الأحد، 22 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الثامن ) - أقواس - يوميات ( محمود درويش )

مجلة السنونو ( العدد الثامن ) - أقواس 
يوميات  ( محمود درويش )

  البنت / الصرخة
على شاطئ البحر بنتٌ, وللبنت أهلٌ
وللأهل بيتٌ. وللبيتِ نافذتان وبابْ...
وفي البحر بارجةٌ تتسّلَّى بِصَيدِ المُشاةِ
على شاطئ البحر: أربعةٌ, خمسةٌ, سبعةٌ يسقطون على الرَّمل. والبنتُ تنجو قليلاً
لأن يداً من ضبابْ
يداً ما إلهيَّةً أسعَفَتها. فنادت: أبي
يا أبي! قمْ لنرجع, فالبحر ليس لأمثالنا!
لم يُجِبْها أبوها المُسجَّى على ظلِّهِ
في مهبِّ الغِيابْ
دمٌ في النخيل, دمٌ في السَّحابْ
يطير بها الصوتُ أعلى وأَبعدَ من
شاطئ البحر. تصرخ في ليل بَرِّيةٍ,
لا صدى للصدى.
فتصير هي الصَّرْخَةَ الأبديَّةَ في خَبَرٍ
عاجل لم يعد خبراً عاجلاً عندما
عادت الطائرات لتقصف بيتاً بنافذتين وبابْ!.
  أبعد من التماهي
أجلس أمام التلفزيون, إذ ليس في وسعي أن أفعل شيئاً آخر. هناك, أمام التلفزيون, أعثر على عواطفي. وأرى ما يحدث بي ولي. الدُّخانُ يتصاعد مني, وأَمدُّ يدي المقطوعة لأمسك بأعضائي المبعثرة من جسوم عديدة, فلا أجدها ولا أهرب منها من فرط جاذبيِّة الألم. أنا المحاصر من البرِّ والجو والبحر واللغة. أقلعت آخرُ طائرةٍ من مطار بيروت, ووَضَعَتْني أمام التلفزيون, لأرى بقية موتي مع ملايين المشاهدين. لا شيء يثبت أني موجود حين أفكر مع ديكارت, بل حين ينهض مني القربانُ, الآن, في لبنان. أدخل في التلفزيون, أنا والوحش. أعلم أن الوحش أقوى مني في صراع الطائرة مع الطائر. ولكني أدمنتُ, ربما أكثر مما ينبغي , بطولَةَ المجاز: التَهَمني الوحش ولم يهضمني. وخرجتُ سالماً أكثر من مرة. كانت روحي التي طارت شعاعاً مني ومن بطن الوحش تسكن جسداً آخر أخفَّ وأقوى. لكني لا أعرف أين أنا الآن: أمام التلفزيون, أم في التلفزيون. أما القلب فإني أراه يتدحرج, ككوز صنوبر, من جبل لبناني إلى غزة!.
  ليتني حجر
لا أحنُّ إلى أيِّ شيء
فلا أمس يمضي, ولا الغدُ يأتي
ولا حاضري يتقدَّمُ أو يتراجعُ
لا شيء يحدُثُ لي!
ليتني حجرٌ –قلتُ- يا ليتني
حَجَرٌ ما ليصقلني الماءُ
أَخضرُّ, أصَفرُّ... أُوضع في حجرةٍ
 مثل مَنْحُوتةٍ, أو تمارين في النَّحتِ,
أو مادَّةَ لانبثاق الضروريِّ
من عَبَث اللاضروريّ...
يا ليتني حَجَرٌ
كي أحنَّ إلى أيِّ شيء!
  نيرون
ماذا يدور في بال نيرون, وهو يتفرج على حريق لبنان؟ عيناه زائغتان من النشوة, ويمشي كالراقص في حفلة عرس: هذا الجنون, حنوني, سيِّد الحكمة, فلتشعلوا النار في كل شيء خارج طاعتي... وعلى الأطفال أن يتأدبوا ويتهذبوا ويكفوا عن الصراخ بحضرة أنغامي!
وماذا يدور في بال نيرون, وهو يتفرج على حريق العراق؟ يسعده أن يوقظ في تاريخ الغابات ذاكرة تحفظ اسمه عدواً لحمورابي وجلجامش وأبي نواس: شريعتي هي أُمُّ الشَّرائع. وعشبةُ الخلود تنمو في مزرعتي. والشعر, ما معنى هذه الكلمة؟
وماذا يدور في بال نيرون, وهو يتفرج على حريق فلسطين؟ يبهجه أن يُدرج اسمه في قائمة الأنبياء نبيِّاً لم يؤمن به أحدٌ من قبل. نبيِّاً للقتل كَلفَهُ الله بتصحيح الأخطاء التي لا حصر لها في الكتب السماوية: "أنا أيضاُ كليم الله"!
وماذا يدور في بال نيرون وهو يتفرج على حريق العالم؟ "أنا صاحب القيامة". ثم يطلب من الكاميرا وقف التصوير, لأنه لا يريد لأحد أن يرى النار المشتعلة في أصابعه في نهاية هذا الفيلم الأمريكي الطويل!.
  الغابة
لا أسمع صوتي في الغابةِ, حتى لو
خَلَتِ الغابةُ من جوع الوحش... وعاد
الجيشُ المهزوم أو الظافرُ, لا فرق, على أشلاء الموتى المجهولين إلى الثكنات أو العرش/
ولا أسمع صوتي في الغابة, حتى لو
حَمَلتهُ الريح إليّ, وقالت لي:
"هذا صوتك"... لا أسمعه/!
لا أسمع صوتي في الغابة حتى
لو وَقَفَ الذئبُ على قدمين وصفَّقَ
لي: "إني أسمع صوتك, فلتأمرني!/
فأقول: الغابةُ ليست في الغابة,
 يا أبتي الذئبَ ويا ابني!/
لا أسمع صوتي إلاّ إن خَلَتِ
الغابة مني, وخلوتُ أنا من
صمت الغابة!
  البيت قتيلاً
بدقيقةٍ واحدة, تنتهي حياةُ بيت كاملة. البيت قتيلاً هو أيضاً قَتْلٌ جماعيٌّ حتى لو خلا من سكانه. مقبرة جماعيَّةٌ للمواد الأولية لبناء مبنى للمعنى, أو قصيدةٍ غير ذات شأنٍ في زمن الحرب. البيت قتيلاً هو بَتْرُ البلاغة نحو التبصُّر في حياة الشء. في كل شيء كائنٌ يتوجّع... ذكرى أصابع وذكرى رائحة وذكرى صورة. والبيوت تُقْتَلُ كما يُقتل سكانها, وتقتلُ ذاكرة الأشياء: الحجر والخشب والزجاج والحديد والاسمنت تتناثر أشلاء كالكائنات. والقطن والحرير والكتان والدفاتر والكتب تتمزق كالكلمات التي لم يتسنَّ لأصحابها أن يقولوها. وتنكسر الصحون والملاعق والألعاب والأسطوانات والحنفيات والأنابيب ومقابض الأبواب والثَّلاجة والغسَّالة والمزهريات ومرطبانات الزيتون والمخللات والمعلبات كما انكسر أصحابها. ويُسحق الأبيضان الملح والسكر والبهارات وعلب الكبريت وأقراص الدواء وحبوب منع الحمل/ والعقاقير المنشطة وجدائل الثوم والبصل والبندورة والبامية  المجففة والأرُزُّ والعدس كما يحدث لأصحابها. وتتمزق عقود الإيجار ووثيقة الزواج وشهادة الميلاد وفاتورة الماء والكهرباء وبطاقات الهوية وجوازات السفر والرسائل الغرامية كما تتمزّق قلوب
أصحابها. وتتطاير الصور وفُرَشُ الأسنان وأمشاط الشَعر وأدوات الزينة والأحذية والثياب الداخلية والشراشف والمناشف كأسرار عائلية تنشر على الملأ والخراب. كل هذه الأشياء ذاكرة الناس التي أفرغت من الأشياء وذاكرة الأشياء التي أفرغت من الناس... تنتهي بدقيقة واحدة. إن أشيائنا تموت مثلنا, لكنها لا تدفن معنا!
  البعوضة
البعوضة, ولا أعرف اسم مذكَّرِها في اللغة, أشدُّ فتكاً من النميمة. لا تكتفي بمصِّ الدم, بل تزجُّ بك في معركة عبثية. ولا تزور إلا في الظَّلام كحمَّى المتنبي. تَطِنُّ وتزنُّ كطائرةٍ حربية لا تسمعها إلا بعد إصابة الهدف. دَمُكَ هو الهدف. تشعل الضوء لتراها فتختفي في ركن ما من الغرفة والوساوس, ثم تقف على الحائط... آمنةً مسالمةً كالمستسلمة. تحاول أن تقتلها بفردة حذائك, فتراوغك وتفلت وتعاود الظهور الشامت. تكرّر محاولتك وتفشل. تشتمها بصوتٍ عالٍ فلا تكترث. تفاوضها على هدنةٍ بصوتٍ ودّيّ: نامي لأنام! تظنّ أنك أقنعتَها فتطفئ النور وتنام. ولكنها وقد امتصَّت المزيد من دمك تعاود الطنين إنذاراً بغارة جديدة. وتدفعك إلى معركة جانبية مع الأرق. تشعل الضوء ثانية وتقاومهما, هي والأرق, بالقراءة. لكن البعوضة تحط على الصفحة التي تقرؤها, فتفرح قائلاً في سرِّك: لقد وَقَعَتْ في الفخّ. وتطوي الكتاب عليها بقوة: قتلتُها! وحين تفتح الكتاب لتزهو بانتصارك, لا تجد البعوضة, ولا تجد الكلمات. كتابك أبيض. البعوضة, ولا أعرف اسم مذكَّرِها في اللغة, ليست استعارةً ولا كنايةً ولا توريةً. إنها حشرة تحبّ دمك. تشمُّه عن بعد عشرين ميلاً. ولا سبيل لك لمساومتها على هدنةٍ غير وسيلة واحدة هي: أن تغيِّر فصيلة دمك!
 
  بقية حياة
إذا قيل لي: ستموتُ هنا في المساء
فماذا ستفعل في ما تبقَّى من الوقتِ؟
-أنظرُ في ساعة اليدِ/
أشربُ كأسَ عصيرٍ,
وأقضم تُفَّاحَةً,
وأطيلُ التأمُّلَ في نَمْلَةٍ وَجَدَتْ رزقها,
ثم أنظر في ساعة اليدِ/
ما زال ثمَّة وقتٌ لأحلق ذقني
وأغطس في الماء/ أهجس:
"لا بدَّ من زينة للكتابة/
فليكن الثوبُ أزرق"/
أجْلسُ حتى الظهيرة حيّاً إلى مكتبي
لا أرى أَثر اللون في الكلمات,
بياضٌ, بياضٌ, بياضٌ...
أُعدُّ غذائي الأخير
أصبُّ النبيذ بكأسين: لي
ولمن سوف يأتي بلا موعد,
ثم آخذ قَيْلولَةً بين حُلْمَينْ/
لكنّ صوت شخيري سيوقظني...
ثم أنظر في ساعة اليد:
ما زال ثمّةَ وقْتٌ لأقرأ/
أقرأ فصلاً لدانتي ونصْفَ مُعَلَّقةٍ
وأرى كيف تذهب مني حياتي
إلى الآخرين, ولا أتساءل عَمَّنْ
سيملأ نقصانها
–هكذا؟
-هكذا, هكذا
–ثم ماذا؟
-أمشّط شَعْري, وأرمي القصيدة...
هذي القصيدة في سلة المهملات
وألبس أحدث قمصان إيطاليا,
وأشيِّع نفسي بحاشيةٍ من كمنجات إسبانيا
ثم أمشي إلى المقبرةْ!
 
                            الكرمل (89­-88) 2006

 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق