كتحقيق روحي وكعزاء أيضاً. فديوانها هو ((مشروع)) قصة أشبه بالنشيد الطويل الذي يعبر عن زمن أضحى الاستلاب فيه والقهر أحد أسباب العيش، أو ربما ((لإثراء المضامين الواقعية عن حال الإنسان العربي اليوم (4))) أو هو ((خطاب مغلف بتأريخ طويل من المعاناة والمكابدات التي تعرضت لها المرأة في مشاعرها وأحلامها (5))).
والمعتمد يعني لها رمزاً فهي ترى في سلطانه نهاية أسرة أو تبدد مجد.. أو ربما ترى في (( بثينة أمة عربية في الأندلس)) الدلالات الواسعة مفتوحة أمام القارىء فبثينة ابنة ملك أشبيلية الذي نُكب في ملكه وأُسِرَ ثم نفي وأسرته إلى أغمات في المغرب وأصبحت سبيّة وأسيرة فاشتراها تاجر إشبيلي ظاناً أنها واحدة من الجواري فدفع بها هدية لابنه لكنها بشخصيتها تجلدت وتمسكت بعنفوان الأصالة العربية وقالت: ((لا أحلّ لك إلاّ بعقد الزواج إن رضي أبي بذلك(6) )).
وهنا تجلت اللفتة الذكية من الشاعرة التي عبرت عن المحنة التي طالت هذه الأسرة لتفتش عن القيم التي يتحتم على ذاتها مراعاتها بفيض من شعورها النبيل و((بقوة انتماء والدها إلى الخطاب الشعري (7) )) وتحديد موقفهابعدم خروجها على قوانين الانتماء الأسري.
هذا الجديد في تناول الدلالة الإيحائية في القصائد المتتالية يُبرزُ الإسقاط الذي استخدمته الشاعرة من قريب أو من بعيد لترتقي بالمتلقي ارتقاء فنياً وجمالياً يفيض دلالات عميقة تتولد بمشاركته تجسيد حكاية بنت المعتمد، وتحليل نفسية شخوصها المنسوجة بموازنتها بين حريتهم في الماضي وسخريتهم من كآبة الأيام الآتية:
كأني ليلٌ يفسرُ للصبح نفْسه
ويأبى الصباحُ انكشافي عليه
         فأرتدُّ نحو عباءتيَ الساخرة.. ص13
 تُؤنبني هكذا:   (( ليس هذا الصباحُ لكَ))
وماذا تعني لها العباءة...؟ إنها تشبه الليل الذي تلاه الصباح وانتشلها من غرق الأحلام ومن الكوابيس لتعي نفسها من جديد قائلة: ليس هذا الجسد لك أيها التاجر الإشبيلي هذا الجسد الذي يشعّ بهاء كالصباح ليس لكَ..! هذا الحضور يدعونا لاكتشاف بثينة شاعرة وضحية في الوقت ذاته نبع من موقف نبيل وتجلّى انبعاث الذات لديها لأنها تنتمي للدولة الأموية في الأندلس وأنها من نسب ذي أصالة وتراث.
وبخيالها الحرّ يجذبها الحنين إلى إحصاء المآسي من جديد وتلجأ بعد المعاناة إلى الحلم تحت وطأة الواقع وتغيره.
أعُدُّ الأنامل في عتمة الراحلين ص22
                          ونصبح ملهاة أحلامنا من جديد
وهنا تعدّ الأنامل أي المآسي التي عصفت بالعرب وعصرتهم ولم يبق لهم غير حثالة أحلام من مجدهم التليد وعبر هذا المونولوج الداخلي ننتقل إلى العالم المضطرب الأليم ضمن صور تتلاحق تباعاً وسط هذا الخط الدرامي الواضح.
أتى الداخلون بأحزانهم ص23
                           قيدوا الصبح من قدميه بليل السلاسل
فالداخلون ((يوسف بن تاشفين)) يوزعون على الأمة ضروب الأحزان ويقيّدون الصبح الذي يرمز إلى مضمون جديد هو الخلاص الذي ترسمه الشاعرة وهو المجد العربي الذي شقّ عنه الظلام صقر قريش مستعيرة من عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية في الأندلس وجه الشبه بأبيها.
ما زالت الشمس تنمو بعافية الانتظار..   ص24
وتلبس حَلّة محرابها.. وتصلي
لتُسعف صقر قريش من العبث المتمرد
في حلمه
وتستمر هذه الشمس العربية بمعاناتها الداخلية لتتوهج من جديد  فترة ثم تتحسّر على الأمجاد الإسلامية فترى خلاصها مستعينة بالفارس الحلم الذي تريده أن يرفع مشعل الحرية ليحرر أسرها من العبث والتمرد.
ستبحثُ عنك                          ص24
وأنتَ الملُّثم خلف التراب
تجيء على خيلك المتسلل من عثرات السراب
وهنا تشرئب روحها التي تتحد مع غربتها ضمن صراع داخلي ونبض وجداني يكشف عن مكنونات شوقها إلى مجيء الفارس الملثم متسائلة والصبايا سبايا ترى هل سيتأخر؟ النداء والتوسل واضح ينبثق من وعيها بقيم الوفاء والبحث عن بديل جميل في نظرها، فترسم في مخيلتها الشخصية الدرامية للبديل وكأنها هنا تسترجع البطل الأسطوري جلجامش في خروجها على الشكل السائد فتحقق حلمها حيث يتراءى لها قادماً.. ملثماً.. يتجاوز عقبات الدروب الموصلة التي أقيمت أمامه ليسترجع ملك أبيها.
فقم لا تكن مثلهم                       ص25
وجئني بملء الكرامة مهراً
إنها هنا تستحضر مباشرة مهرها وهو مهر الحرية الممزوج بالدماء وبسيف تجرّد عنه الصدأ ليسترجع القدس ويعوض عن ملك أبيها، ويتجاوز الهزائم التي منيت بها الأندلس.
وجئني بقدس الحبيبة مهراً             ص25
وقل يا حبيبة إنا انتصرنا
فهل قلبكِ العربيُّ هدأ؟
تجليّ الذكريات الذي ارتبطت بإيقاعها الداخلي يظهر هنا في صورة التكرار لمعنى المهر الذي تؤكد عليه، وقد استلهمت شخصية البطل الشعبي ليتطابق مع واقعها النفسي، وهنا يشرئب الرمز التاريخي حيث تلّح الشاعرة في ندائها للفارس ليرفع راية الجهاد وينطلق ليستردّ القدس السليب كصلاح الدين الأيوبي محرر القدس من الفرنجة وبهذا يطمئن قلب المعتمد، وتعوض ما تراه من خيبة الأمل وهنا ((ستبحث عنه في صورة جديدة لبطل قومي، افتدائي، مخلّص (8))) كما يراه أدونيس في البعث والرماد.
في دلالة مباشرة تتحدث فيها الشاعرة عن تفاؤل بثينة بالرغم من معاناتها، وعن فؤادها العامر بالفتوة والشباب، لتنقلنا إلى إشراقة جديدة ترتبط بالذكريات وبالتراث في خطابها الذي أزدوج مضمونه على مواصلة المعركة لأن الأمل والحرية هو وعدُ ربِّ السماء.
أفتشُ في الدمعة العربية عن ملْحها..
وعن لون زيتونكمْ
وللبرتقال بمشرقنا طعمُ حريةٍ             ص29
سوف يأتي إلينا به
وَعْدُ ربِّ السماء.
وفيما سبق نرى (( في الصورة الشعرية تتجمع عناصر متباعدة في المكان والزمان غاية التباعد لكنها سرعان ما تأتلف في إطار شعوري واحد (9))) فعمق الصورة تجلّى في زيتون المغرب وبرتقال المشرق وجمالها يرينا التشبث بالأصالة التي ساعدتها في عنف الطيران الحرّ متخطية المشاعر اليومية لتبوح بعزيمتها العالية في استنهاض الهمم لتصارع خيبة الأمل الحاضرة في ساحتنا العربية اليوم.
من جديد تبدو أمامنا نقطة مضيئة رغم معاناتها الذاتية وظمئها فرعها يتطاول شامخاً بروح التحدّي إلى درجة الاعتداد بالنفس.
فتطول بثينة في نخلة                  ص31
ويمتد في الرمل صوت ظماها
وتبكي.. وتظما
لابد من ذكر الصورة الفنية الطريفة المعنونة ((خيوط المغازل)) التي تستند وتشير إلى الصناعة التي اعتمدت عليها أسرة المعتمد في السجن ((أغمات)) لتحصيل ما تحتاج إليه من مال معبرة عن رفضها الشديد للاستعباد ولعصر الغواية الذي يذكرها بوطنها:
أهاجر في ناظريْ غربةٍ
تُبصرني وطني
فتشتاقني خيمة علقت في يديّ          ص37
خيوط مغازلها
((ليس أشدّ إيلاماً في النفس من وقع الغربة المعنوية والوجدانية على الإنسان في العصر الحديث (10))) غربتها تساؤل مشبوب نتيجة غواية عصر اشرأب من وجدان الشاعرة إثر هذا الموقف الأليم الذي نبعَ من عاطفتها الشفافة.
بمن يا بُثينُ تلوذين..
والليل رمحٌ طويلٌ بكف جميل
ينافح عن ألف ألف بثينة؟!
بمن؟!
تتبدى الغربة الذاتية في هذه الدراما الواضحة التي تلامس أجلّ الحالات الإنسانية من سبي وتشرّد نتيجة الهواجس التي تطال الأهل تجاه ابنتهم التي أصبحت سبيّة وتساؤلهم إلى من تلوذ..؟ أو بمن تحتمي...؟ ووالدتها((رميكية)) (( قدماها رهينة طين المنافي (11))).
وها هنا يمكن للقارىء أن يلمس عملية التناص حينما استعارت الشاعرة حكاية جميل وبثينة في التراث الشعري العربي.
من جديد ترينا الشاعرة حاجة بثينة للتحرر من العاطفة الأسيرة لتتسامى في التوحد مع القيم والثوابت التي تتبناها وتعطي أبعاداً تتخطى الواقع وتنفلت من إسار الزمن لتتحرر منه متجاوزة غربتها الداخلية التي يبلسمها شعاع يجنح نحو المستقبل, هي بثينة أخرى سيدة العطر والعشق والتيه:
وأنا..  لي سيادة هذا المساء
بثينة أخرى
ولم يغب النهر عن جسد
لم يزل يتفرع فيه العفاف
وهنا تستلهم الشاعرة أهمية المرأة في التراث الإسلامي فتتجلّى أمامنا سيدة العطر والعشق والتيه بعد ذهاب الخوف عنها، فقد تحولت إلى أخرى بثينة الجسد الوردة المحتفظة بعفافها ولم يغب النهر عنه فهي بحالة عشق وانتظار، فالصورة الفنية هنا صورة الفتاة العربية التي تنشدها الشاعرة في حضور بثينة الطاغي عبر متاهتها في السبي لتكون بطلة حقيقية تليق بامرأة عربية معاصرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  الهوامش
1- د. إبراهيم محمد الوحش، في ظلال النص، ص52
(*) د. سهيل زكار ـ التاريخ العباسي والأندلسي والسياسي والحضاري، كانت مملكة أشبيلية أكبر ممالك الطوائف وأقـوا ها. وكان على عرشها المعتمد بن عباد الذي يمكن اعتباره بين أعظم شخصيات العالم الإسلامي في القرن الخامس، فهو كان سياسياً بارعاً، وإدارياً ناجحاً، وفارساً محـنكاً وعلى درجة كبيرة من الشجاعة والإقدام، وفوق هذا كله كان من أعظم شعراء عصره وأكثرهم تمكناً من فنون الأدب والبلاغة  ص 339
2- صالحـة عبيد غابش، ديوان بمن يا بثين تلوذين، ص5
3- هـلا عبد اللطيف قصير، الاتجاه الرومانسي في شعر الإمارات، ص20
(**) د. فيليب حـتي، د. إدورد جُـرجـي، د. جـبرائيل جـبور ـ تاريخ العرب، حين هدد خطر الفونسو السادس مملكة المعتمد: (( ارتكب أكبر خطأ إذ طلب النجدة من يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين في مراكش، ورغبه في الجـهاد ونصرة الإسلام وقدم يوسف بجيشه في ت2 من سنة 1090 ودخل غرناطة ونفى المعتمد إلى مراكش فأعتقل في أغمات.. وكانت زوجته اعتماد وبناته فكن يغزلن للناس بالأجرة)) ص 621- ص622
4- الخليج الثقافي العدد 8596 – 4 نوفمبر 2002
5- نفس المصدر السابق
6- صالحة غابش ـ بمن يا بثين تلوذين ص7
7- نفس المصدر السابق ص8
8- محمد جمال باروت ـ الحداثة الأولى، ص93
9- - هـلا عبد اللطيف قصير، الاتجاه الرومانسي في شعر الإمارات، ص297
10- نفس المصدر السابق
11- صالحة غابش ـ بمن يا بثين تلوذين – ص54
 
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق