مجلة السنونو (
العدد الثامن ) -
أقواس
|
محمد
الماغوط هذا الطفل الكبير
( محمد علي الاتاسي )
|
محمد
الماغوط
هذا الطفل الكبير هذا المتألم كالماء حول السفينـة
محمد علي الاتاسي
في عام 1998، صدرت "أعمال محمد الماغوط" عن "دار المدى" في دمشق، من دون أن تلقى
اهتماماً عميقاً وواسعاً في الصحافة الثقافية، يعيد قراءة شاعر يتمتع بهذا القدْر
من فرادة التجربة، الإنسانية واللغوية. منذ ذلك الحين، يحاول كثر من أصدقائنا
الشعراء والكتّاب والصحافيين "أسر" هذا النسر البدوي في مقابلة صحافية لـ "الملحق"،
لكن من دون جدوى. في الأمس القريب، استطاع زميلنا محمد علي الأتاسي أن "يسرق" من
الماغوط أجوبةً هي ردود على أسئلة، بل خلاصة أكثر من جلسة حول آرائه في الحياة
والكتابة والشعر والشعراء ودمشق وبيروت والسجون والحرية وهلمّ جراً. وكان زملاؤنا
الشعراء أكرم قطريب وشاكر الأنباري وعادل محمود قد أرسلوا مقالات تريد لنفسها أن
تكون تحية أكثر منها قراءةً نقديةً لشعرية الماغوط وتجربته، مضافةً إلى صور نادرة
أمدنا بها الصديق محيي الدين نصرة، فضلاً عن مقال عقل العويط. في هـذا العـدد، لا
نحاول أن نكوّن ملفاً، بقدر ما نذكّر أنفسنا وأصدقاءنا وقرّاءنا بشاعر عريق يدمن
الجروح والأوجاع ويتألم كالماء حول السفينة ويستحق الكثير من العرفان والتقدير.
"الملحق"
العزلـة
نادراً ما ألتقي أحداً. أحب الوحدة وأتحاشى قدر الإمكان الناس.
أكثر ما
يضايقني هو أن يأتي لزيارتي ضيف، خصوصاً إذا كان من الأقرباء الذي لا حديث مشترك
بيني وبينه.
لم يصبني
اليأس في عمري، كما أصابني في الشهور الأخيرة. قنوط شديد، حتى أنني أحياناً أكره
الكتابة.
واليوم
الذي يمر دون أن أكتب، يكون أتعس الأيام.
أنا إنسان
تعيس، لم أعرف في عمري الفرح.
أحب الليل
كثيراً، لكنني أصبحت أصاب بالنعاس الرهيب بدءاً من الساعة الخامسة مساء، فأمضي
الليل بين النوم واليقظة، متمدداً على الأريكة في غرفة الجلوس.
الكراهية والصداقة
أنا لا
أكره أحداً ولا أحب أحداً.
لم أكره
وأحب في حياتي سوى الفقراء.
ليس هناك
في الكراهية أنواع، كما ليس في الشرف أنواع.
ليس هناك
أسهل من الاحتيال عليّ. عندما يبكي أحدهم أمامي، أصدّقه فوراً.
أنا لا
أجدد في صداقاتي أو في عداواتي. الأعداء يأتون بأنفسهم، بشكل عفوي.
أصدقائي
منذ أيام السجن لا يزالون أصدقائي.
أشعر بحنين
إلى أصدقائي القدامى في بيروت.
أدونيس وخالدة سعيد
أنا لا
أكره أدونيس.
أدونيس
مجلة "شعر"، ليس أدونيس اليوم.
رغم أن أدونيس هو أول من قدّمني لمجلة "شعر"، لكنه لم يكن يدرك من يقدّم.
أدونيس
يريد من حوله مريدين لا أنداداً.
خالدة سعيد
كانت أهم امرأة في سوريا، في النضال وفي الكتابة، لكنه غطى عليها.
كانت يجب
أن تكون أهم من ناقدة: روائية أو مسرحية.
أنسي الحاج
أحب أنسي،
ولا أفصل في علاقتي مع الشعراء بين الإنسان وشعره. أنسي قريب من الذي يكتبه، وهو
يشبه شعره. لم أره منذ سنوات. زمن بعيد. مشتاق إليه.
أجمل مقابلة لي، أجراها أنسي ونشرها في "الملحق". كنا في دمشق برفقة فيروز، وتمشينا
في الطريق، لم يسجل شيئاً وكتبها من ذاكرته.الشام
لم أعد
للعيش في بيروت بعد إلغاء أمر إبعادي عنها في بداية السبعينات، بقيت في الشام. هنا
أشعر نفسي أقوى، لأنني أكتب وأنتقد من داخل بلدي.
أحن إلى
الشام التي عرفتها، لا إلى شام السلطة. كتبت مرة: كل ما أريده من مدينتي الحديثة،
هو أرصفتها القديمة.
أغلق مقهى
أبو شفيق في مدخل دمشق. لم تعد قدماي تسمحان لي بالمشي الطويل. أحن إلى المشي كما
أحن إلى مقهى أبو شفيق. ثلاثون سنة من عمري وأنا أمشي كل صباح إلى هذا المقهى وأكتب
فيه.
الشام تحب
دائماً الغريب.
نعم أشعر
بنفسي غريباً في الشام.
الشام لا
تحب أحداً.
كتبتُ عنها
مرة: المدينة التي أعطيتها صدري أربعين عاماً، لا أجرؤ أن أعطيها ظهري ثانية واحدة.
حتى في السلمية أشعر بنفسي غريباً، فالناس تبدلت أكثر من تبدل الأمكنة.
كل القضايا
الكبرى انتصرت عليها، وهزمتني القضايا الصغرى كتسديد فاتورة الكهرباء.
علاقتي
بالشام قضية كبرى. وأنا أثبت وجودي.
الشام مثل
البنت التي أحببتها في صغري ورأيتها بعد خمسين عاماً. أصبحت مرعبة.
فجري كان في لبنان وغروبي في دمشق.بيروت
أحن كثيراً
إلى بيروت الخمسينات.
بيروت ـ
صور المعممين في كل مكان، ليست بيروت التي أعرفها.
بيروت
السابقة لن تعود قطعاً. دورها انتهى، لأنه كان مؤثراً على إسرائيل وهذا ممنوع.
رجلاي
تؤلمانني جداً، لم أعد قادراً على المشي. وأنا أحب بيروت لأمشي في شوارعها، لا
لأركب التاكسي.
حدود بيروت
التي أعرفها هي شارع الحمرا، شارع بلس والروشة.
مركز
المدينة الحالي:
أنا أكره
المال ورأس المال.
في
الحمراء كان هناك مقهى واحد على الزاوية اسمه النغرسكو، نجلس فيه أنا وليلى بعلبكي،
ودائماً كان هناك عتمة.
شارع
الحمراء كان بالنسبة لي أجمل من الشانزليزيه، لكنه الآن صار مثل شارع الشانزليزيه:
كله عرب.
من أجمل
السهرات في بيروت تلك السهرة التي جمعتنا بفيروز والرحابنة ويوسف الخال ونازك
الملائكة، ومن يومها وأنا صديق للرحابنة وفيروز.
في بداية
الستينات أجبرت على مغادرة بيروت، وبقيت عشر سنين مبعداً قسراً عنها.
كانت فترة
مرة في حياتي، ولليوم أرى بيروت في منامي.
أحلم أنني
دائماً بعيد عن مكان إقامتي. لكــن لا أعرف ما هو مكان إقامتي: بيروت... الشام. أرى
أحياء وأرى نفسي بعيداً عن بيتي وضائعاً، أحاول أن أصل إليه ولا أستطيع. بعيد.
وضواح ومستنقعات وأنهر وسلالم وقطط وكلاب وشرطة، وأنا حفيان. دائماً حفيان.
بيروت لم
تنتزع الشام من قلبي.
المثقفون والرقيب
والسياسة
جيلي غير
جيلك، أنت من جيل الشعارات وصعب عليك أن تفهم.
أكره جو
الأدباء والمثقفين، وأكره جلساتهم ونقاشاتهم، وأحاول دائماً أن أبقى بعيداً عنهم.
أيام مجلة "شعر" كنت أكثر الموجودين صمتاً.
أنا لم
أوقع في عمري ولن أوقع أي بيـــان أو عريضة. عندي رأي، لم أكتبه باسمي الصريح.
غالباً ما
يكون موقعو هذه البيانات، ثلاثة أرباعهم ملغومون والربع الباقي مرشح في مرحلة
الاختبار.
في داخلي
رقيب ذاتي، لكن أصبح عندي حرفة وأستطيع أن أتحايل عليه.
الجمال
يقتل الرقيب. أنت قوي ولا أستطيع عليك، أحاول كرسام الكاريكاتور أن أجد لك عقب
أخيل.
صحيح أن
مسرحياتي أضحكت السلطة، لكن هذا لا يعني شيئاً ما دام المعيار هو شعبيتها لدى الناس
كافة.
حتى الجلاد
عندما يجلد، يرتاح قليلاً ويقرفص ويدخن سيكارة.
حاولت أن
أعمل بعد ذلك في المسرح مع الجيل الجديد، لكنهم سرقوني وسرقوا ثيابي وسرقوا الغلة.
مستحيل أن
أكتب زاوية دون ذكر الحرية أو السجون. أما لماذا لا أذكر أسماء السجون والسجناء،
فلأنه ممنوع أن تذكر. يجب أن تعمم، هذه خبرة. أنا أحياناً لا أجرؤ على ذكر اسم
الشام.
أنا مسكون
بالذعر وأي شيء يخيفني. الصديق يخيفني، الجار يخيفني، فاتورة الكهرباء تخيفني. أين
سأذهب وكيف سأدفعها.
أنا محمد
الماغوط أينما كنت، في الشام، في بيروت، في الحمراء، في أبو رمانة، في الشانزليزيه،
في السجن، في المرحاض. أنا أنا محمد الماغوط.
أنا الوحيد
الذي لم يتغير ولم يتقولب. كبرت وصرت على أبواب السبعين: مرض، غم، حياة، وأنا أنا.
إذا كان
هناك بعض الناس التي لا تزال تكن لي الاحترام، فلأنني لم أبدل من موقف إلى آخر، من
اليمين إلى اليسار، من الشرق إلى الغرب.
نعم تكلفت
الدولة علاجي عندما مرضت. لم أشعر بالحرج وأحسست أنه لا يزال هناك خير في البلد.
أنا أسم أدبي وهم يهتمون بالأسماء الأدبية.
أنا لا
أباع ولا أشترى، ومنذ الخمسينات الجميع يعرف ذلك بدءاً من أصغر ضابط مخابرات.
أنا أتنازل
عن مليون شيء ولكن لا أتنازل عن قلمي.
لا مال ولا
سلطة ولا امرأة تعوضني عن الكلمة.
كلما تقدم
الإنسان في العمر تصير المسؤولية أكبر في الحفاظ على المكانة التي وصل إليها.
الصعود صعب، لكن السقوط ولا أسهل، خير مثال هو دريد لحام.
عندي حنين
إلى فكرة القومية السورية، هي أصفى فكرة على الإطلاق ومن أجل ذلك قتلوا أنطون سعادة
هذا القتل المبكر.
الانتماءات
لا تشغلني، وما في بطاقتي لا يعني بالنسبة إليّ شيئاً، على عكس ما في دفاتري. لست
فخوراً بكوني عربياً ولا حتى بكوني سورياً.
أنا لست
بمنظّر، سخرت من البترول مليون مرة. اليوم هو زمنهم ومرحلتهم.
إنهم
يمسكون الوطن العربي من رقبته ومن معدته ويمنعون عنه الحراك.
إننا نعيش
في مرحلة انحطاط، والآن هو العصر الذهبي لما سيأتي بعد.
كتاباتي في
"الوسط" مرّة، سوداء، قاتمة بشكل مرعب، سخريتي تقطر مرارة.
أنا في
طبعي لست سياسياً، عندي هموم أكبر من السياسة. عرضوا عليّ العمل في "الوسط" وقلت
سأكتب. لو لم يكن عندي شيء لأقوله ما كنت كتبت.
أنا لا
أكتب من أجل الفلوس.
كنت أريد أن أضع عنواناً لكتابي الجديد: "شرق عدن، غرب الله"، لكن الصحف رفضت نشر
العنوان، فوضعت عنوان "سياف الزهور".الغرب والعرب
كلما سافرت
إلى أوروبا، أذهب وأنا أشتم وأعود وأنا أشتم.
لا أطيق أن
أبقى هناك، فالتدخين ممنوع في كل مكان، في الطائرة، في المقهى، في الفراش.
في سجن
المزة كنت أدخن بسهولة وحرية أكبر من أوروبا.
أكره
أميركا بشدة. في حرب البلقان وقفت إلى جانب يوغوسلافيا، وصادف وجودي في فيينا خلال
تلك الفترة، ورأيت مظاهرات بالأحمر، بالأزرق، وبالأخضر في كل مكان. أردت أن أتظاهر
ضد أميركا، رفعت عكازي ملوحاً ودخلت إحدى المظاهرات، فاستوقفني بعض الأصدقاء وقالوا
لي: وين رايح، هذه مظاهرة تأييد لأميركا.
لا أخرج في
مظاهرات في بلدي، لأن كل شيء هنا مرتب. أنا أكره الترتيب، حتى الرجل الأنيق أكرهه.
وطني هو
دفتري، وأنا أتظاهر في دفتري فقط.
إذا صار في
بلادنا مظاهرات غير مرتبة، يومها سنحّن لتلك المرتبة.
الناس
فارغة، وليس هناك من شيء. الرأسمال يحرك العالم. أنه زمن أميركا، زمن قضي فيه على
كل شيء جميل.
زرت روسيا
وأحببت شعبها. شعب سوداوي يحب الشرب. لكن أين هو ذلك الزمن الذي كنت تجد فيه في كل
أنحاء روسيا عند الساعة السادسة صباحاً الخبز والبيض والحليب؟ أين طغاة ذلك الزمن
وأين ستالين من طغاة اليوم وبهدلتهم؟
سجن المزة
الذي
فتّحني على الحياة وصنع مني شاعراً هو سجن المزة. عندما دخلته أحسست أن شيئاً في
أعماقي تحطم، وإلى اليوم لا أزال أحاول أن أرممه.
كنت أريد
الدراسة في الكلية الزراعية، لكن بعد السجن أدركت أن اتجاه حياتي تغير.
أمضيت فيه
9 شهور في العــــام 1955 و 3 شهور في العام 1961.
أنا
وأدونيس دُشّن فينا عصر الإرهاب كنا في زنزانتين منفصلتين وكنت أراه من بعيد. ألفتُ
بعض المسرحيات في السجن ومثلتها بمشاركة بعض المسجونين.
لم أكن
قابضاً الحزب القومي السوري، ولم أصمد من أجله، ولكن لأن طبعي عنيد. كنت أول من
يبكي ويصرخ أثناء التحقيق.
أنا إنسان مذعور لا أخاف السجن فقط، ولكن أشمئز منه وأحتقره.الكتابة بين النثر والشعر
أريد أن
ألغي المسافة بين هذه التعريفات: النثر، الشعر، المقالة. كلها عندي نصوص.
إذا قلتَ
عني لست بشاعر، لن أزعل ولن تهتز بي شعرة.
الموسيقى
في أشعاري موجودة ضمن النص. علاقة الكلمات بعضها ببعض في النص مثل علاقة الأخ بأخته
وهما نائمان على فراش واحد، أي حركة منه أو منها تفسَّر.
علاقة
الكلمات بعضها ببعض كالحب الحرام، وفي القصيدة يجب أن لا يكون هناك أي إشارة خاطئة
من هذا النوع. وهذه هي الموسيقى.
كل كلمة في
اللغة العربية هي كلمة شعرية، حتى الجيفة، حتى البراز، المهم أن تعرف كيف تضعها في
النص.
المهم أن
أكون صادقاً وأن يكون ما أكتبه جميلاً.
كل قطعة
أكتبها، أبيّضها عشرات المرات قبل النشر مدققاً في كل حرف. أحياناً أبقى يومين اسأل
نفسي أيهما أفضل وأقوى وأصح في هذه الجملة الـ "بي" أم الـ "في".
أحب واو
العطف، لكني أحب كاف التشبيه أكثر، خصوصاً في المناداة.
منذ أيام
بيروت جعلت من صور كاف التشبيه صوراً قوية على عكس المتعارف عليه:
كإمرأتين
دافئتين
كليلة
طويلة على صدر أنثى
أنت يا
وطني.
عدم معرفتي
باللغات الأجنبية أراحني من الثقافة.
سنية
تعرفت
على سنية لأول مرة عند أدونيس وخالدة في بيروت.
هي الحب
الوحيد. نقيض الإرهاب ونقيض الكراهية.
عاشت معي
الفترة الصعبة. وأحملها في داخلي دائماً.
عاطفتي شموس وهي ليس مطواعة.
كل ما
أكتبه فيه شيء من السلمية، فيه شيء من الشام، فيه شيء من بيروت، فيه شيء من سنية.
سنية أكبر
من مدينة، إنها كون.
بعد موتها
صار حبها يشبه حب السلمية، تمر عشر سنين ولا تراها لكنك تظل تتذكرها. يستحيل أن
يمضي يوم دون أن أذكر السلمية أو أذكر بيروت.
سنية شاعرة
كبيرة لم تأخذ حقها. أنا أذيتها، اسمي طغى عليها، وهذا الأمر لا يزال يؤلمني جداً.
بعد موتها
قررتُ أن لا أتزوج ثانية.
قدمتُ لي
أجمل ابنتين في العالم: شام وسلافة.
الحب لم
يكن أبداً مشكلة بالنسبة لي، الحرية هي هاجسي الأوحد.
كل النساء
من بعدها نجوم تمر وتنطفىء وهي وحدها السماء.
كانت
حياتنا جميلة، لكننا كنا دائماً على خلاف. لم نتفق مرة على رأي. نسهر إلى الصباح
ونبقى مختلفين. جلستُ بقربها وهي على فراش الموت أقبّل قدميها المثقوبتين من كثرة
الإبر، فقالت لي عبارة لن أنساها: أنت أنبل إنسان في العالم.
لا أحب
الغيبيات. تسألني إذا كنت سأراها بعد الموت، كيف هذا وأنا في حياتنا المشتركة لم
أكن أراها كما يجب.
لم أزر
قبرها في مقبرة "الست زينب" إلا مرة واحدة. خالدة سعيد قالت للبنات عندما سألوها
لماذا لا نذهب لزيارة قبر ماما: ماما فيكم، أنتم ماما.
أنا عاطفي
جداً. كلمة واحدة في حوار، أغنية جميلة قد تبكيني. لكن عشرين جنازة لا تحرك فيّ
شيئاً.
غروب الجسد
جسدي في
غروب. أكره الشيخوخة وأكره جسدي. إنه حقير وتافه.
عندي
الكثير لأعطيه لكن جسدي لا يلبيني، أما العقل فصاف. لم يعد هناك من علاقة حميمة بين
جسدي وعقلي.
لم أراع
جسدي، وكل ما يمكن أن يمارسه الشاب من سكر وجنس وعربدة مارسته باكراً وبغزارة، وها
هو جسدي ينتقم مني رويداً رويداً.
يدي التي
أكتب بها القصائد، قد يمر شهران دون أن أتنبه لاستطالة أظافرها، أو لورم فيها.
الويسكي
كالشاعر، لا هوية له ولا وطن. وزجاجة الويسكي حبيبتي.
أدخن منذ
كان عمري سبع سنوات. كنت أدخن في البداية أعقاب السكائر الملقاة على الطرق.
السيكارة
قاتلة بالنسبة لي بسبب مرض نقص التروية، لكنني لا أستطيع مفارقتها.
استيقظ في
الليل من أجل أن أدخن سيكارة.
أتعاطف مع
الشيعة لأن عندهم اجتهاداً في الدين.
أحب الله
وأخاف منه، لكنني لا أحب أن أتكلم في الغيبيات.
أخاف الموت
أحياناً، أو بالأحرى أخاف ما يسبق الموت...
المرض، أن
لا أستطيع المشي أو الجلوس.
لم أذهب
إلى السلمية منذ 12 عاماً. قد أعود إذا مرضتُ كثيراً وتعبت. مكان الدفن وشكليات
الموت لا تعني لي شيئاً، كذلك هي شكليات الحياة.
كتبتُ على
قبر سنية "هنا ترقد الشاعرة سنية صالح آخر طفلة في العالم"، لأميز قبرها عن
الآخرين.
* * *هـذه المقابلـة
هذه
المقابلة مع محمد الماغوط "مسروقة" بكل ما في كلمة السرقة من حـب وإخلاص. لا يستطيع
أحد غير الماغوط نفسه أن يحتال على الصحافي ويورطه بها.
عندما رحنا، أنا وصديقتي البيروتية، ندردش معه، صباحاً في مقهى الشام، وعلى الطريق
بين المقهى والمنزل، وأخيراً في منزله الدمشقي وهو جالس أمامنا على الأريكة،
مرتدياً البيجاما، يتكلم ويشاغب ويهزأ، محتسياً بين الفينة والأخرى رشفة من كأس "جين
تونك" والساعة لم تتجاوز بعد الحادية عشرة صباحاً، ظنناً، نحن اللذين يحلو له
تسميتنا الجيل الـذي لا يتكلم ألا الشعارات، ظننا لوهلة أننا قد ورّطناه، وحققنا
مقابلتنا المنشودة. لكن الماغوط، وهو آخر طفل كبير في العالم، كان في الحقيقة
يورّطنا وينقلنا معه من مشارف حلم إلى ضباب حلم آخر. كان يسكرنا بالكلمات، وكانت
أسئلتنا تذوب كالزبد في بحر تجربته العصية على الاختزال. هو، وأفكاره وجسده، كالبحر
والموج وصخور الشاطىء. هو، كالبحر، معين لا ينضب، تتوالد الأفكار فيه كالأمواج بدون
كلل أو ملل، تنحت زمانها في الجسد الواقف أبداً كصخور الشاطىء يصغي إلى الأمواج
ويتآكل رويداً رويداً على إيقاع ضرباتها. عندما عدت ثانية لأراه، حاملاً معي صكّ
إدانتي بعدم القدرة على إجراء مقابلة صحافية تقليدية معه، عندما عدت إليه برأسي
المبلل وأوراقي المبللة برزار أمواجه، جفف رأسي وأوراقي ببحر عينيه الزرقاوين،
وابتسم منتصراً على الصحافي داخلي، وقال: يمكنك أن تنشر ما كتبت. وهذا الذي كتبت
ليس بالمقابلة الصحافية، بل هو دليل آخر على
استحالة
إجراء مثل هذه المقابلة مع محمد الماغوط. إنه تداخل الحروف والكلمات والأفكار،
وذوبانها في شيء لا يشبه إلا هذا الطفل الكبير والوحش الجميل والخائن المخلص الذي
لم يعد يكفيه أن يلغي المسافة بين الشعر والنثر، بل راح يلغي المسافة بين الخير
والشر، الخيانة والإخلاص، الجمال والقبح، الشيخوخة والشباب، الويسكي والماء، الموت
والحياة.
وإذا كان
الماغوط يقول عن الشاعر أنسي الحاج إنه يشبه شعره، فالأكيــد أن الماغوط لا يشبه
النص الذي يكتبه، بل هو هذا النص. والكتابة والكلمات ليست إلا أحد تجلياته
التفصيلية.
اعتراف أخير للقارىء وخيانة أخيرة للماغوط: فأنا لم أكره في حياتي أميركا كما
كرهتها عندما ألتقيت الماغوط، ليس لما تجسده سياساتها وممارساتها في العالم، ولكن
لما تشكله من مهرب كبير للماغوط عندما تريد أن تحاصره بسؤال محرج. عند ذاك تطل
أميركا ويصير الحق على أميركا في كل تناقضات حياتنا اليومية والفكرية. |
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق