مجلة السنونو (
العدد الثامن ) -
دراسة
|
رحيل عبد
السلام العجيلي ( بقلم: نبيل سليمان )
|
رحيل عبد السلام العجيلي
الطبيب الذي التحق بـ «جيش الانقاذ» امتهن الفن الروائي و كان
«أروع بدوي في المدينة»
على إيقاع نكبة فلسطين (الأولى) وقيام اسرائيل عام 1948، تطوع نائب شاب في البرلمان
السوري في جيش الإنقاذ: إنه الدكتور عبد السلام العجيلي الذي كان في التاسعة
والعشرين، وقد تخرج قبل ثلاث سنوات من المعهد الطبي العربي في دمشق - كلية الطب في
جامعة دمشق لاحقاً – وكان دخل البرلمان منذ سنة نائباً عن المحافظة التي ينتمي
إليها: الرقة.
مع
أكرم الحوراني وغالب العياش من أعضاء البرلمان، ومع آخرين من خارجه - من بينهم
القيادي الإخواني مصطفى السباعي - مضى ذلك الشاب إلى فلسطين. وقد وشمت روح العجيلي
تلك الشهور القليلة التي قضاها في فوج اليرموك الثاني تحت قيادة أديب الشيشكلي. فمن
تلك التجربة حمل الرجل خيبة مريرة ودائمة، ومتح جملة من أفضل ما كتب من القصة
القصيرة، ومنها قصة «كفن حمود» من مجموعته القصصية (الحب والنفس - 1959). وقبل ذلك،
ومن الحرب نفسها، جاءت في مجموعة «قناديل إشبيلية» قصة «بنادق في لواء الجليل»،
وقصة «بريد معاد».
لعل
للمرء أن يؤكد أن نداء فلسطين كان يدوّم في دخيلة عبد السلام العجيلي منذ تعالت
أصداء ثورة 1936. آنئذٍ، سافر لأول مرة إلى دمشق دون علم أهله، وهو الطالب الذي نال
لتوّه الشهادة الثانوية (البكالوريا) معتقداً أنه استوفى العلم. أما غاية السفر فقد
كانت التطوع في صفوف الثوار. ومنذ ذلك الحين لم يغادر نداء فلسطين عبد السلام
العجيلي. فعلى إيقاع هزيمة 1967 يكتب قصة «نبوءات الشيخ سلمان» من مجموعة (فارس
مدينة القنطرة - 1971) عائداً إلى تجربته في حرب 1948، ليرسم وصول متطوعين في جيش
الإنقاذ إلى قرية بيت جن، حيث تنثال نبوءات الشيخ وأولها موت الطيبين من المتطوعين.
أما غير الطيبين فسيسكبون فشلهم في الحرب قوة، وسيكون لهم سلطان، ولأنهم غير طيبين
ولا خبثاء - في آن - فسيموتون في بلادهم في سبيل فلسطين، ثم: «جماعات إثر جماعات
تتعاقب ثم تنقرض على هذا السبيل. يجيء الطيبون في البدء ويذهبون، ثم الأقل طيبة، ثم
يأتي الخبثاء. نعم. إن الخبثاء لا بد قادمون. أولئك الذين يبيعون أرضهم وملّتهم،
ويتظاهرون بأنهم يضحون في سبيل الأرض والله، ويأتي بعد ذلك الخونة الكاذبون، ثم
خونة صادقون، لا يبيعون الأرض، بل يتنصلون منها. كل من هؤلاء سيأتي بدوره. من ينفض
يده من فلسطين، لأنها وقعت في حفرة أعمق من أن تلحقها يده المنقذة، ومن يبيع آلامها
وأطفالها بفلس أو بضحكة امرأة. ويأتي من دمك ولحمك من يتنصل من فلسطين لأنها تنغص
نومه أو تفقر جيبه. وبعد كل هؤلاء يأتي الآخرون. إذا كان من قبلهم قد قبض الثمن
الذي باعه من تراب الأرض المقدسة، أو من دم أهلها، فإن هؤلاء سيدفعون فوق الأرض
ثمناً لخلاصهم منها ومن أهلها. حينذاك، حينذاك فقط، بعد أن يموت الناس ويحترق
التراب، ويحكم الفاشل، ثم العاجز، ثم الخائن، ثم الفاجر، ثم تهتز جنبات الأرض،
وتحبل الأمة بألم لتلد المنقذ المطهر. هل فهمت ما أقول؟».
إذا
كان إيقاع حربي 1948 و 1967 متعنوناً بفلسطين، يصدح في هذه القصة، فسوف يصدحان
أيضاً في قصة «فارس مدينة القنطرة» من المجموعة التي حملت هذا العنوان. لكن الإيقاع
إياه يحفر في التاريخ هذه المرة ليبلغ الأندلس وهو يطوي الأزمنة ما بين الماضي
البعيد والقريب، وما بين الحاضر والمستقبل. لكأن القصة تشير إلى سقوط مدينة
القنيطرة في حرب 1967، حيث تتصادى الأسباب عبر القرون، في الجاسوسية والخديعة
والخيانة، وبدرجة أدنى كما تعبر القصة، في الفرقة والشقاق.
بعد
قليل من حرب 1948 وبدء مسلسل الانقلابات العسكرية في سورية، خرج عبد السلام العجيلي
من الحلبة السياسية. لكنه عاد إليها حين تولى لستة أشهر من عام 1962 وزارة الثقافة،
ثم جمع إليها وزارتي الإعلام والخارجية في عهد الانفصال الذي أعقب عهد الوحدة
السورية المصرية 1958-1961. ويبدو أن هذا العهد أضاف للسياسة في كتابة العجيلي
عنواناً جديداً إلى جانب عنوان فلسطين، هو الاستبداد، وسيكون للسياسة عنوان آخر هو
حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، فعنوان رابع هو الفساد، وبالطبع ستشتبك هذه
العناوين أو بعضها، في روايات الكاتب بخاصة.
ولد
العجيلي في الرقة عام 1918 - على الأرجح - وتربى على يد جده الصارم تربية اسبارطية
كما يذكر. وقد تلقى تعليمه الابتدائي في الرقة، وحمل الشهادة الابتدائية (السرتفيكا)
عام 1929، ثم مضى إلى تجهيز حلب، لكن المرض أعاده إلى الرقة ليقضي أربع سنوات في
قراءة كتب التاريخ والدين والقصص الشعبي ودواوين التراث الشعري. ثم تابع دراسته في
حلب ودمشق ليعود إلى الرقة طبيباً، ويشرع باب عيادته فيها منذ ذلك الحين حتى نيّف
على الثمانين، إلا أن يكون في واحدة من رحلاته الكثيرة، من دون أن ننسى فترتي
النيابة والوزارة. وهنا يُلاحَظ بقوة أن العجيلي ظلّ يتحوط على حياته الشخصية، كما
يتحوط على حياته السياسية، فلا يبقى للمرء إلا ما يقدر من انسراب السيرة في بعض
كتاباته. ولا يخرج عن ذلك إلا النزر الذي ضمّه كتاب (أشياء شخصية - 1968).
لقد
ظلت الكتابة واحداً من أسرار العجيلي حتى حمل البكالوريا. فقد نشر عام 1936 قصته
الأولى «نومان» بتوقيع (ع ع) في مجلة (الرسالة) المصرية المرموقة. كما نشر بأسماء
مستعارة قصصاً وقصائد وتعليقات في مجلة (المكشوف) اللبنانية وفي سواها من الدوريات
الدمشقية إلى أن فضح السر سعيد الجزائري. ويبدو أن حياة العجيلي الدمشقية، طالباً
ومن بعد نائباً، قد كانت بالغة الثراء. ففي عام 1943 فازت قصته «حفنة من دماء»
بجائزة مسابقة القصة التي نظمتها مجلة الصباح. وفي عام 1945 شارك في رحلة إلى مصر،
وحضر حفلة أم كلثوم السنوية حيث التقى بالشاعر أحمد رامي. كما أنجز في هذه السنة
مجموعته القصصية الأولى «بنت الساحرة» والتي سيتأخر صدورها إلى عام 1948. وفي هذا
العام نظم مع عدد من الظرفاء والكتاب «عصبة الساخرين» من بينهم سعيد الجزائري وعبد
الغني العطري، وكان العجيلي من اقترح للعصبة اسمها.
طالما
ردد العجيلي أن الأدب بالنسبة إليه متعه وهواية، بالكاد يبقى لها من وقته القليل
الذي يفضل عما تقتضيه مهنة الطب والرحلات والأسرة وإدارة إرث أبيه منذ توفي عام
1963، وكذلك السياسة والشأن العام الاجتماعي والسياسي. وها هو يقول: «إنني لا أنظر
إلى الكتابة الأدبية كعمل بل كنوع من أنواع السلوك». وهو لا يعني بذلك أي انتقاص من
الاحتراف. غير أن العجيلي، بعد ذلك كله، كتب وبغزارة القصة القصيرة والمقالة
والرواية، وهو الذي كتب في بداياته الشعر والمسرحية، كما كان لأدب الرحلات
وللمحاضرات منه نصيب كبير.
ففي
القصة القصيرة، وبعد مجموعته الأولى «بنت الساحرة» (1948) كتب المجموعات التالية:
«ساعة الملازم» (1951)، «قناديل إشبيلية» (1956)، «الحب والنفس» (1959)، «الخائن»
(1960)، «رصيف العذراء السوداء» (1960)، «الخيل والنساء» (1965)، «فارس مدينة
القنطرة» (1971)، «حكاية مجانين» (1972)، «الحب الحزين» (1979)، «فصول أبي البهاء»
(1986)، «موت الحبيبة» (1987)، «مجهولة على الطريق» (1997).
أما
الرواية، فقد جاء العجيلي إليها أول مرة عام 1959 بروايته «باسمة بين الدموع»، ثم
تتالت رواياته: «قلوب على الأسلاك - 1974» و «ألوان الحب الثلاثة - 1975» بالاشتراك
مع أنور قصيباتي، و «أزاهير تشرين المدماة - 1977»، و «المغمورون - 1979». وسيكون
علينا بعد ذلك أن ننتظر حتى عام 1998 قبل أن تأتي روايته «أرض السِّيّاد» ثم
«أجملهنّ» عام 2001، ذلك أن ألواناً أخرى من الكتابة ستتقدم على الرواية، وفي رأسها
(المقالة) التي تتلبس بها (المحاضرة)، وفيهما للكاتب: أحاديث العشيات (1965) -
السيف والتابوت (1974) - عيادة في الريف (1978) - سبعون دقيقة حكايات (1978) - في
كل واد عصا - 1984) - حفنة من الذكريات (1987) - جيل الدربكة (1990) - فلسطينيات
عبد السلام العجيلي (1994) - محطات من الحياة (1995) - ادفع بالتي هي أحسن 1997) -
أحاديث الطبيب (1997) ـ خواطر مسافر (1997).
في
هذه الفئة من إنتاج الكاتب يأتي الالتباس أيضاً بالحكاية وبأدب الرحلات. وقد أفرد
الكاتب لهذين اللونين الكتب الثلاثة التالية: حكايات من الرحلات (1954) - دعوة إلى
السفر (1963) - حكايات طبية (1986). وإلى كل ذلك، للكاتب ديوان شعر وحيد هو
«الليالي والنجوم» (1951) وكتاب واحد في المقامة هو «المقامات» (1963) وكتاب واحد
ضمّنه محاورات صحافية هو «أشياء شخصية» (1968)، وكتاب واحد في المراثي التي تعيد
الالتباس بالمقالة والمحاضرة، وهو «وجوه الراحلين» (1982). كل ذلك والكاتب هاوٍ،
فكيف لو كان محترفاً؟
من
تقنيات القص جرّب العجيلي الرسائل والمذكرات والأحلام والمونولوج والتفريع... ولئن
كان ذلك يؤشر بخاصة إلى الكلاسيكية في القص - ومنه تقنيات السرد التراثي العربي -
فليس يخفى ما كان للعجيلي من تجديد في هذه الكلاسيكية. ومن هنا جاء وصف القصة
العجيلية بالكلاسيكية الجديدة أو النيوكلاسيكية. وتلك هي واحدة من بدائع ما كتب:
إنها قصة «سالي» التي يرمح فيها الفضاء بين باريس واستوكهولم ومضرب العشيرة في
البادية، فتُشرع بذلك الكوة على شاغل آخر يتعنون بـ (الشرق والغرب). ولسوف تشغل هذه
الإشارة قصة «رصيف العذراء السوداء» أيضاً، وهي القصة التي تضاعف في قصص العجيلي
التباس التجنيس بين القصة والرواية، بين القصة الطويلة والرواية القصيرة. كما تنسرب
الحكاية إلى ما كتب العجيلي من القصة، وتتلبس بها، والأمر نفسه يبدو فيما كتب من
أدب الرحلات ومن المقالة. والأمر هو كذلك فيما كتب من الرواية والمقامة. ولعل جماع
ذلك يؤكد للعجيلي لقب الحكواتي إضافة إلى ألقاب الروائي والقاص والمحاضر والرحالة
والمثقف، من دون أن ننسى لقبي الطبيب والسياسي، ومن دون أن ننسى الشاعر وكاتب
المقامة. وهنا أذكر نص المقامة النهدية التي أرسلها نزار قباني من أنقره - حيث كان
يعمل في السفارة السورية - إلى العجيلي الذي ردّ عليها بالمقامة القنصلية (1949)
وسمى فيها نزار قباني بصريع الغواني أبي النهد الأشقراني، ومنها ما ينظمه العجيلي
على لسان قباني معرّضاً بديوانه الأول «قالت لي السمراء»:
قالت
لي السمراء انك باردُ/ فأجبتها بل أنت مني أبرد
ترمين
بالنعل العتيقة عاشقاً/ يروي حكايات الغرام وينشد
وقد
جاءت المقامة الباريسية (1952) في هيئة رسالة أيضاً أرسلها العجيلي من الرقة إلى
صحبه في باريس، ومنهم عبدالرحمن بدوي ويونس بحري وأديب مروة... وبهذه المقامة ودّع
العجيلي هذا اللون/ الألهية من الكتابة، من دون أن يتخلى عن السخرية والإخوانيات في
بعض كتاباته التالية غير الإبداعية.
عن
روايته الأولى «باسمة بين الدموع» يقول العجيلي إن رياض طه صاحب مجلة الأحد
اللبنانية ظل يلح عليه حتى تعاقد معه على أن يكتب للمجلة رواية مسلسلة. وفي عودته
من بيروت تدهورت سيارته فكتب عن ذلك الحلقة الأولى في الرواية الموعودة، ثم تتالت
الحلقات، وكانت الرواية الأولى للكاتب.
وفي
تقديم جاك بيرك لترجمة رواية «قلوب على الأسلاك» إلى الفرنسية تحت عنوان «دمشق
القطار المعلق»، يصف بناءها بالكلاسيكي الضخم المحكم والسيمفوني والزاخر بعشرات
اللوحات والأحداث والمحاور. لكن بيرك لم يأبه بالانشغال الكبير للرواية بالوحدة،
وهو ما سيشغل رواية العجيلي التالية «ألوان الحب الثلاثة». ولقد كنت أثناء إقامتي
في الرقة التقيت عبدالسلام العجيلي في بيته بصحبة أنور قصيباتي، وحدثنا عن رواية لم
يستطع إكمالها ولا ينوي العودة إليها، هي «ألوان الحب الثلاثة». وانتهى اللقاء
بالاتفاق على أن يكمل الزائران الرواية، لكنني شُغلت عن الأمر بمشروعاتي، بينما
تابعه أنور قصيباتي، فجاءت الرواية تحمل اسمه واسم عبدالسلام العجيلي.
قدم
العجيلي أربع روايات في سبعينات القرن الماضي. لكن ما يقرب من العقدين سينقضي قبل
أن تأتي الرواية الخامسة «أرض السِّياد»، وبالفضاء نفسه الذي كان لرواية
«المغمورون»: فضاء الرقة. ثم كان الختام في رواية «أجملهن» (2001).
بكل
ما تقدم باتت لعبد السلام العجيلي مكانته الكبرى، مما جعل جان غولميه يقول فيه:
«غوته وستاندال وفلوبير أسماء أعلام في الأدب مشهورة، وعبد السلام العجيلي يستحق أن
يشبه بأساتذة فن الرواية الكلاسيكية هؤلاء». ولقد قال نزار قباني في العجيلي أيضاً:
«أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته الصحراء». فأثر عبدالسلام العجيلي الذي
انطلق منذ ستين سنة من دائرته الصغرى (الرقة)، سرعان ما دوّى في الكتابة وفي الحياة
الثقافية والعامة في الفضاء السوري بخاصة، وفي الفضاءين العربي والعالمي بعامة. (عن
الحياة).
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق