مجلة السنونو (
العدد الثامن ) -
أقواس
|
رسالة إلى
نصف مجنون نصف عاقل
( بقلم : حنا مينا )
|
رسالة إلى نصف مجنون نصف عاقل!
بقلم: حنَّـا مينـا
ألا لا يجهلنَّ
أحدٌ علينا فنجهلُ فوق جهل الجاهلينَ!
حين كنتَ في العشرين
من عمرِكَ, كنت حلاَّقاً غير ملتزم, في دكانٍ على باب ثكنة في مدينة اللاذقية,
بابها من أخشاب عتيقة, لا تمنع ريحاً ولا تحجب ضوءاً.
نعم! هذا ما كنته يا
حنا, يوم كانت الحرب العالمية الثانية تتضرّى, وكنت تتساءل, كما غوركي,
"يا
نفس ماذا ستكونين, وماذا يخبئ لك الغد؟".
لم يكن لديك سوى
الشهادة الابتدائية, المنسية الآن في بقاع البحر الأحمر, وقد حصلت عليها من المدرسة
الرشدية في مدينة اسكندرونة, قبل الهجرة من اللواء السَّليب, وقد أضعتَ طفولتكَ في
الشقاء, وشبابك في السياسة, سعياً وراء العدالة الاجتماعية, هذه التي تتحسر عليها
الآن, لأنها لم تتحقق, لكنك غير يائس من تحقيقها, لأنها حلم البشرية أزلاً أبداً.
كنت أيها المأفون,
ترغب في تغيير العالم, ودون أن تعرف ما هي الكتابة, كتبتَ خربشاتٍ أسميتها مسرحية,
أنت بطلها, وفيها تغير العالم في ستة أيامٍ, وفي اليوم السابع تستريح, وقد ضاعت هذه
المسرحية, وأنت غير آسف عليها, لأنك لا تأسف على ما فات, وتتطلع أبداً إلى ما هو
آتٍ!
الفقر نوعان: أبيض:
الذي تعيشه الآن, وأسود: الذي عشته منذ وعيت الوجود, حين كنت عرياناً إلا من خروق
تستر لحمك, وكنتَ حافياً, جائعاً, تبحث عن اللقمة, وفي سبيلها عملت أجيراً عند مؤجر
دراجات, وأجيراً عند صيدلية, وأجيراً مربياً للأطفال وأجيراً عند حلاق, تعلمت لديه
مبادئ المهنة وحمالاً في المرفأ, وبحاراً أو أجير بحار, على مركب شراعي, لمدة
قصيرة, رأيت فيها الموت يحدق فيك, بعون باردة, خلال العواصف, وما أشدَّها في
الشتاء!
إنني أكرهك يا حنا,
وبسببٍ من هذا الكره, أرفض, إلا مرغماً, أن أرى وجهك في المرآة أو التلفاز, لكنك,
في أرذل العمر, صرت مشهوراً, والشهرة جهنم, فماذا تفعل, وأنت عنيد, وعِندُك عِندُ
بغلٍ؟!. حسناً! ترفض الدعوات, لا تجيب على الرسائل, لا تتكلم على الأدب, لا تحضر
الندوات الادبية, لا طاقة لك على سماع المحاضرات, والخطابات السياسية خصوصاً, لا
ترتاح إلى كلمة عطاء, تضحك من الذين يقولون "علينا أن نعطي", يقشعر بدنك كله من
كلمة رواية, تُعاقب نفسك لأنك أول من تنبأ, عام 1982, بأن الراية ستكون ديوان
العرب, وعنك أخذها الآخرون ثم جحدوك, وهذا لا يهم طبعاً, لأن درب الرواية واسع,
وفيه يسير جميع الكتبة تقريباً, ومن هذا الكم سيكون النوع, وعندئذٍ تكون لنا
الرواية العربية التي تخترق جدار الصوت, وهذا جيد جداً, وجيد أيضاً أن تكون هناك
ظاهرة إيجابية, مفادها أن الكثرة من الفتيات والسيدات يرغبن في الكتابة, وفي كتابة
الرواية على العموم, وعليك يا حنا أن تعطي رأياً, أن تقدم ملاحظة, نصيحة, موعظة,
أو, وهذا الأسوأ, أن تكتب مقدمة, وأنت تلعن النصائح, والمواعظ, والمقدمات عائداً
على العشرين من عمرك, يوم كنت حلاقاً, وفي بدايتك بالحلاقة, لم تكن الكتابة تخطر
على بالك, وقد تعلمتها, من بعد, بكتابة الرسائل للجيران, والعرائض للحكومة, بغية
إصلاح هذا الرصيف, أو تزفيت هذا الطريق, أو تأمين الرغيف وتحسينه, أو الدفاع عن
المظلومين, والفقراء, والمعذبين في الأرض, وإسماع المسؤولين صوت الذين لا صوت لهم,
وتتقبل اسفنجة الخل من أجلهم جميعاً!
لقد كنت أيها الشقي
تُسرُّ بالشقاء, والشيطان يعرف لماذا, كنت في العشرين, وأنت حلاق, خريج سجون
بامتياز, أيام الانتداب الفرنسي وزمن الإقطاع بعد الاستقلال, تسع مرات سُجِنتَ, في
اللاذقية ودمشق, وفي السجون تعلَّمتَ بعض الأشياء, وفي المنافي, لأسبابٍ قاهرة,
اكتسبتَ بعض التجارب, وكنت تفرح أيام الانتداب وأنت تقود المظاهرات ضده والرصاص من
فوق رأسك, ومن على جانبيك يئز, دون أن يطالك, حتى نفذ صبر الزبائن منك ومن حلاقتك,
وجاءت الطامة الكبرى, عندما قبض رجال الأمن على من وجدوا من زبائنك, فكان الإفلاس
تاماً, وكان إغلاق دكان الحلاقة لابد منه, والتشرد الطويل قد دقت ساعته, فودعت أمك
العجوز, التي لا تعرف لأي سبب كانت تريدك أن تكون كاهناً أو شرطياً, ولا توسط
بينهما, فلم تكن لا هذا ولا ذاك, وبعدئذ, أيام السجون والمنافي, تواضع حلمُ أمك
فتمنت لو كنتَ راعياً, وأسِفت لأنها أرسلتكَ إلى المدرسة, بينما هي وأخواتك البنات,
كن خادمات في بيوت الناس, وقبل خروجك من اللاذقية, ودعت القوَّادة جارتك, التي
زوَّدتك بهذه النصيحة: "اسمع يا حنا, الرجل لا تذلُّله سوى شهوته, فلا تدع شهوتك
تذلك" وقد حفظت هذه الوصية, هذه الحكمة, وانتفعت بها في مشوارك الطويل, مقيماً
ومرتحلاً, وعندما صار التشرد مهنتك, التي مارَستها وأنت تحمل صليبك على كتفيك, في
أوروبا وفي الصين, قبضت على هذه الوصية, قبضتك على جمر الغربة, ورمح الحراس, في
الجلجلة, يطعن في خاصرتك فينزّ الدم.
في العشرين من عمرك,
أنت البائس الذي ينافح عن البؤساء, غادرت اللاذقية إلى بيروت مرغماً, باحثاً عمن
يتخذك أجيراً, من الحلاقين, لكن بحثك أياماً طوالاً لم يجدِ, رفضوك وأنت تحمل
قليلاً من الثياب, والأقل الأقل من النقود, في الصرة على كتفك, فكرهت أميرة المدن,
في لبنان "الأخضر الحلو" ووجدت نفسك ضائعاً فيها, ولا يزال هذا شعورك, منغرساً في
تربة نفسك, يتمظهر كلما زرتها فتفر من هذا الإثم معتذراً لشاعر "طفولة نهد" الذي
تُعدُّه ظاهرة لن تتكرر, والذي قال إن بيروت أميرة المدن!.
الحجر الذي رفضته
البناؤون سيصير في ضربة حظ, رأس الزاوية لكن ليس قبل أن يدفع الثمن غالياً, في بحثه
عن الأمل في اجتراحه لعبة صنع الأحلام حتى لا يسقط في العدم, ودمشق التي تفصدها بعد
أن خيَّبَت رجاءك بيروت, لم تكن أبيض يداً, ولا أوفر كرماً, وقد طوَّفت يا حنا, في
شوارعها وأزقتها, عساك تحظى بمن يقبلك أجيراً, من الحلاقين, فلم تفزْ بما تنشد,
فالحلاق الذي كنته, رفضه الحلاقون الذين كانوا, والسبب أنهم ليسوا بحاجة إلى
أُجَراء, لأن لديهم الفائض منهم, ولأن شكلك الناحل, العليل بغير مرض, الأصفر الوجه
من جوع, جعلهم ينفرون منك, وكان هذا, من حسن حظك هذه المرَّة.
حظك؟! لا! زمن الحظ في
مطاوي الغيب بعد, وسيأتي يوم تتساءل فيه: "لماذا لم يدخل ماركس الحظ في فلسفته؟"
أما وأنت في العشرين بعد, فإن المصائب, أمامك عربات قطار مربوطٌ بعضها إلى بعض,
وأنت تواجه قدرك مصيبةً بعد مصيبة, كما عربة قطار بعد عربة, وتتجول في شوارع دمشق,
حيث "يأتيك بالأخبار من لم تزود" لأن أختك, وزوجها خائب, قد نشزت تاركة ابنها عند
جده لأبيه, ويبلغك أحد اللوائيين أن عليك أن تذهب لتأخذ الطفل, وإلا رمته زوجة جده
المسكونة بعفريت القسوة إلى الشارع, ذهبتَ إلى الكنيسة المريميِّة, حيث يسكن بعض
اللوائيين الفقراء في أحد الأقبية المجانية من وقف الكنيسة, وهناك وجدت الطفل الذي
أنت خاله, في ثيابٍ بالية وشعرٍ طويل, يسرح فيه القمل على هواه... تبكي؟ وما نفع
البكاء حتى لو استطعته؟ تبكي أختك الناشز؟ تبكي ابنها المنذور للضياع لو لم تكن
أنت؟ تبكي القدر في عربة قطار المصائب؟ كل هذا لا يفيد, خذ الطفل إلى جدته التي هي
أمك, قالوا لك, وأخذته ووضعته على منكبيك وسِرتَ به إلى المرجة, ومن هناك ركبت في
بوسطة مخلَّعة, وهو في حضنك, قاصداً بيروت, لأن طريق دمشق-حمص- اللاذقية, لم يكن
سالكاً بعد, ولأن الطفل جائع, وأنت لا تملك إلا أجرة الطريق, فقد لجأت إلى بيت
صديقك عبدو حسني, الذي سيكون معلمك في رواية "الثلج يأتي من النافذة" وفي الصباح
سافرت إلى اللاذقية لتوصيل الطفل "الأمانة" إلى جدته أمك, ثم تأخذه إلى الحلاّق
وبعد ذلك تنظفه من القمل!.
"يا شام لبنان حبّي,
غير أني لم توجّع الشام, تغدو حبّي الشام", ولم تكن, يا حنا, الشام حبك بعد, وأنت
في العشرين من العمر, إلا أنها ستصير حبك, وستستوطنها, وتضحك لك الشمس فيها, ويكتب
عنها مقطوعتك اليتيمة "هل تعرف دمشق يا سيدي؟" وتظل اللاذقية هواك, ففيها البحر,
وستجن بالبحر, وتألف عواصفه, وفيها تسبح كالسمكة, وتكتب عنها ثماني روايات, أشهرها
"الشراع والعاصفة" التي كرَّستك روائياً, و "الياطر" التي يتعشقها القراء, لا تدري
لماذا, وبها تدخل البيوت من أبوابها الواسعة, لا بيوت الفقراء فقط, بل بيوت الأمراء
والأميرات معها, وستتمنى, في تجريد المستحيل, لو تنتقل الشام إلى البحر, أو ينتقل
البحر إلى الشام, التي رفض الحلاقون فيها, وأنت في العشرين ربيعاً, أن يتخذوك
أجيراً, مقابل اللقمة وحدها!.
إن رجاء البائسين لا
يخيب إلى الأبد, ورجاؤك أنت البائس, الذي ينظف ابن أخته من القمل, لم يَخِبْ, فقد
نشرت لك مجلة "الطريق" اللبنانية قصة قصيرة جداً, عنوانها "طفلةٌ للبيع", وكان
نشرها مفاجأة, وكان فاتحة, وجواز مرورٍ إلى عالم الحِرف, وبهذا الجواز عدتَ إلى
دمشق, وبفضل صديقٍ له الشكر المديد, قصدت معه جريدة "الإنشاء" لصاحبها المرحوم وجيه
الحفار, الذي كان بحاجةٍ إلى محرر وسألك, وأنت متطامن أمامه, عما تحمل من شهادات.
فتلعثمت, ارتبكت, وجمت, وبعد أن تمالكت نفسك قليلاً, أخرجت له قصاصة "طفلة للبيع"
التي لم يقرأها, بل قال لك "تعمل ثلاثة أشهر كمحرر متمرن دون أجر!" وقبلت العرض,
بإيحاءٍ من ذلك الصديق الذي أسكنك بيته, وأطعمك خبزه وملحه.
في جريدة "الإنشاء"
عملت, يا حنا, مع سكرتير التحرير الرائع, الإنسان, الذي اسمه أحمد علوش, والذي
سيكون صاحب جريدة "الصرخة" الوطنية, القومية التقدمية فيما بعد, رحمه الله.. ومنذ
عملت معه بث الطمأنينة في نفسك, فقد شرح لك بأناةٍ, ملامح عملك, وأولها سماع نشرة
الأخبار الإملائية الصباحية من إذاعة دمشق, وتسجيلها بخطٍ واضح, وثانيها, كتابة ما
يُملي عليك, وثالثها تصحيح بروفات الطبع, ورابعها انتقاء بعض الأخبار والطرائف من
الصحف اللبنانية والمصرية وقصها, لاستخدامها في الصفحة الثالثة, وخامسها توضيب
المحليات من نشرات المخبرين المحليين ونشرها في الصفحة الثانية, وسادسها عدم الخجل
من السؤال عمّا لا تعرف... وقد اجتهدت في استيعاب كل ما يقوله, وتنفيذه بدقة, وفي
آخر الشهر الأول, دخل غرفة صاحب الجريدة وأثنى على عملك, دون ان يخبرك, وفي اليوم
التالي طلبك الأستاذ وجيه الحفار, وقال لك بعد أن شهد لك الأستاذ أحمد, وحمدَ
طاعتك, واجتهادك في العمل, قررت اختصار مدة التمرين إلى شهرٍ واحد, وستأخذ مئة ليرة
سورية في الشهر, اعتباراً من اليوم!".
الفرحة الغمرة تشهَّت
على وجهك حتى لم تعد تعرف كيف تشكره, لكنك لم تغادر مكتبه, فسألك: "ماذا تريد؟" قلت
على استحياء شديد "عشر ليرات على الحساب, لأنني جائع!" وفي ذلك اليوم تغدَّيت
كباباً في مطعم على كتف بردى, بجانب جسر فيكتوريا, وكان النهر مكشوفاً بعد... وكانت
الجريدة بأربع صفحات, وبقيت فيها إلى أن حُرِمت من العمل, بسبب معارضتك حلف بغداد,
بعد أن غادرك الأستاذ أحمد علوش, وصرت سكرتير التحرير مكانه.
تنقلت بين صحف دمشق,
وتابعت, بحماسة ودربة, العمل السري الذي اعتدته في اللاذقية, وكان هذا العمل يسحرك
بسرِّيته, لانتمائك إلى حزبٍ ممنوع, يطالب بالعدالة الاجتماعية... ولم تكن, وقتئذ,
تعرف ما يخبئه لك القدر من تشرُّدٍ طويلٍ طويلْ, في سبيل هذه العدالة.
ترنَّم الشاعر المرحوم
معين بسيسو بقوله: "الصمت موت, والقول موت, فقلها ومت" وقلتها ولم تمت... إنك,
الآن, على مشارف الثمانين من عمرك, وقد كنت دائماً على موعدٍ مع المغامرة, نصف
مجنون نصف عاقل, وتحب نصفك المجنون أكثر!
آمل أن تصلك رسالتي,
فتعرف, قبل الناس, من أنت!!
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق