مجلة السنونو (
العدد الثامن ) -
ما علينا وما عليهم
|
|
عندما
يبخل القدر بمساحة للرد ( بقلم : د. رغيد نحاس )
|
|
عندما يبخل القدر بمساحةٍ للرد
بقلم: د.
رغيد نحاس*
"من كان يعلم أن أستاذنا الكبير الراحل: عبد المعين الملوحي لن يتسنى له أن يقرأ
المغترب في أستراليا الدكتور رغيد نحاس محرر مجلة "كلمات" رادّاً على مقاله (دفاع
عن الغرب) المنشور في العدد السابع من السنونو؟؟
في قلب د. رغيد اليوم غصة من ذلك, وفي قلبنا من مثلها غصص..!! وما العمل والشجرة
الراسخة في أرض وطننا وحبنا هَوَت واقفة بهذه الفجاءة وهذا المناخ من القدر البخيل؟
وإنما في روح من كتب وطرح واقترح -لا شك- رضاً وقبول, إذ أرب الأديب الحق أن يجد
قارئه وأن ينفذ إلى أعماقه محركاً كنوز نفسه ورأسه, ليرهف هذا الثاني ميزانه
وغرباله غير مكتفٍ بهز الرأس, وبالتسليم الهيِّن لكل ما يُكتب.. وأظن أن فقيدنا
الغالي قد بلغ الأربَ بوصوله إلى قلب الدكتور رغيد –أطال الله بعمره- وإلى ميزانه
الحساس الذكي في مناخ من التناغم بين وجهين وقامتين... وفي غَرفَتَين سخيتين من
الينبوعين.. والماء في كليهما منعش شافٍ قراح..."
نـهاد
ــــــــــــــــــــــــــــــ
علمت عن وفاة الأستاذ السوري الكبير عبد المعين الملوحي بعد أسابيع من غيابه، وسبق
أن استوقفتني مقالة له قلّ كلامها وكبرت دلالتها بعنوان "دفاع عن الغرب" نشرتها
مجلة "السنونو" التي تصدر عن "رابطة أصدقاء المغتربين" في حمص، في عددها السابع
(شباط 2006). وأردت أن أعلق على مقالته مؤيداً وشاكراً، وكان ودي أن يقرأها عسى أن
أوفيه بعض ودّه الذي أبداه تجاه مجلة "كلمات" من طريق المراسلة، فأنا لم تسمح لي
الظروف بلقائه، وكم عاتبني في رسائله كيف أحضر إلى دمشق ولا أزوره. غاب الملوحي،
وحرمت أنا من شرف زيارته، وكذلك مجرد نقل رأيي في كلامه إليه، لكن عسى أن يكون
لتأكيد مقولته بعض صدى.
يمهد ملوحي لمقالته بعرض أن الأفكار السائدة في المشرق هي أن الغرب مغمور بالمادية
ويفتقد إلى الروحانية، بينما الشرق هو موئل الأخلاق والروحانيات. لكن الملوحي يقول
إن "كل ما يقال عن روحانية الشرق أسطورة من الأساطير، والغرب رغم كل ما يقال عن
ماديته أكثر روحانية من الشرق، والإنسان في الغرب أكثر إنسانية من إنسان الشرق...
وما نزال نعيش على منجزات الغرب في الصناعة والعلوم التقنية، بل ما نزال نستورد منه
وسائل الدفاع والغذاء والدواء."
ويضيف أن الغربي يتمتع بما لا يتمتع به إنسان الشرق، مثل الحرية والتعليم والصحة
والشبع والرفاه المادي ووجود مؤسسات الرعاية لكل عينات المجتمع. أما الآفات الغربية
من وجود العصابات والقتل والإرهاب، فهي آفات يؤكد الملوحي على أنها موجودة في الشرق
أيضاً.
أما عن العلاقات الشخصية والاجتماعية، يبين الملوحي أن مستلزمات الحياة العصرية
والتقنية تفرض نمطاً معيناً من المسلكية الغربية التي لا بد ستصيب الشرق مع تطوره
التقاني. هذا مع العلم أن الشرق الآن حافل بكثير من سوء العلاقات، بما في ذلك خيانة
الأخ أخاه وقتل الابن أباه. ثم ينتقل إلى نقطة مهمة، وهي انتقال "الرحمة الفردية
التي تكتفي بإعطاء درهم لفقير في الشرق إلى رحمة جماعية في الغرب، تقوم على بناء
المستشفيات والمؤسسات العامة..."، ويضيف "أن الحنان الفردي تحول إلى تضامن اجتماعي
راق...".
استوقفني هذا الكلام لسببين أولهما أكثر أهمية من ثانيهما: الأول هو أنه يأتي من
إنسان من صميم الشرق، وما زال قاطناً فيه. الثاني هو أنني شخصياً ممن يتبنون هذا
الكلام، خصوصاً أنني اخترت أن أكون في اوستراليا البلد الجاثم في أقصى الشرق
جغرافياً وفي صميم الغرب فكرياً وعملياً.
أستاذنا الملوحي يستحق تهنئة كبيرة على شجاعته وصراحته، بل على وثبته الفكرية
الهائلة التي بزّ فيها مجتمعه بتبنيه النقد الذاتي الموضوعي، وهو من أهم وسائل
الوصول إلى المجتمع الديموقراطي العادل. لو تخلى العرب عن أوهامهم وواجهوا حقيقة
أمرهم مثلما وضحها الملوحي لعاد الأمل في إحياء نهضة الأمة العربية من جديد. لقد
جسّ الملوحي بكلامه نبض المشكلة الكبرى التي جعلت من الشعب العربي شعباً كسيحاً.
وهو بهذا الفكر يعلن تقدميته وانفتاحه، أي أنه يبزّ أيضاً كل الأجيال التي تصغره
بعشرات السنين، والتي نراها الآن ترتد نحو التزمت والتعصب على أنواعهما، عوضاً عن
أن تقود الأمة نحو مستقبل يغسل آفات الماضي ويفتح الطريق أمام الانفراج الذهني
الضروري لمواكبة العصر الذي نعيش فيه.
وقد يتعجب أستاذنا القدير لو علم أن من "الشرقيين" الذين عناهم من حطت رحاله في
بلاد الغرب لكن معظمهم ما زال يعيش على أوهام بلد المنشأ، وينكر على البلاد التي
انتهى إليها تقدمها وفضلها وحريتها، بل يتقوقع على نفسه مع أمثاله ويرفض الانسجام
مع مجتمعه الجديد دون أن يكتفي بذلك بل يتهم مجتمعه بالتمييز ضده، دون أن يدرك أنه
بانعزاله قد بدأ التمييز، وأن المجتمع الغربي الذي منحه سمة الدخول والإقامة
والجنسية لايمكن أن يكون قد ميّز ضده من الناحية العملية.
وأشد غرابة من ذلك أن نجد من أبناء بعض "المهاجرين" أو "المغتربين"، الذين ولدوا في
بلد مثل أستراليا، من يرفضون اعتبار أنفسهم أستراليين بالرغم من عدم انسجامهم التام
مع أصولهم. ووصل الأمر في أستراليا إلى تشكيل بعضهم عصابات إجرام ما دعا شرطة ولاية
نيو ساوث ويلز تشكيل فرقة لمكافحة ما صار يعرف هنا بـ"الجريمة الشرق أوسطية".
وطبعاً هناك فرق كبير بين أن يرتكب الجريمة فرد بصفته الشخصية، وفي هذه الحال يوصف
الفرد بأنه أوسترالي مهما كانت أصوله، وأن يرتكبها أفراد عصابة منظمة تضم أفراداً
من خلفية معينة واحدة. حين تصبح الجريمة منظمة وتأخذ العرق أو الدين ستاراً لها،
تصبح المبررات كافية أمام المجتمع لإعطائها صفة إثنية. وإلا ما تفسير أن ينتمي عدد
من المجرمين من الخلفية نفسها لتنظيم واحد ينتهك حرمة المجتمع؟
وما يثير الدهشة ان نرى معظم المهاجرين العرب يشكلون تكتلات باسم بلدهم الأم سرعان
ما تنضوي تحت إمرة السفارة المعنية، وفي حال دول الحزب الواحد القائد تخضع هذه
التّكتلات لنفوذ ممثل الحزب. وإن فكرت فئة من تلك البلاد تشكيل تجمع جديد تقوم
قيامة التكتل الذي يعتبر نفسه الوحيد المخول تمثيل الجالية المعنية. وبالرغم من أن
معظم أفراد الجاليات المندمجة مع المجتمع الجديد لا يملكون الوقت للدخول في هذه
المتاهات، نجد أن أولئك الذين يحبون المشاركة ينضوون تحت لواء ما يفرض عليهم لأنهم
بعد سنين من القمع والاستكانة في بلدهم الأصل، لا يدركون أنهم الآن أحرار في بلدهم
الجديد، بل يتصرفون بالعقلية نفسها التي فرضت عليهم.
بعبارة أخرى يكون أهم إنجاز لهذه التّكتلات شلّ ما تبقى من حرية الأفراد، والادعاء
بتمثيل كل الجالية، وقطع الطريق على إظهار الجاليات على أنها جزء من المجتمع
الجديد، والإبقاء عليها كأبواق للسلطة الموجودة على بعد آلاف الكيلومترات، طبعاً كل
هذا تحت شعار محبة الوطن.
ويبين الملوحي في هذا السياق كيف أنه من المهم أن لا نبكي من أجل الفقير، بل أن
ننقذه لأن "البكاء سلبي والإنقاذ إيجابي". وهذا ينطبق تماماً على محبة الوطن:
التطبيل والتزمير والهتافات تبقى سلبية جوفاء ما لم تقرن بالعمل. ومثال الإيجابية
في حب الوطن هو إصدار مجلة "السنونو" التي ورد فيها مقال الملوحي. هذه المجلة التي
تروّج الأدب والفن بين أهل الوطن والمغتربين هي خدمة للوطن أكبر بكثير من مجرد نطق
عبارة "أحبك يا وطني".
وما زالت العقلية القبلية تسيطر على عقول كثير من العرب حتى يومنا هذا، وحتى من
تواجد منهم في بلد مثل أوستراليا. مثلاً نسمع كثيراً من العراقيين الذين فقدو أهلهم
على أيدي الطاغية، الذي حكمهم عقوداً عدة، يقولون الآن إن حكم طاغية "مسلم" أفضل من
حكم "الكفرة الأميركان". ويقول غيرهم من العرب القبليين أيضاً ما مغزاه "لترحل
أميركا ونحن ننزع شوكنا بأيدينا".
صحيح أن الحل المثالي هو أن لا تكون أميركا ولا صدام. لكن أكثر من ثلاثين عاماً مرت
والعرب لم يستطيعوا وحدهم التخلص من آفات حكامهم وفسادهم. وبغض النظر عن صحة ما
قامت به الولايات المتحدة (التي ستخرج من العراق لا محالة)، ما الذي يمنع الشعب
العراقي الآن من الانضواء تحت راية الوطن الواحد تاركاً لكل فرد حريته في التعبد؟
لماذا لا يكون العراق علمانياً يحكمه من هو كفيّ بغض النظر عن طائفته أو قوميته أو
عرقه؟ إن كان هذا الكلام مثالياً لأن واقع الأمر يحتم ما يحدث من صدامات، وإن كانت
العقلية التكفيرية هي المسيطرة على بعض الفئات، وإن كان بعض الفئات يريد الاستئثار
ببعض الموارد لأنه وضع فئته في المقام الأول ووطنه في المقام الأخير، فاين ولاؤه
للعراق الوطن الواحد الذي يفترض أنه للجميع؟ وكيف يمكن حل المشكلة دون تدخل خارجي؟
وهل الجميع من السذاجة بمكان بحيث يعتقد أن دولاً مثل الولايات المتحدة وإسرائيل
ستقف مكتوفة الأيدي حين تسنح لها فرصة الاستغلال والتخريب؟
من الطبيعي جداً أن تحاك المؤامرات على شعوبنا، وأن يحاول الآخرون استغلالنا، لكن
لماذا ينحصر انشغال بالنا في هذه الأمور، ولا نحاول التفتيش في عيوبنا لاقتلاع
أسباب الخلافات والفساد؟ ما الغريب في أن يقوم العدو بالتسرب كالنمل من عيوبنا على
حد تعبير نزار قباني؟ الغريب أن ندمر أنفسنا بأنفسنا باستغلالنا للدين أو العرق.
الغريب أن ينعت البعض بالرافضة، وآخرون بالزنادقة لمجرد أنهم يتبنون منهجاً فكرياً
وعقائدياً مختلفاً. والغريب أن يقوم بعض العرب في ديار الهجرة بتكرار الحماقات التي
تسببت أصلاً في مغادرتهم أوطانهم، وأن يقبلوا على أنفسهم البقاء على هامش مجتمعهم
الجديد مبررين ذلك بمحافظتهم على التراث، أو غيرها من أساليب خداع النفس، عوضاً عن
أن يكونوا جزءاً من تركيبة مجتمعهم الجديد فيغنوه بتراثهم ويستفيدوا من خبرته
وتقدمه وديموقراطيته استفادة إيجابية، أي ما يؤدي الى بناء أنفسهم كأشخاص ذوي
اعتبار، وليس كمنفلتين مهمشين لمجرد توافر الحرية، وعندها تصبح استفادتهم سلبية
تعود بالوبال عليهم أولاً، وبالنتيجة على أولادهم والمجتمع كله.
وجدير بالذكر أن بعض السياسيين في بلد مثل أوستراليا لا مانع لديه من قيام تلك
التكتلات الأثنية الانعزالية، بل يشجع عليها تحت شعار التعددية الثقافية التي تم
استغلالها بصورة سيئة من جميع الأطراف. والسبب في ذلك واضح جداً (حتماً ليس تلك
التكتلات الإثنية التي نتحدث عنها)، ألا وهو أن بعض هؤلاء الساسة عنصري الى درجة
أنه لا يريد للمهاجرين الجدد إحراز أي كسب ضمن المجتمع الأوسترالي الكبير، أي يفضل
أن تتقوقع تلك الفئات حتى لو تم ذلك بمساعدتها بإعانات حكومية تدعم تكتلاتها
الفئوية، وهكذا تُظهر الحكومة أنها تحترم التعددية، وتتمتع باستقامة سياسية. وفي
الوقت نفسه تقع الجاليات في الفخ الذي نصب لها فتقبل المنحة المادية المتواضعة،
بينما تخسر الكنز الأكبر فيما لو أنها سعت لتكون بمستوى بقية الطبقات الأوسترالية.
ولنعد الى منطقة الشرق الأوسط، ولا أشك يا أستاذنا الكبير في أنك لو كنت حياً الآن
لشاركتني الرأي أن مصلحة إسرائيل الكبرى قيام دويلات طائفية في المنطقة، وأن التطرف
الذي تحاربه إسرائيل علناً هو ما تدعمه سراً. وأن إسرائيل تفوق بذكائها بوش
وزبانيته الذين ارتضوا أن يكونوا دمى متحركة بين يديها، ولذلك تنصب الأفخاخ لفئات
كثيرة، وتتبع أساليب غير مباشرة في ترسيخ وجود التطرف الذي يؤدي إلى شرذمة ما تبقى
من المجتمع الإسلامي والعربي. ولأن شعوبنا تهتم بالشعائر التافهة وتبتعد عن جوهر
حضارتها، لن تستطيع إدراك موقفك هذا في فهم أفضلية الغرب.
في كلامك دعوة مبطنة لإعادة النظر، بل وإعمال العقل من جديد، والاجتهاد الذي نسيناه
منذ قرون، كي نحرر أنفسنا من أنفسنا وإن كان لا بد أن ننعتق نحو التراث والماضي،
فجدير بنا أن يكون انعتاقنا نحو السمو الإنساني لا نحو القشور التي نتخذها اليوم
كتعابير سياسية لنعوض عن هزيمتنا الثقافية والسياسية والمدنية الفادحة أمام الغرب
الذي خر يوماّ عند أقدام صلاح الدين، فما كان منه سوى الرفعة والتسامح، حتى ليشعر
المرء أن المسيح تجسد فيه حباً وكرامةً".
* رئيس تحرير مجلة "كلمات" الصادرة بالإنكليزية في أستراليا.
|
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق