الأحد، 22 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الثامن ) - قصص قصيرة - بقلم: مارسيل الخوري طراقجي

مجلة السنونو ( العدد الثامن ) - قصص قصيرة 
 الوضعية العائلية: أرملة ( بقلم: مارسيل الخوري طراقجي )

الوضعية العائلية: أرملة
بقلم: مارسيل الخوري طراقجي
اتصالها السريعُ وكلماتها المتلاحقةُ (أنا آتية) عبرَ الهاتفِ لم تكن مفاجأةً لي فقد أعتدتُ أن أكونَ الشخصَ الذي ترتاحُ إليه في الأزمات. فهي تحكي وتحكي دونَ أن تخشى على كلامها عندي من التشردِ والضياعِ بين طياتِ الأحاديثِ الهامسةِ في زوايا الصالوناتِ المخملية.
جاءت مسرعةً بعد رحلةٍ قضتها في مصرَ مع أولادِها لترتمي على أريكةٍ لا توحي بتأمينِ الارتياحِ الجسدي وقد بللها المطرُ رغم احتمائها تحتَ مظلةٍ واسعةٍ. حذاؤها الجميلُ المبللُ وبرودةُ الطقسِ وسرعةُ الوصولِ كانت كافيةً لأن تقولَ لي دونَ كلام أن قلبها لم يعد يقوى على استيعابِ ما تحس به وأن بعضاً مما يفيضُ به من ألمٍ قد انسكب في الطريقِ إلى وأنها لملمته لتودعهُ في تقطيبةٍ حفرت خطوطها بعمقٍ بين حاجبيها غافلةً بذلك عن كلِ من مرَّ بها في الطريق من معارفَ وهم كثرٌ فأنى استدارت وجدتهم، كهولاً، شباباً، وأطفالاً ولطالما أحست أن لديها في كلِّ زاويةٍ من زوايا قلبها متسعاً لجيل. تراها تحسُ بما يريدُ الطفلُ الزائرُ دون أن يلمّحَ فتسرعُ إلى تلبيةِ ما قالته لها عيناه دونَ أن يعمدَ إلى الاختباءِ وراءَ أمهِ أو يهمسَ في أذنها مشيراً إلى لعبةٍ قابعةٍ في الزاويةِ أو بابٍ مغلقٍ مثيرٍ أو حلوى اختبأت في مكانٍ محتمل. يزورها الشيخ صديقاً من أصدقاءِ والدها دون أن يشعرَ بالحرجِ من تفاوت العمر بينهما فعندها يجدُ أذناً صاغيةً وابتسامةً مرحبة ولقمةً طيبةً ضنت عليه بها زوجته يومَ كانت حيةً وكان شاباً يمكنها أن تسللَ إلى قلبهِ عبرَ رائحةٍ شهيةٍ تهربُ من تحتِ غطاءِ قدرٍ ورثته وظل يندبُ رائحةً صنعتها يدا المرحومة أمه وظلت معششةً في أنفه أرملاً. ولطالما استقبلَ الركنُ الهادىء الدافىء من غرفةِ الجلوسِ في بيتها أصدقاءَ أولادها يتركون فيه تحتَ مساندِ المقاعدِ المريحةِ شكواهم وصدى معاناتهم يأتون إليها بمشاكلَ لم يسمعها أهلوهم. عندها يجدون الراحة والتشجيعَ واللقمةَ الطيبةَ والكثيرَ من القهوة. صاروا يعرفون ألوانَ الفناجين وعددَ الصحون في مطبخها الذي طالما استقبلهم، وطالما خرجوا منه مشبعين برائحةِ الطعامِ الذي ساهموا في إعدادهِ.
بيتها الكبير الذي أصغى إلى الكثيرِ من الآهاتِ ورجّعَ الكثير من الضحكاتِ وودعَ الكثيرَ من الأحبة لم تأتمنه على مشاعرَ أحست بها فأبكتها وها هي قد جاءتْ إلي.
تمددت طويلةً كالرمح، نحيلةً كريشةِ عصفور، قويةً كاللبوة.... تمددتْ بساقيها الطويلتين وهي تحدثني ثم اعتدلت في جلستها لترتشفَ قهوتها قبل أن تبدأ الحديث قائلةً:
أنا أرملة منذ سنين. إلا أنني لم أعِ ديكتاتوريةَ ما تنطوي عليه هذه الكلمة إلا بعد أن صفعني بها الآخرون. صفعتني بها امرأة.. امرأةٌ حريصة على أن تكونَ سيرتها الذاتية مثل غالبية الأخريات. سيرتها التي تقول:
الاسـم:           امرأة
العمـر:           امرأة
مكان الولادة:      في كل مكان
الوضعية العائلية:  متزوجة بإصرار
المهنة:             امرأة
تلك هي السيرة الذاتية لمن صفعتني... قالتها صديقتي متنهدة بحرقة من أصيبت في الصميم، ثم تابعت:
كان الموتُ في مفهومي كانسانة مثقفة واعية نهايةً يصلُ إليها الجميع طالَ أمدُ الانتظارِ أم قصرْ.
بكيت يومَ توفي زوجي بحرقة. لم أبكه ميتاً بل بكيته حباً وأماناً، احتراماً وتقديراً بكيتُ فيه كياني بكيتُ فيه مستقبلي.... بكيتُ أحلامي.
الرداءُ الأسودُ الذي ارتديته ثلاثَ سنواتٍ منحني خمسَ درجات في تقييم كل من حملن السيرةَ الذاتيةَ التي حملتها من صفعتني على شكلِ سؤال.
واو ارتديته خمسَ سنواتٍ لمنحني المجتمع عشرَ درجات، مكنتني ربما من التسجيل في المعهد
العالي الاجتماعي للحصولِ على دبلومٍ في التقويم والمحاسبة.
اكتفائي بفنجانِ القهوة ترحيباً بالضيوف في بيتي على مدى سنتين متواصلتين خنوعاً لتقاليدَ ترغمك على إيصالِ رسالة إلى الغير دون كلام منحني عشرينَ درجة. مع أنني كنتُ كانسانةٍ مرغمةً على البقاء. فأنا لم أتوقفْ عن الأكلِ والشرب، فجوعنا لم يكن ليقيمَ الميتَ من القبر ولم يكن تقشفنا ليسعده. كنا كأسرةٍ واقعيين في ألمنا، في افتقادنا. قدمنا لمن رحلَ عنا باكراً الحبَ رعايةً وحناناً ودفئاً يوم كان بحاجةٍ لكل شيء، لكل كلمةٍ طيبةٍ لكل ضحكةٍ انتشلناها من أكوامِ هموم.
خمساً وعشرين درجة نلتها في اختبارين. أما الخمس وعشرون علامةً الباقية والتي كان يتعين علي الحصولُ عليها في عداد المرضي عليهن فقد كان من الصعبِ تحقيقها لأنها كانت تتطلبُ مني الخروجَ من جسدي بعد استظهارِ كتابٍ من مائة صفحة يدربني كيف ألغي الابتسامةَ كيف أخفضُ جفوني كيف أرفضُ دعوة وكيف أحجمُ عن لقاءِ أصدقاء. كيف أوصدُ باب منزلي أمام أصدقائي القدامى. كيف أسارعُ إلى واجباتِ التعزية وأعزفُ عن حضور الأعراس. نسيت أن أقول أن هناك مائة درجة تعطى يومَ المأتم.
وهل يلقنُ الحزنُ أم أن الأكبرَ والأعمقَ في مشاعرنا هو في ما لا يقال ولا يباحُ فيه؟
رسبتُ في امتحانِ الصراخِ ومحاولةِ إلقاءِ جسدي من على الشرفة فقد كنتُ في داخلي قد سكنتُ عتمةَ القبور بعد رحيله. نلتُ خمس درجات للشحوبِ والنحولِ حملهما الحبُ الذي ترجمته عنايةً وتفانياً.
اعتدلتْ صديقتي في جلستها متابعةً بعد أن خمدت ثورتها لتقول:
خرجتُ بعد سنتين من قوقعةِ الحزنِ الحقيقي وحزنِ المجتمع المؤطر خرجتُ قويةً جريئةً صريحةً مليئةً بالثقةِ بالنفس في مجتمعٍ قاضٍ لا يفقهُ القانون. لم أسعْ لنيلِ ما تبقى لي من درجات فأنا لم أكن بحاجةٍ إليها لاجتيازِ الامتحانِ أمامَ ربي. كان شعوري بالالتزامِ والواجبِ تجاهَ أولادي كافياً لأن يجعلني أقوى على تجاهلِ الأقاويل والهمساتِ فعمدتُ إلى الخروجِ لا من قوقعتي وحسبْ بل إلى الخروجِ في رحلةٍ مع الأولادِ ومع مجموعةٍ من الأصدقاءِ والصديقات إلى مصرَ مستردة إلى حياةِ أولادي بعضاً من ألوانٍ افتقدوها بعد رحيلِ والدهم قبل ثلاثِ سنوات. كان أولادي جوازَ السفر إلى قلوبِ الكثيرين إضافةً إلى ما حباني به الله من توقدٍ في الذهن ساعدني على ردودِ الفعلِ اللبقةِ الذكية.
انتهت الرحلةُ المقررة ولكنها لم تنته بالنسبةِ لي فقد قررتُ البقاءَ أياماً أخرى لمرافقةِ الأولاد إلى أماكنَ أثريةٍ أخرى تستحقُ الزيارة. وهذا ما أجمعت على القيامِ به مجموعةٌ من ثلاثةِ أزواجٍ وزوجاتهم. وعملاً بالروحِ التي تسودُ الرحلات عادةً أقترحَ أحدهم علينا مرافقتهم. وافقَ الجميع إلا واحدة أصرتْ على إنهاءِ الرحلة دون تفسير، دون نقاش. 
غادرتُ غرفتي في الفندق في ذلك اليوم الأخير ونزلتُ إلى الصالون أسعدُ بصحبةِ فنجانٍ من القهوة أهربُ مع كلِ رشفةٍ منه إلى صفحةِ ذكرياتٍ لن تعود.... تمرُ أمامي أفواجٌ من الزوار ويحيط بي لغطُ المسافرين فيحجبهُ دخانُ لفافةٍ ينفثها مسافرٌ آخر هربَ هو الآخر مثلي من غرفته بحثاً عن الذكريات.
أتناولُ فنجانَ القهوةِ الذي يرسم ببخارهِ المتصاعدِ أمامي خيوطاً رفيعةً تبدأ عريضةً عند السطح ثم تتطاولُ محتضرةً في سماءِ الفندقِ تماماً كما ابتدأت أحلامي عريضةً وانتهتْ واقعاً أجهد لإعادةِ رسمِ ألوانه.
لم أدرِ كم مرَّ بي من الوقت وأنا أستعرض شريطَ حياتي فيرتسمَ ابتسامةً هاربةً على وجهي أو دمعةً خجلى أمسحها بظاهرِ كفي.
صحوتُ فجأة على صوتٍ نسائي مضطربٍ حادٍ سمعته من قبل معترضاً على إطالة الرحلة وتساؤلٍ لها لفظته في وجهي.
أهذه أنت!!!!! ولكن أين زوجي؟
السؤال الأول أجيبُ عليه أما الثاني فأنا لا أعرفُ الجواب.
لم يكن عندي الجوابُ على السؤال الثاني للسائلةِ التي حاولت الهرب من نظرتي الحزينةِ اللائمةِ الساخرةِ المحتقرةِ المؤنبة. السؤالُ الذي استندت
في طرحهِ إلى حيثياتِ اتهامٍ مسبقٍ لكل من تحملُ خانةُ الوضعيةِ العائلية في هويتها كلمةَ (أرملة).

 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق