الثلاثاء، 1 ديسمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد العاشر ) - قصة قصيرة فانتازيا ( بقلم: كامل دعدوش )

مجلة السنونو ( العدد العاشر ) - قصة قصيرة
فانتازيا  ( بقلم: كامل دعدوش )   

فانتازيا
بقلم: كامل دعدوش
 
لم يكن الملكُ (يختور) من محبي الطبيعة، ولا هو ممن يستيقظون باكراً، ليتأملوا جمالها، ويصغوا إلى أناشيد عصافيرها. بل كان من محبي السّهر والتمتع بما يرافقه من لذائذ وشهوات. غير أنه - اليوم- يكاد يصل ليله بنهاره لأن شيئاً ما يؤرقه، ويبعد النوم عن عيونه!
هذا ما لاحظه مستشارُهُ (طعموش) الذي كان رفيق صباه قبل أن يؤول الحكم إليه، لذلك نراه يتجاوز حدَّه المسموح به كمستشار، ويسأل الملك أسئلة قد تتصل بحياته الخاصة!
- صباح الخير أيُّها الملك الهُمام.. لقد لاحظت أن جلالتك لا تنام إلا قليلاً.. فما الذي يشغل بالك أيُّها الملك العزيز!؟ وهل باستطاعتي تقديم المساعدة ليعود الهدوءُ والاطمئنان إلى نفسك المضطربة؟
- أيـــها المســـتشار الصديق.. لا أخفي عنك
شيئاً، فأنت موضع ثقتي وأقرب المقربين إلى نفسي..قد تذكر أيها الصديق أنّنا غادرنا الجزيرةَ أنا وأنتَ وولدي (نهروز) قاصدين جزيرة الطاووس لنطلب يد ابنة الملك (هيراس) الذي تردد في الموافقة.. ثم وافق بشرط وحيد: هو ردم الهوَّة بين الجزيرتين، وإقامة جسر أو قنطرة تصل بينهما، حتى تعبر ابنته في يسر وأمان إلى جزيرة عريسها. وتذكرُ أني وافقت فوراً بل زدت بأنّها ستعبر في عربة مرصعة بالجواهر‍ وعندئذٍ انفرجت أسارير الملك (هيراس) وخفف قليلاً من غطرسته وعنجهيته.
وها نحن بعد مضي عشرة أشهر على ذلك اللقاء، وبعد أن أنجزنا ما وعدنا به من ردم الهوّة وإقامة الجسر بين الجزيرتين، بقيت أمامنا العربةُ المرصعةُ بالجواهر التي تحتاج إلى أموال طائلة، وأنت أدرى الناس بأحوالنا المادية، فلقد كلفنا بناء قصر ولدي (نهروز) المال الكثير والجهد الكبير، وكذلك الجسر.. فما العمل ونحن لم نترك وسيلة لجمع المال إلا واعتمدناها: فلا سفينة تخرج بالبضائع من مينائنا إلا ونرتب عليها رسوماً وكذلك السفن القادمة‍ أمّا في الداخل فلا يصل محصولٌ زراعي من الريف إلى المدينة إلا ويدفع ضريبة عن ذلك.
وآخر ضريبة جائرة فرضناها على الناس مشاركتهم بالميراث فلا يرث أحدٌ من أبويه شيئاً إلا وأخذنا منه ما يقارب نصف الميراث ومع ذلك هناك عجز في الخزينة.. فما العمل؟
- سيدي الملك.. اطلب من وزير الخزينة البحث عن وسيلة جديدة تعيد التوازن إلى الخزينة‍
*  *  *  *  *
أيّها الملك الجسور.. تناهى إلى سمعي ما يشغل بالكم ويبعد الكرى عن عيونكم، وإنني توصلت إلى طريقة تعيد التوازن إلى الخزينة، وأتمنى أن يكون شرحي لها أمامكم، على انفراد حرصاً على نجاحها
أشار الملك إلى جلسائه بالخروج إلى القاعة العامة.. فخرجوا جميعاً عدا الحارس الشخصي للملك الذي يقف عند مدخل القاعة الذهبية، وكان هذا الحارس طويل القامة، مفتول العضلات، ذا وجه يشعُّ بالصحة والعافية والبراءة، إلا أنه يمتاز بقدرة فائقة على السمع مهما كان الصوت خافتاً أو بعيداً وكأنه يمتلك عتبة في الإحساس تشبه عتبة الحصان. وكان لا يبوح بسرّه إلا إلى المقربين جداً‍
أيّها الملك المعظم.. لقد توصلت إلى طريقة مبتكرة لإعادة التوازن إلى الخزينة! تنطلق من واقع الناس الذين يتوزعون بين مرضى وأصحاء، فالمرضى يشكلون نسبة 35% وينفقون على علاجهم ما يزيد على25% من دخلهم الشهري، وهم، على الرغم من مرضهم، راضون لأنهم يجدون في الدواء معالجة آنية أو دائمة، تسمح لهم بحالة وسط بين المرض المزعج والصحة التامة! أما الباقون فإنهم يتمتعون بالصحة والعافية ولا يدفعون أموالاً كالآخرين! فلو أننا ذكرناهم بهذه النعمة التي تستوجب الحمد والشكر لله وأن الشكر يتمثل بدفع ما يدفعه المرضى دون أن يكونوا مرضى.. لتقبلوا ذلك برحابة صدر!!
ابتسم الملك لهذا المخرج واعتبره جديراً بالتنفيذ وأوعز إلى وزير الخزينة ليعمل به!
التقطت أذنا الحارس العملاق ذلك الاقتراح بوضوح تام، وما إن انتهت نوبة حراسته حتى سارع إلى ابن عم له، نشيط ومقدام، فأسرَّ له بما سمع وطلب إليه إخبار الناس بالأمر!
*  *  *  *  *  *
أيها الملك المعظم.. شرعنا بتنفيذ ما أمرتم به بخصوص ضريبة الصحة، ففوجئنا أنّ نسبة المرضى أو المتمارضين قد تجاوزت الثمانين في المائة، ولقد اندفع الناس على عيادات الأطباء يشكون المرض، بل إن بعضهم اندسوا بين المرضى ليصابوا بالعدوى.. وبعضهم الآخر شربوا من المياه الملوثة.. فبم تأمر أيها الملك المعظم؟.. هل نستمر في الخطة أم نفكر بخطة أخرى؟!
أيها المستشار.. سمعت ما أفضى به وزير الخزينة.. فماذا ترى؟
- أرى أن نستعين بالعالم الاقتصادي (سمطور) لعله ينجح فيما فشل فيه غيره.
*   *   *   *   *   *
استأذن (سمطور) في مقابلة الملك، وقد عرف من استدعائه أن الملك بحاجة ماسة إليه بعد أن شاع خبر فشل(ضريبة الصحة) وهو لذلك يدخل بكل ثقة وغرور!
*   *   *   *   *   *
أيها العالم سمطور.. لعلك أدركت سبب استدعائنا لك؟ فخزينة المملكة خاوية تقريباً، ونحن بحاجة إلى أموال طائلة لإقامة مراسيم عرس ولدنا (نهروز).. فما الحل الذي تقترحه للخلاص من هذا الوضع السيء؟
أيها الملك المقدام.. لقد قمت باستعراض كافة الأنظمة المالية المعتمدة لدينا وهي بالتالي لا تحل المشكلة الراهنة.. غير أنني وبعد تفكير طويل، واستقصاءات شاملة، وصلت إلى حل قد يبدو غريباً مستهجناً لكنه الوحيد أمامنا في جزيرتنا..
- بادر أيها العالم إلى عرضه علينا وليس في القاعة إلا المستشار وأنت والحارس الواقف بعيداً عن الباب..
أيها الملك العزيز.. تعلم أننا نأخذ ضريبة على المنازل في كل أنحاء المملكة وهذا معتمد في كل جزر العالم.. لكن هذه المنازل مؤقتة أما المنازل الدائمة فهي في عالم الآخرة الذي يؤمن به معظم شعبنا، حيث يتوزع الناس إلى فريقين:
مؤمنين صالحين منازلهم في الجنة، وكافرين ضالين منازلهم في جهنم والفريق الثاني لا نأخذ منهم أية ضريبة فحسبهم هذا المآل، أما المؤمنون فسينعمون بمنازل خيراً من منازلهم في الدنيا لكنهم يتوزعون في ثلاثة مراتب: أولاً مرتبة المؤمنين الذين يدخلون الجنة لان حسناتهم تربو قليلاً عن سيئاتهم وهم يشكلون القسم الأعظم من المؤمنين ونأخذ منهم 10% من دخلهم الشهري. ثانياً مرتبة المؤمنين الصادقين الذين يتصفون بالصلاح في أعمالهم ولا يتأتى عنهم السوء إلا لماماً وهؤلاء منازلهم ذات شأن كبير وقيمة عالية لذلك نأخذ منهم 20%. ثالثاً: مرتبة الأنبياء والصديقين والشهداء الذين يسكنون الفردوس أعلى مراتب الجنة فإنهم معفون من الضريبة نظراً لندرتهم.. وخشونة معيشتهم في الدنيا‍
- أيها العالم.. كيف تفتقت عبقريتك عن هذا الحل المدهش؟ وأظن أن هذه الضريبة ستلقى القبول من الناس بسبب إيمانهم العميق بعالم الآخرة غير أن تكليفهم بالضريبة يجب ان يعتمد على مصادر موثوقة ومقاييس دقيقة، وما إن تستكمل - أيها العالم- آليات التكليف حتى نصدر امرنا بالضريبة.
*   *   *   *   *   *
اطمأن العالم إلى أن مشروعه قد قُبل وأن الملك ومستشاره كانا مرتاحين لهذا الحل غير أنهم جميعاً لم يحسبوا حساب ذلك الحارس البعيد عن مجلسهم والذي التقط وسمع ووعى كل كلمة قيلت. وما إن انتهت مدة حراسته حتى سارع إلى ابن عمه وأسرّ له بالخبر وهذا بدوره لم يتقاعس عن نشر الخبر بين الناس تحت جنح الظلام
وما إن أشرقت شمس ذلك اليوم حتى كان يوماً آخر: فمعظم الناس لم يرتادوا دور العبادة، وافتعلوا المشاكل فيما بينهم، والتمسوا لأنفسهم العذر في اقتراف بعض المحرمات..
كل ذلك من أجل ألا يصنفوا مع أهل الخير والصلاح والاستقامة... وهكذا عمت الجزيرةً الفوضى والمشاكل والمنازعات حتى أمكن القول إن هذه الجزيرة هي جزيرة الكفر والشر والفوضى.
*   *   *   *   *   *
استأذن (سمطور) وزير الخزينة في الدخول على الملك وكان مكفهر الوجه، مضطرباً أشد الاضطراب، يكاد يتعثر في مشيته.
أيها الملك الحكيم..
غبت عن مجلسكم أياماً معدودات لانشغالي بآليات تنفيذ الضريبة وتحديد الأجهزة التي سوف تكلف بالبحث والاستقصاء وتصنيف الناس. غير أن المفاجأة الكبرى هي انقلاب الناس من الإيمان إلى الكفر، ومن الصلاح إلى الفساد... وهذا يعني فشل الخطة التي اتفقنا على تنفيذها..
فوجئ الملك بما سمع وظهرت على وجهه ملامح الغضب فطلب من جلسائه جميعاً- عدا مستشاره- الخروج إلى القاعة الكبرى..
- ما قولك أيها المستشار فيما سمعت..؟ أصدفة هي أننا كلما فكرنا بخطة نجد الناس يفسدونها بتصرفات غريبة وسلوكيات مستهجنة؟ أم هي خيانة؟ أم هي إلهام سماوي، يدفع الناس إلى ما يحبط خططنا؟
- أيها الملك العزيز.. لو قلنا إنها صدفة..، فإن الصدفة تقع مرة واحدة ولا تتكرر أما الخيانة.. فمستحيلة: إذ لا أحد يعلم بالأمر إلا نحن الثلاثة فهل أنا أخون ملكي وصديق عمري.. لا وألف لا.. وهل الوزير يفشي خطته وقد كان الحريص على كتمانها..؟
أما وحي السماء.. أما القدر.. فذلك مما لا نستطيع الجزم فيه
- إذن.. ما العمل أيها المستشار؟
- أيها الملك العزيز.. أرى أن تكف عن التفكير بالضرائب لحل مشكلة الخزينة..ـ ثم أعد النظر بالمشكلة نفسها هل هي فعلاً مشكلة؟
فلو أنك زيّنْتَ عربة العروس بمناديل من الحرير الملونة وبجلود لحيوانات نادرة، مع عدد من الجواهر موزعةً بشكل يلفت النظر لأمكن القول:: إنك نفذت ما وعدت به.
تساءل الملك: أترى الملك هوراس يقتنع بما سوف نقوم به أم يعتبره نوعاً من التغرير والخداع وعندئذٍ يبطل أمر الزواج؟ بل ربما يعتبر ذلك إهانة له فيشن الحرب علينا ونحن قلة ضعاف أمام جبروته وقدرات جزيرته الكبيرة!
أيها الملك العزيز.. قدمت لك اقتراحي الذي يحاول أن يوفق بين عدة مسائل، ولك، من ثمَّ اتخاذ القرار الذي ترتاح إليه وتراه في صالحك وصالح الجزيرة!
صمت الملك قليلاً.. ثم قال بصوت واهن:
أجل.. أجل القرار يعود إلي...القرار يعود إليّ!!
 
 
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق