مجلة السنونو (
العدد الثامن ) -
خاطرة
|
عقدة
اللون الواحد
( دلال كباس )
|
عقدة اللــــون الواحد
بقلم الصحفية المغتربة: دلال كباس
في غمرة من
القيل والقال حاولت أن أنفلت من تلك الأجواء التي أخذت تضيق حتى على التنفس ولكن
الى أين؟
أأمعن
بالتوغل في بلاد الآخرين وانا التي ضقت بالغربة وربما ضاقت بي هي أيضاً؟ فما لي
إذاً من ملجأ إلاّ تلك الأرض التي أنبتتني.
وإذا بي
على شواطىء اللاذقية، المدينة التي تجثم كالعرين على مدخل المتوسط وكأنها تسترجع،
مع تمتمة أمواجه الوديعة كالحملان، ذكريات حقبة طويلة من تاريخه لمعت في الزمن يوم
كان صلة الوصل الوحيدة ما بين الشرق والغرب، يحمل للأصقاع الازدهار بسفنه الرائحة
الغادية، ويفيض عليها الخيرات نعما ونموا وبركات .
هذه
المدينة التي تحفظ من الماضي صفحات محفورة في أعماق أعماقها ، طبقات وآثارا وحفريات
، لقد اصبحت (أوغاريت) محجة لكل من يريد أن يعرف حقائق التاريخ من مصادرها فلا
تعكر عليه اهواء المؤرخين صفاء مقصده.
واذا بي
بين أهلي وقومي وعشيرتي، وفي حقبة من الزمن بالذات تعود الى آخر عهدي بتلك الشواطيء
قبل أن تقتلعني السفين الى هذا العالم الجديد.
والناس في
بلادي ككل بلدان العالم يتألفون من كثرة وقلة، وقد تكون حكمة القدرهي التي قسمتهم
هذا التقسيم. إن الكيفية التي تعيشها الأقليات هي خير مقياس لكل قيمة وتقييم، ولكل
ديموقراطية وتسامح ومساواة. فلأحدثكم اذا عن واحدة من هذه الأقليات في بلادي وعن
تلك التي أنتمي اليها بحكم مولدي، فحري بالإنسان أن يبدأ من منطلقه.
اعتاد
المسيحيون في مدينة اللاذقية أن يحتفلوا بأعيادهم الكبرى قبل مطلع الفجر وفي يوم
الفصح تقرع الكنائس أجراسها باكرا منذ الساعة الرابعة صباحا داعية الناس الى
الصلاة، وتتعالى أصوات هذه النواقيس مدوية ، قوية الصدى ، وبقية المواطنين من أهل
المدينة نيام، ومع ذلك فلا من يعترض ولا من يحتج.
وليس هذا
كل شيء، فما أن يرتفع صوت راعي الكنيسة معلنا بأن الفصح قد حلّ حتى يهرع الشبان
بما عرف فيهم من حماس واندفاع ليمطروا دار الصلاة بوابل من المفرقعات وطلقات
البارود ،فيتعالى دويهامن كل جانب حتى كأن السماء قد أطبقت على الأرض. إن التعبير
عن الأفراح الكبرى بمثل هذا الضجيج ومثل هذا الصخب هو عادة متبعة ليس في بلادنا
فحسب بل في جميع بلدان العالم وهي ولا شك عادة موروثة عن الانسان البدائي الذي يأبى
الآ أن يشرك جميع حواسه في التعبير عن مشاعره النفسية وانفعالاته الداخلية.
ولا ينتهي
الأمر عند هذا الحدّ، فما أن ينتهي القداس حتى يسرع المصلون ليرافقوا راعي الكنيسة
الى دارته ويأبوا الا أن يبقى بملابس الصلاة الرسمية، فينصاع لهم وتتألف من الجميع
مسيرة تملأ الشارع طولاً وعرضاً، فينقطع السير وتتعطل حركة المرور أما التراتيل
فترتفع حتى عنان السماء، وأصوات البارود لا تتوقف والساعة لم تتجاوز السادسة صباحا
وكثيرون من الناس ما زالوا يغطون في نومهم بعد، ومع هذا فكل شيء يجري طبيعياً. إن
ممارسة الصلوات أمر محترم، والطقوس مرعية، والوطن بيت لآبنائه أكانوا من الكثرة أم
من القلة.
ولأنتقل
الآن من هذا الشريط الى شريط ثان.
كانت مواكب
الموت في مدينتي تسير على الأقدام حتى مقر الراحل الأخير، وتتصدرها الأيقونات
والصلبان مرفوعة على السواري، ويسير وراءها الكاهن يتلو صلاة الراحل، وكان على تلك
المواكب بحكم وجهتها أن تمر بالأحياء التي يقطن فيها المسلمون من أبناء المدينة
وتتكاثر مقاهيهم ومتاجرهم، ولكن ما ان تصلها حتى ينهض جميع من في تلك المقاهي على
أقدامهم ويرفعوا عن رؤوسهم احتراما الى أن يتوارى الموكب.
وليس ما
أحدثكم عنه حكاية أنقلها عن لسان آخرين، ولا رواية طالعتها في كتاب، ولا قصة
حِكتُها من بنات خيالي، ولكنها حقيقة عشتها فجئت أنقلها صورة صافية لم يطلها غبار.
هكذا يعيش
الناس في بلادي , أخوة ، واحتراما متبادلا ، ولا أظن الا أن الزمن بحكم قاعدة النمو
والتطور ، قد زاد هذا قوة ولمعانا واشراقا ، وأنا لا أتكلم عن مدينة بالذات الاّ
لأتخذها مثلا ونموذجا لبقية المدن والأصقاع في بلادي.
فمن قال
اذا ، ان مصيرنا يتوقف على اللون الواحد والنغم الواحد والعقيدة الواحدة او الدين
الواحد ؟
ان اللون
الواحد ليس شرطا من شروط الانسجام ، وكم من لون رغم وحدة صبغته جعلت عناصر الطبيعة
منه الوانا حائلة لا تروق للعين ولا تسر النظر , والنغم الواحد ليس هو الذي
تطمئن له الأذن وترتاح اليه النفس ، ثم كم من عقيدة انقسمت على ذاتها ، وكم من
دين تشعب الى طوائف ومذاهب وشيع تتضارب وتتباغض وتتناحر وتتصارع. تعدد الألوان
والأنغام والعقائد والأديان ليس مشكلة فينا ما دام كل واحد منا يعرف اين تنتهي
حدوده وأين تبدأ حدود أخيه وقد لازمنا هذا الواقع منذ وجودنا فعايشناه وعايشنا وبه
اندفعنا بالحياة الى الأمام كتفا الى كتف ، اذن فماذا يضرّنا إذا كنا بين الرياض
حديقة تنوعت أزهارها وتعددت رياحينها وكثرت الألوان فيها؟
مشكلتنا
الكبرى هي ان الغريب استطاع ان يتسرب الى بيوتنا في غفلة عنا ، لقد دخل مطابخ
الطعام عندنا وامتدت يده الى القدور الموضوعة على المواقد فراح يضع فيها السم
ويتوارى ، ولما بدت عوارض الداء تظهر على أجسامنا راح كل واحد منا يتهم الآخر
بأنه هو الفاعل .
مشكلتنا هي
أن نكتشف هذا الغريب ،أن نتصدى له قبل أن يوغل في التسرب فيدخل الغرف ويسيطر على
الأبواب ويقبض على المفاتيح ، هي أن نتأكد من سلامة طعامنا الموضوع في القدورقبل
أن نحركه بالمغارف وقبل ان نصبه في الأطباق ونقبل على التهامه ، هي أن نعرف ان كل
ما يصيبنا من عوارض وآلام وأوجاع وأمراض وأسقام مصدرها ذاك الغريب واضع السم في
مراجلنا لا غير .
ومتى تم
لنا هذا ، لم يعد لعقدة اللون الوحيد متسع للتسرب الى صفوفنا ، فنعيش كما عشنا
دائما أخوة يجمعهم الايمان بحب الوطن واسعاد الأمة وسلامة أفرادها والاّ فلا لون
ولا نغم ولا عقيدة ولا معتقد بامكانها ان تجمعنا و توحد ما بيننا .
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق