الأحد، 22 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الثامن ) - ضيوف السنونو - مع العلامة وديع فلسطين ( حاوره: أحمد العلاونة )

مجلة السنونو ( العدد الثامن ) - ضيوف السنونو 
مع العلامة وديع فلسطين  ( حاوره: أحمد العلاونة )

مع العلاّمة وديع فلسطين
اعتزاز أهل الصعيد بفلسطين هو مصدر اسمي
                                                        حاوره: أحمد العلاونة
العلاّمة وديع فلسطين من فضلاء العصر, جمع بين الصحافة والأدب, وهو بحقّ "مؤرخ الأدب المعاصر" عنده من أخبار الأدب والصحافة ما لا تجده عند غيره, وهو ينقلها كتابة أو مشافهة بكل امانةٍ ودقة, وأهم ما يميزه الوفاء لأساتذته وإخوانه, ومن علامات ذلك اشتراكه في تأبين الأستاذ روكس العزيزي. وقد انتهزت مشاركته لمحاورته في هذا اللقاء.
*من أين جاء اسم فلسطين إلى أسرتك, فكثيرون يظنونك فلسطينياً؟
اسم فلسطين شائعٌ جداً في الصعيد الذي أنتمي إليه, وسبب ذلك اعتزاز الصعايدة بأرض فلسطين وبمقدساتها, وقد اكتشفت أن هناك ثلاثة يحملون نفس اسمي مع أنه لا توجد أي علاقة عائلية معهم, ولا أتيح لي أن أعرف أحداً منهم, وعندما توفي واحد من الذين يحملون اسماً مطابقاً لاسمي توهم صديقنا الدكتور محمود الطناحي أنني هو "الفقيد" فاتصل بمنزلي للاستفسار عن تاريخ الوفاة لأنه أعدَّ كلمة عني لنشرها في مجلة "الهلال" وعندما رفعت سماعة الهاتف وجاء في سؤاله: هل هذا منزل المرحوم وديع فلسطين؟ أجبته بقولي: نعم, أنا هو المرحوم. فاعتذر عن هذا اللبس وإن كان قد اغتبط لأن ملاك الموت تخطَّاني. وقد نصحته بالحتفاظ بالكلمة التي أعدَّها في رثائي فقد يحتاج إليها عمَّا قريب. ولكن الغريب أن ملاك الموت كان السَّباق إلى اختطاف روح هذا العالم الجليل.
*أرجو أن تحدثنا عن صِلاتك بكبار أعلام الأدب في مصر؟
من فضل ربي أنني عرفت كثيرين من أعلام عصري على تفاوت في المعرفة, ولعل للصحافة الفضل الأول في تمهيد سبيل التواصل مع هؤلاء, وكان صديقي المرحوم الدكتور زكي المحاسني يقول لي: أرجو ألا تغتال الصحافة شبابك وتقضي على أدبك. فكنت أقول له إنني أحاول الجمع بين الأكرين –وربما النقيضين- ولكن عندما أوصدت في وجهي أبواب الصحافة تحولت بكل اهتماماتي إلى الأدب, وأصبح لي في هذا المضمار كيان متواضع هيأ لي أن أخالط الأعلام من أساتذة العصر. والذي يرجع إلى الأحاديث المستطردة عن الأعلام التي بدأت نشرها في مجلة "الأديب" اللبنانية, ثم واصلت نشرها في جريدة الحياة اللندنية, وهي في مجموعها 85 حديثاً, يُلاحظ أنني تناولت مفكرين وأدباء وشعراء من مصر والبلاد العربية والمهاجر الأميركية والمستشرقين الذين كانت لي بهم صلة على مدى 59 عاماً هي السنوات التي قضيتها في الجمع بين الصحافة والأدب. وإذا كانت هذه السلسلة توقفت في جريدة "الحياة" لاعتبارات خاصة بها ولا إلمام لي بكنهها فما زال في الجعبة كلام كثير عن اعلامٍ آخرين قد ينطوي مع انطواء العمر, اللهم إلا إن تهيَّأت لي أسباب جديدة لاستئناف الكتابة. وحسبك أن تعرف أن الفصول المنشورة تناولت طه حسين والعقاد والمازني وسيد قطب, وفؤاد صروف, وفارس نمر, واسماعيل مظهر, وسلامة موسى, ومحمد صبري السربوني, والشاعر عبد الرحمن صدقي, وعلى أدهم والمستشرق عبد الكريم جرمانوس, والمستشرق فيليب حتي, والشاعر رشيد سليم الخوري, والأمير مصطفى الشهابي, والشاعر المهجري الياس فرحات, والشاعر المهجري جورج صيدح, والشيخ حافظ وهبة, وعادل وأكرم زعيتر, وإسحاق موسى الحسيني, والقائمة طويلة.
*هل هناك ربط بين الشعر الحديث والأغاني الهابطة؟
إن ما يسمى بالشعر الحديث ليس شعراً أصلاً  ولا مكان له في ديوان العرب إنما هو كلام مرسل سقيم عجز أصحابه أن ينتظموه في وزن وبحر وقافية, وأطلقوا عليه تعسفاً صفة الشعر. والأدهى من ذلك أن كبار النقاد احتفظوا به وجعلوا له دولة زاعمين أن الدنيا تتطور وأن القواعد الجامدة لا بدَّ أن تهدم وأن ما كان يصلح لعصر المتنبي والبحتري والمعري ثم لعصر شوقي وحافظ ومطران لا يصلح لعصرنا "العولمي" الحاضر. ولأن الأغاني تعتمد أساساً على ما يكتبه الشعراء وأشباه الشعراء فقد تحالف المطربون مع أشباه الشعراء لكي يقدموا أغاني تتوجه أساساً إلى العامة والدهماء فانحدر فن الغناء بانحدار كلام العشوائيين من الشعراء وزاد الطين بلة اعتماد المطربين على الرقص والحركات الجسمية النابية, ودع عنك "تطعيم" الأغاني بالراقصات والمشخلعات, وعوضاً عن أن يرفع الشعر من مستوى المطربين, صار أشباه الشعراء يسهمون في إفساد الغناء والطرب. لقد كان المطربون قديماً يتغنون بكلام أحمد شوقي أو حافظ إبراهيم أو علي محمود طه أو إبراهيم ناجي أو أحمد رامي أو صالح جودت. أما مطربو الهوجة الجديدة فلا يعرفون طريق دواوين هؤلاء, إنما يعتمدون أساساً على الكلام الهابط الذي "يلقمهم" إياه أسباه الشعراء, فانهار الطرب بانهيار الشعر وإن كانت مكاسب هؤلاء وأولئك تحصى بالملايين.
*يلاحظ في الأدب مظاليم, تخطتهم الشهرة ولم تسعَ إليهم عضويات المجامع, فما تعليلك لهذه الظاهرة؟
المؤكد أنها ظاهرة مؤسفة, فأن يقضي الأديب عمراً كاملاً في أداء رسالته, ثم تتخطاه الشهرة وأسباب التقدير وعضويات المجامع ولجان الثقافة فهذا تقصير من الجماعة لا يغتفر. وقد سألني الشاعر محمود حسن اسماعيل مرّة عن سرّ احتجاب الشاعر الكبير محمود أبي الوفاء, فقلت له إنه ليس محتجباً, ولكن الجماعة الأدبية هي التي تحجبه, وقلت له مازحاً يبدو أن الشاعر أو الأديب يحتاج إلى الاستعانة بمدير للعلاقات العامة ليروّج لأدبه وشعره في المجتمع ولكي يؤمن له "لطع" صورته في الصحف والمجلات! أما الأديب الذي يحافظ على كرامته ولا يغشى مقاهي الأدباء أو مجالس سمرهم فمحكوم عليه أن يبقى مهدور السبب. والمجامع اللغوية محكومة بقانون يحدد عدد الأعضاء, وهو قانون قديم صدر في وقت كان عدد المؤهلين لعضويته صغيراً نسبياً, أما وقد زاد اليوم عددهم بزيادة الأعداد الغفيرة من أساتذة الجامعات والمشتغلين بالعلوم, فوجب أن يعدل هذا القانون ليوسِّع نطاق العضوية حتى لا يندهش إذا عرفنا أن الشاعر خليل مطران والدكتور مصطفى الشكعة والدكتور مصطفى سويف ليسوا أعضاء في المجتمع.
*أين تجد نفسك في حياتنا الأدبية؟
لا أجد لنفسي أي وجود في حياتنا الأدبية ولعلي أنا المسؤول عن ذلك لأنني آثرت الاعتزال وسئمت تكاليف الحياة الأدبية. ثم إن من عرف وعاشر معظم أعلام عصره تتصاغر في عينيه كثرة من المتصدرين اليوم للحياة الأدبية. والحقيقة أن في حياتنا الأدبية كثيراً من الزيوف, ولعل سبب ذلك أن فصائل اليساريين بكل ألوان الطيف هي التي آلت إليها مصائر الأدب وكوَّنت لنفسها "شلَّة" يروِّج بعضها لبعض. ومن كان خارج هذه الشلة سقط من كل اعتبار أدبي, ولهذا لا نستغرب المنشورات التي تصدرها هذه الشلة في المواقف السياسية والأدبية المختلفة وهي تضمُّ ألف توقيع أو مليون توقيع مصيرها –مع الأسف- الإهمال والنسيان, ثم إنني أدهش لكثرة استعمال عبارة "الإبداع" في وصف أي كلام جرى على قلم أديب أو متأدب, وقد عرفت عشرات من كبار الشعراء والأدباء فلم أسمع من أحد منهم ادعاء بأنه "مبدع" أو بأن ما يكتبه هو "الإبداع" بعينه. لقد كان الشاعر يصف نفسه بأن شاعر وكفى. وكان القاص ينعت نفسه بأنه قاص ولا مزيد, وكان الرائي يطلق على نفسه صفة "الروائي" دون أن يذهب به الشطط إلى حدّ وصفه بأنه "مبدع" وكان الناقد يعتز بكونه "ناقداً" فلا ينتحل لنفسه مزيداً من النعوت الفضفاضة.
ولا بأس أن أذكر هنا من قبيل التفكهة أنه عندما صدر قانون يحتم على كل شخص أن يستصدر بطاقة هوية تقدم الشاعر محمود أبو الوفا للحصول على البطاقة ودوّن في الطلب المقم منه في خانة الوظيفة أنه "شاعر" فبحث موظف السجل المدني في قوائم الوظائف التي أعدها رؤساؤه دون أن يعثر على هذه الوظيفة المنكرة! وطلب منه أن يحدد لنفسه وظيفة من القوائم المقررة. فقال إنه بلا وظيفة لأن الدولة ضنت عليه بإحدى وظائفها وطلب أن يشار إليه إما بأنه عاطل عن العمل, وإما بأنه متقاعد, في حين أن العمل الوحيد الذي يعرفه أبو الوفا عن نفسه هو أنه شاعر. مثل هذا مع الأديب الدكتور كامل السوافيري الذي طلب أن يوصف في بطاقة الهوية بأنه ناقد, وهي وظيفة خلت منها كل القوائم المقررة. وبعد أخذ وردّ وافق موظف السجل المدني على أن يحدد له وظيفة "متقاعد"! ومع اختلاط المفاهيم في يومنا الحاضر, بات مدّعو "الإبداع" يعتبرون كل كلام يصدر عنهم كلاماً شبه مقدس, حتى ولو خرج عن الأعراف والتقاليد أو انحراف عن الأخلاق, وفي هذه الأجواء الغريبة, يحسن بمثلي أن يعتزل تماماً قانعاً من الحياة برضاء الضمير.
*ما رأيك في مستويات الترجمة في يومنا الحاضر؟
كان المتبع في الماضي أن يقع مترجم على كتاب أجنبي يراه جديراً بالترجمة فيعكف على ترجمته ثم يدفع به إلى الناشر لكي ينشره. وكان المترجم يتأهب للنهوض بمهمته بإتقان كامل للغتين اللتين يستخدمهما في الترجمة, والإلمام بموضوع الكتاب الذي يعتزم ترجمته. وهناك مترجمون وقفوا كل حياتهم على الترجمة, ولم يزاولوا عملاً سواها أذكر منهم في فلسطين عادل زعيتر وفي مصر محمد بدران, وإن كان هناك من جمعوا بين الترجمة والتأليف مثل فؤاد صروف واسماعيل مظهر وعلي أدهم وأحمد فؤاد الأهواني وغيرهم.
وكان المترجم في الماضي يحرص أشد الحرص على أن يجيء النص المترجم على مستوى النص الأجنبي من حيث وضوح المعنى وإشراق العبارة ومحاذرة السوقية.
ولكن المتتبع اليوم في الأغلب الأعم هو أن يجيء اختيار الكتاب من جانب الناشر لا المترجم ويقوم الناشر باختيار مترجم يأنس إليه لترجمة الكتاب, وخشية أن تجيء الترجمة معيبة من أي ناحية من النواحي فإن الناشر يعهد إلى مراجع في فحص الترجمة ومضاهاتها بالأصل وتنقيحها حتى تستوفي اشتراطات الترجمة الجيدة.
وعندما كانت مؤسسة فرنكلين الأمريكية ناشطة في ترجمة الكتب الأمريكية كانت تستعين بمراجع لفحص كل كتاب مترجم, مما يدل على أنها لم تكن تطمئن إلى سلامة الترجمة ولا سيما لأنها كانت تستعين بعدد كبير من المترجمين الذين لم ترسخ أقدامهم جميعاً في صنعة الترجمة, فالمترجم المتخصص المجرب لا يحتاج إلى من يراجع عمله أو يعمل فيه قلمه الأحمر مصححاً أو منقحاً, غير أن بعض الناشرين "الشطار" كانوا يتصدون لترجمة الكتب الضخام بتوزيع العمل بين عشرة أو عشرين من المترجمين رغبة في سرعة إصداره دون أن يهتموا بتوحيد الأساليب والمصطلحات ليجيء العمل متكاملاً برغم تعدد القائمين عليه, وما دام الناشر متعجلاً, فالمترجم عجلان بدوره, وهي عجلة تتراءى في ظهور الكتاب مفككاً يفتقر إلى التناسق والسلاسة المطلوبين.
ولكن الترجمة التجارية سرقت المترجمين وكادت تصرفهم عن ترجمة الكتب النافعة, وأقصد بالترجمة التجارية ترجمة التقارير الخاصة بالهيئات الدولية أو محاضر اجتماعاتها أو مذكرات رجال القانون أو الكاتالوجات ونشرات مؤسسات الأعمال وما إليها, فهي ترجمات مطلوبة بشدة وأجورها أعلى من أجور مترجمي الكتب, وأحجامها ضخمة, بحيث لو خيِّر مترجم بين ترجمة "شكسبير" دون أن يطمئن سلفاً إلى وجود ناشر لترجمته, وبين ترجمة تقرير لإحدى منظمات الأمم المتحدة, لآثر العمل الأخير حتى وإن لم يظهر عليه اسمه كمترجم.
ولست أحب التعميم لأنه لا يخلو من ظلم, ولكنني كثيراً ما أصادف ترجمات معيبة تشي بأن المترجم لم يحسن فهم النص أو أنه تنكب عن استخدام المصطلح السليم أو أن أسلوبه معقد أو يفتقر إلى سلامة اللغة. وهناك مثال صارخ على الترحمات المعيبة نبهت إليه مجلة "الرسالة" في وقتها, حيث صدر كتاب مترجم لأستاذ من أساتذة التاريخ في الجامعة, وقامت المجلة برصد عشرات من الأغاليط الغليظة التي وردت في الكتاب, منها مثلاً الإشارة إلى مدينة حلب بالإسم الإفرنجي وهو "ألبو" وإلى مدينة اللاذقية باسمها الأجنبي وهو لاتاكيا" وإلى مدينة الإسكندرونة باسمها اللاتيني "ألكسندريا" وهلم جراً, وكانت فضيحة فضاحة تبين بعدها أن أستاذ التاريخ عهد إلى بعض طلابه في ترجمة الكتاب دون أن يكلف نفسه مؤونة مراجعته, فوقعت فيه هذه الأغاليط الفاحشة.
*حبذا لو حدثتنا عن عملك في الصحافة ومع كبار أعلامها؟
كانت الصحافة في الأربعينات متواضعة الحجم بالقياس إلى الضخامة التي تعرفها صحافة اليوم, فكنا في الجريدة شبه أسرة واحدة صغيرة, عميدها هو رئيس التحرير, وله مساعد هو سكرتير التحرير, وكل من عداهما محرر في الجريدة, وكان باب رئيس التحرير مفتوحاً دائماً على مصراعيه, يلجه أي من المحررين دون استئذان, فلا تعترضه هيئة سكرتارية أو لمبات حمراء. وكان في مقدور رئيس التحرير أن يشرف بنفسه على كل كبيرة وصغيرة في الجريدة, بل إن خليل ثابت باشا محرر المقطم, كان يراجع بنفسه خطب المسؤولين ويصوِّب ما قد يكون فيها من أغاليط اللغة, وكان يقرأ بنفسه حتى الإعلانات المبوبة حتى لا تظهر فيها عيوب لغوية.
ثم أنه كان يعدّ نفسه للناشئة من الصحفيين, فيستدعيهم إلى مكتبه ويلقي عليهم دروساً في المهنة, ويقوّم كتاباتهم إذا ورد فيها خطأ موضوعي أو لغوي. أي أن محرر الجريدة كان في حقيقته مدرِّباً للعاملين في الجريدة, وعنده الجواب السليم  إذا احتاج أي صحفي إلى استيضاح أمرٍ منه, فهو الأستاذ المجرِّب الواسع الاطلاع, وهو لا يضنّ بتجاربه وعلمهعلى من يعملون معه. وما أكثر ما انتفعت بتوجيهاته, واستفدت من واسع علمه, بل إنه حتى بعدما تقاعد من عمله, صار يواليني بتوجيهاته الهاتفية مستدركاً على كلامي أو مثنياً عليه.
ولكن مع تضخم أحجام الصحافة في يومنا الحالي, زالت هذه الروح العائلية التي كانت تتسم بها صحافة الأربعينات, ودخلت النظم البيروقراطية إلى الكيانات الصحفية, فتعددت الألقاب والنعوت, واستقل بعض المحررين بصفحات أو أركان خاصة يطالعها رئيس التحرير كما يطالعها كما يطالعها أي قارئ للجريدة. أي أنه لا يعرف فحواها إلا عند صدور الجريدة في السوق. وهناك فعلاً استحالة تامة في قدرة أي رئيس تحرير على قراءة كل حرف في جريدته قبل النشر, وهو يوكل إلى مساعديه هذه المهمة, كل حسب تخصصه, أما صفحات الإعلانات فقد فشت فيها اللهجة العامية, ودع عنك أغاليط اللغة لأن المعلنين ليسوا فقهاء في النحو والصرف.
وكان من حسن حظي أن عملت في "دار المقتطف والمقطم" مع علماء أفاضل منهم خليل ثابت باشا, والدكتور فارس نمر باشا, والدكتور فؤاد صروف, ونقولا حداد, وإسماعيل مظهر, وكانوا جميعاً يظهرون لي من العطف الأبوي والتشجيع الكريم ما أعانني في دروب الحياة المختلفة. ولأنني كنت أعمل إلى جانب التحرير بتدريس علوم الصحافة في الجامعة الأمريكية في القاهرة, فقد تواصلت مع كبار الصحفيين الذين كنت أدعوهم لإلقاء محاضرات على طلابي مثل فكري أباظة باشا, محمد زكي عبد القادر, وأمينة السعيد, والسيد أبو النجا وسكرتير تحرير الأهرام نجيب كنعان وغيرهم, وكانوا جميعاً يلبون دعوتي بكل ترحاب, ولا أذكر أن أحداً منهم اعتذر لأي سبب من الأسباب.
كان منهم باشوات وبكوات "من العهد الذي يسمونه بالعهد البائد البغيض" ولكنهم كانوا أكثر ديموقراطية وتواضعاً من غيرهم الذي "نفختهم" الصحافة والشهرة, وحتى أنطون الجميل باشا رئيس تحرير الأهرام كان يستقبل في أي وقت كل طارق, فبابه لا يصفع في وجه أحد, وليس له من جحافل السكرتيرين ما يحول بين زائر وبين ولوج بابه. وما دامت الصحافة تتوخى خدمة الناس, فلا يصح أن ينعزل كبير من كبرائها عن التعامل مع الناس. وعندما كان الدكتور فارس نمر باشا في مرض النهاية –بعد 97 عاماً قضاها في الحياة- دعاني لزيارته, واستقبلني في فراشه, وقضى معي أكثر من ساعة وهو يقدم لي النصح والتوجيه ويقول لي: أنا مُوَلٍّ, أما أنت فأمامك مستقبل طويل ومن حقك عليّ أن أمحضك النصح قبل أن أغادر الدنيا, وظل يتكلم, وهو في وعيه الكامل إلى أن انصرفت فدخل في غيبوبة أسلمته للموت بعد يومين.
كان جيلاً يدرك أن الحياة دول, فأسلم الراية إلى الجيل الطالع حتى تتواصل رسالة الصحافة في خدمة المجتمع.
عن مجلة الضاد

 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق