مجلة السنونو (
العدد الثامن ) -
ما علينا وما عليهم
|
|
الوطن
المهاجر والمقيم ( بقلم : الدكتورة بثينة شعبان )
|
|
في
متحف المهاجرين في بوينس آيريس تقرأ على صور وجوه المهاجرين من نساءٍ وأطفالٍ ورجال
ترقباً قلقاً للمجهول القادم الآن أو بعد حين تقرأ نظرة جريئة وحلماً واعداً يكشف
عن نفسه رغم محاولات إخفائه وكبته. وبين آثار المهاجرين ترى جواز سفرٍ ربما لمن قضى
قبل أن تطأ قدماه أرض البلاد, وحذاء طفلة وشال امرأة مصنوعاً من حرير استغرقت
حياكته عشرات الساعات من نساءٍ كثر وتدرك أن المرأة لم تكن لتترك غطاء رأسها لو
أنها دخلت البلاد بصحةٍ وعافية, وتخبرك الكتب والممتلكات والصور عن قصص معاناةٍ
للقادمين الأوائل يصعب على أبناء القرن الحادي والعشرين الذين يجوبون الأرض خلال
أيامٍ أن يتخيلوها, ولكن رغم كل هذه المعاناة تطلع في أرجاء البرازيل والأرجنتين
على مؤسساتٍ صنعتها تلك الإرادة الحديدية وذلك الانتماء الذي أصر أن يتشبث بالجذور
وأن يفتتح المدارس لتعليم اللغة العربية والأدب وأن يؤسس المشافي والمنتديات وأن
يقول للعالم أننا هنا كعرب وكلبنانيين وسوريين ولدينا الكثير من الحضارة والمعرفة
التي يمكن أن تساهم في بلداننا الجديدة بعد أن قدر لها أن تغادر بلدها الأم.
في
ساوباولو, في البرازيل, اجتمعت نساء لبنانيات وسوريات في عام 1922 أسسن جمعية أهلية
لبناء مستشفى سوري لبناني يعمل فيه الأطباء العرب ويعالج العرب وغير العرب ليصبح
اليوم أهم وأحدث مستشفى في أميركا الجنوبية وما زالت تديره نساءٌ عربيات وتحافظن
فيه على روح الثقافة العربية والحضارة العربية من حرصٍ وحنانٍ ومودة. وتنتشر
النوادي السورية واللبنانية في طول البلاد وعرضها والتي بناها الأجداد في أوائل
القرن الماضي لتشكل معالم حضارية ومراكز راقية للتواصل الاجتماعي والفكري والرياضي
بين أبناء العرب في مغتربهم كما تدير النساء العربيات جمعياتٍ شتى للسهر على
المسنين والأيتام والأطفال بالإضافةِ إلى المدارس التي أسسها وسهر على تميزها
أساتذة ضالعون في اللغة العربية وعلومها وآدابها, ولا تكاد تخلو مدينة في البرازيل
والأرجنتين من مؤسسة سورية أو لبنانية أو سورية لبنانية مشتركة تمثل نموذجاً لإشراق
الحضارة العربية وتجسيداً للتآخي والمحبة بين الأديان والأعراق والأقاليم التي
عاشها العرب في ديارهم وفي المغترب. وفي مدينة قرطبة البرازيلية شحذ تعايش
المغتربين لقضايا أمتهم عزيمتهم فناضلوا مع السلطات المحلية على المستويات السياسية
والقانونية وأسموا ساحةً باسم السيد الرئيس حافظ الأسد رحمه الله ووضعوا له نصباً
تذكارياً تقديراً منهم لمواقفه العربية في خدمة العرب والعروبة.
ولكن ورغم اعتراف جميع المسؤولين في البلدين بإنجازات العرب ومساهماتهم القديمة في
بناء بلدان أمريكا الجنوبية نرى أن قلة نادرة اليوم من العرب تتحدث اللغة العربية,
أما القراءة والكتابة للعربية فتكادان تكونان معدومتين بينهم جميعاً, وتجد آلاف
الكتب والمخطوطات يرسلها الأبناء أو الأحفاد إلى الكنائس والمراكز الثقافية بعد أن
وافت المنية آخر حلقة ممن كانوا يحرصون على استمرار اللغة العربية في المغترب
وإطلاع الأجيال الناشئة على أدبها الجزِل الرفيع, وترى البعض يقرأ في الصحف
والإعلام الدعائي عن استهداف العرب وما يخطط له الآخرون ضدهم فيبدأ كلٌّ منهم
بالبحث والترتيب لخلاصٍ فردي يقيه وأسرته ما قد يتعرض له في المستقبل وينسى الجميع
أو يتناسون أن إرث الأجداد قد وصل إليهم فقط عن طريق خلق مؤسساتٍ تنقل للأجيال
الروح الجماعية لهذه الأمة والهوية الوطنية من لغةٍ وتاريخ وعادات وثقافة ولو أن
أياً من أجدادنا فكر بأسرته المباشرة فقط لما وصل الأحفاد اليوم إلى ما وصلوا إليه
من مكانة علمية وسياسية وشخصية اعتبارية ينظر إليها الآخرون بعين الغبطة والاعتزاز
والفخار, ورغم وجود مقدراتٍ كبرى في المغترب حيث يصل عدد المتحدرين من أصلٍ عربي
إلى الملايين في أمريكا الجنوبية ورغم وصول العديد منهم إلى أعضاء في البرلمان أو
في البلديات أو في مواقع سياسية هامة فإنهم لم ينسقوا جهودهم ليصبحوا قوة اجتماعية
وسياسية ضاغطة تضمن للجميع أن ينعموا بما قضى الأجداد من أجله وما دفعوا ثمنه مرات
ومرات من جهدهم وفكرهم وحياتهم, لقد أدركت اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى أسباب مواطن
الضعف في هذه الأمة في الوطن وفي المغترب أنها انعدام وجود التراكم وانعدام البناء
على ما فعله الآخرون وانعدام التواصل بين الأجيال من جهة وبين الوطن المقيم والوطن
المغترب من جهةٍ أخرى.
لقد
بنى الأجداد من تبرعاتهم ومن أموالهم الخاصة مؤسساتٍ تعجز دول اليوم عن بناءها
وحققوا حضوراً يحق لنا جميعاً أن نفخر به ونستثمره من أجل أحفادهم ومن أجل الوطن
ولكنه اليوم حضورٌ مشتت بين بلدٍ وآخر وبين مدينةٍ وأخرى تحاول الأماكن الدينية
والثقافية أن تلملم بعضه هنا وهناك ولكن الجهد اليوم لا يرقى أبداً إلى مستوى
المساهمة التاريخية لأبناء المغتربين في البناء الحضاري لهذه الأوطان. لقد أشرقت
الأمة العربية في أمريكا الجنوبية إشراقة تاريخية أصبحت تمثل جزءاً حيوياً من هوية
هذه القارة الطيبة والخيِّرة لكن هذه الإشراقة بحاجة اليوم إلى تأريخ واستثمار على
مستوى الحدث يسجل للأجيال القادمة في القارة نفسها تاريخ من ساهموا في بناءها ويشكل
جسراً حقيقياً لعلاقاتٍ متميزة بين هذه القارة وبين العالم العربي خاصة في ضوء إرثٍ
حضاري وثقافي وأخلاقي وإنساني مشترك كما يشكل نواة لكتلةٍ سياسية تتشكل من بلدان
هذه القارة مع العالم العربي لتحقق حضوراً على مستوى الساحة السياسية الدولية ينتصر
للحق العربي ويساهم في إنهاء الاحتلال البغيض للأراضي العربية ويعيد صورة العرب في
أذهان العالم إلى حيث يجب أن تكون فتعرف بهم كأبناء حضارة ومودة وإخاء يبنون حيثما
حلوا ويخلصون للبلدان التي يبنونها ويحرصون على تقديم خدماتهم للإنسانية جمعاء. عل
أفضل ردٍّ على حملات التشويه التي تعتري الشخصية العربية منذ أحداث الحادي عشر من
أيلول هو الارتكاز على هذا الإرث الثقافي والحضاري العربي في المغترب واستثماره على
الساحة الدولية ليشكل بذلك أفضل رد على مخططات سياسية مغرضة تستهدف الهوية والحضارة
والإنسانية في أرض تثير حسد البعض وحقده لأنها مهبط الديانات ومركز إشعاع الحضارات
الإنسانية المتعاقبة.
إذا
كان الاعتراف بالخطأ فضيلة فقد حان لنا أن نعترف أننا ورغم كل الإبداع العربي في
كافة المجالات, لم نكرِّس الوقت والجهد لوضع آليات عملٍ واضحة تستثمر هذا الإبداع
وتترجمه رصيداً حياً على الساحة المحلية والإقليمية والدولية, وفي هذا الإطار يمكن
لنا أن نقول: أن تصل متأخراً خيرٌ من ألا تصل على الإطلاق, ولكن كي نصل لا بد أن
نبدأ من البداية كيلا يضيع مزيد من الوقت في الانتظار والترقب أو الوهم أن شيئاً ما
لا يمكن أن ينمو على الأشجار دون أن تزرع الغرسة أولاً في التربة الخصبة.
|
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق