مجلة السنونو (
العدد العاشر ) -
بين قوسين- قسم 2
|
|
الاماني
سراب من لي بجرعة من سراب ( وصفي
قرنفلي وطلائع النهاية
)
|
|
|
في
بداية الأربعينيات استقام لوصفي الشعر، واستمر بعد ذلك ينشد إلى مشارف الستينات
وتلك مرحلة من حياة الأدب في سورية يجب أن نستعيدها من منطلقها الخاص، وضمن إطار
أحداثها السياسية، وتطوراتها الاجتماعية والثقافية، وارتباطاتها التاريخية.
قبل
الأربعينات، كانت المرحلة مزيجاً من امتداد الماضي في الحاضر، مع محاولة لتخطيه،
تحمل في طيّاتها كل تلاوين المهادنة والخصام، ومن الاستغراق في هذا الماضي إلى
مستوى العطالة تقريباً.. وقد خضعت حركة الأدب والشعر بل والفكر في سماتها العامة،
لسلطان شوقي وحافظ، ومجلة " الرسالة" و " الثقافة"، وما شابهها من التيارات التي
نشأت وعاشت في مصر، وبسطت نفوذها بعد ذلك ثقافياً في الإطار العربي الأوسع، ومثلت
الريادة بالنسبة لمعظم المعنيين بشؤون الكلمة.
أفق
الإبداع لم يكن أكثر من مخايل، وسلطان التقليد، بشكله الأكثر عفوية، والأقل صنعة
بالطبع- كان هو المهيمن، والعمل العبقري هو ذلك الذي يجسد " فصاحة " النتاج
الكلاسيكي، ويقرّب بروعته من " النموذج " القائم في ذهن المثقفين لشعر المتنبي وأبي
تمّام من قبل، ولشعر شوقي وحافظ من بعد.
وحتّى
أولئك الثائرون على الماضي، المتمردون عليه، لم يكن بمقدورهم أن يكسروا طوقه أو أن
يتجاوزوه، شتموه وعاشوا ضمنه في معظم أطره.. ولم يبلغ أبداً مدى الظن عندهم أو
الوهم، أن يغيروا جذرياً من آفاق الرؤيا، وبالتالي من تلاوين النغم، فالتعبير عن
الحياة التقليدية لا يمكن أن يكون إلا تقليدياً، وأسار الماضي يظل أكثر سحراً، في
مثل تلك البيئة، من حرية الانفلات وإبداع الجديد، وأقل عناء كذلك.
غير أن
هذا الوضع السلبي الراكد، على أعتاب التاريخ، لم يكن قابلاً للاستمرار، لأنه يخالف
منطق الحياة ومنطق التاريخ أيضاً.. كان لا بد للأجيال التي ولدت في معارك الاحتلال
والاستقلال، وعاشت المأساة، من أن يكون لها أكثر من رأي، وأكثر من مطلب، ومن أن
تكون أيضاً أكثر إيجاباً وتمرّداً وثورة.
وفي
الأربعينات غدت الأحداث أشدّ حسماً، والتفاعل معها أوثق، واتّقد الجمر تحت الرماد.
كانت النقلة جريئة والصورة رائعة، والعراك على أشُدّه في سبيل طرح المخلفات وتخطي
البلادة وفتح الكوى. الحياة بدائية وساذجة، ومن قلب السذاجة والبدائية، من الأرض
البكر، ينبعث النداء ويهتز التاريخ. العالم كلّه يمور، والحرب تيار جارف، لا تجتاح
أرضنا ولكنها تفجر فيها ألف إعصار. الأجيال تشعر أنها في سباق، والأرض مستعبدة
ممزقة، والفكر متخلّف والحياة ضيقة سبلها، والظلام الاجتماعي حالك، والمؤسسات
السياسية قاصرة، والعداء أشدّ قهراً بين أبناء البلد الواحد، ووصفي مع أقرانه، مع
كل الطامحين إلى التغيير، يخوضون معركة...
غير أن
المعركة تظل أبداً غير متكافئة..
الثقافة
أكثر من ضحلة، كتاب من هنا وكتاب من هناك، وفكرة من هنا، وفكرة من هناك. تراجم سيئة
لنتاج بدأ يتخلّف، وطبعات أسوأ لبعض كتب التراث، والهوى السياسي يلعب أكثر من دور،
وما يريده الإتباع يكون، ومن خلال هذه المزق يجب أن يحدث التطور..
لا
بأس.. فالنزوع إلى الحرية هو ما سيكون سمة المرحلة في نتاجها الفكري والأدبي.. كل
سيحمل مصباحه، سينضح ثورته من أعماقه، ومن تفاعله مع بعض ما قرأه خلال ذلك. صراخ في
أكثر من اتجاه، تلاق على الهدف وخلاف في الطريق، الأرض تُسْتَلَب، والمعركة هزيمة،
وفلسطين لاجئون وخيام. على اللوحة ألوان فاجعة، والواقع يعبر عن نفسه بأحداث
انعطافية في الحياة السياسية والفكرية.
أمّا
الخمسينات فأحزانها أكبر، وخطوطها أوضح، والتراث العالمي أقرب تناولاً، ومحاولات
التخطي أكثر جدية.. بلادنا تتحضر والتعليم ينتشر، والوعي يزداد، لكن الأرض غير
راسخة تحت الأقدام، والمواقع تتبدل، وكل ما يسهم في المعركة يبدو حائراً خلالها.
ويكون
الشعر أشد حيرة.. هو في المعركة وليس فيها. يتحدث عن هند ودعد، وهند ودعد أمومة
معذبة وإحساس بالعار لا ينتهي.. يتغنّى على طريقة امرئ القيس والصحراء عاصفة تذهب
بكل شيء، يحاول أن يشق طريقاً جديدة واللحن لا يهدر في صدور الجماهير، القافية
والخليل جزءان أساسيان من التراث، من الحداء، من الخطابة، من نداء الحرب.. وبعض شعر
الطلائع في مصر والعراق ولبنان ترف لم يفهمه الجمهور، ولم يفتح له قلبه. أحبه
الخاصة فقط، ورأوا فيه مخايل المستقبل، ولم يستجب له حتى المناضلون على الصعيد
السياسي.. وكان للهزء والتظرف على أفواه معظم معلمي المدارس الذين لم يدركوا أبعاد
التجربة الحقيقية، ولم ترتسم في أذهانهم منها رؤى الواقع الصادق الذين يعانون،
بـألوانه التي ما يزال التعبير قاصراً عن رسمها.
* *
* * *
وفي
حمص، في بيئة ضيقة أقرب ما تكون إلى الانغلاق، كان شاعرنا يعيش، في قلب المعركة
وعلى تخومها، بدوياً في الصميم من صميمه، في فكره ثورة، وفي سلوكه تمرد، لولا أن
التاريخ على كاهله عبء والتخلف عبء والاستعمار عبء والتطلع إلى الأبعد الأبعد عبء..
وعليه كما على الآخرين، أن يحمل هذه الأعباء، ويحفر بأظافره مسالك على الصخر.
وإنها
لمأساة كبيرة أن يعيش الإنسان- والشاعر خاصة- في عهد الهزائم السود، والأرهاصات
والتناقضات، وإنها كذلك لمأثرة. وتلك كانت في المعطى الحياتي والشعري، مأساة وصفي
ومأثرته.
وإذا
كنا نستطيع، بالنسبة لكثير من شعرائنا الذين خطبوا شعراً، وتناولوا، من الخارج،
قضايانا، أن نفصل الشاعر عن الإنسان، فإن الأمر بالنسبة لوصفي، جدّ مختلف، وصفي
استغرقته هموم النضال، وعناه الإنسان وطناً ومجتمعاً وقضية، فرفض شعر العموميات
التقليدية، ولم يشأ أن يكون شاعر الرؤى الغائمة، بل لم يكن بمقدوره أن يكون. هو
مرتبط بالإنسان والإنسان عنده الأسمى. وهو ابن مخلص للحياة، وجذوتها تتقد في رؤاه،
ومن هنا كانت عذاباته، ومن هنا كانت عظمته أيضاً.
عاش
الأشياء كلها في نهاياتها، كبيرة قدر ما هو كبير، يستمد من ذاته، ويستشف للوجود،
ويقارع الأحداث، ويطلق بعد ذلك أغنياته.
في
المعركة هو السلاح، وفي الطبيعة هو عبق الأرض، وفي الحب هو وحده الذي يحيا في منطقة
الشفق.
ومن
تقاطع هذه الخطوط الثلاثة، وفي أوج حدتها وكبريائها، النضال والطبيعة والمرأة، تبرز
شخصية وصفي في ملامحها الأصيلة المميزة.
كل من
يقرؤه يحس أنه في اللهب يعيش، يحرق ويحترق، ولكنه يحس أيضاً أنه ينطلق من قضايا
أساسية واضحة في رؤاه، وإلى أبعد حد. قد لا تأخذ شكل المنطق أو الحوار الفكري،
ولكنها بصدقها وعفويتها، وتمثيلها لمنازع الحرية. قوة تثق بقوتها، وتخاطب ما هو
صميمي، وتوقد في الأعماق شعلة مقدّسة.
إن وصفي
المؤمن بالأرض، بالإنسان، وبالحب، مؤمن، وإلى مدى بعيد، بالشعب أيضاً، ومن هذا
الشعب بكادحيه. وقضية النضال عنده لا تتجزأ، الأحرار في كل مكان يناضلون من أجل
الإنسان، والأحرار في كل بلد يناضلون من أجل حرية بلدهم وكرامته والمنطلق واحد،
والمعركة واحدة، وبعدها الحقيقي هو أنا وأنت وأبناء الإنسانية جمعاء.
ولئن
كان الواقع السيء يصدمه في أحيان كثيرة، فقد كان يرتكز على أرض صلبة، ويعرف كيف
يتخطى اليومي والزائل من الأحداث، ليرى عبر الواقع الهزيل، والهزائم المتواصلة، ومن
خلال إحساسه بذاته، وقدرته على استدعاء الماضي، المستقبل الأصدق والأروع. إنه يريد
من حوله أن يتجاوزوا السطحي، وأن يعرفوا واقع أمتهم الحقيقي، وأن يتلمسوا في
أعماقهم المغلفة المظلمة، إشراقات الأصالة، كي تكون دعامة لهم في نضالهم. ولم لا
يكون الأمر كذلك؟ ألسنا، إذا أوجزنا تاريخنا، بقايا السيف؟ ألسنا الشآم؟ وإن
صحراءنا شعر، وأنجادنا خمر، ونحن الحياة الأم والأبد. أما واقعنا المرير وتخلفنا
القاسي فوضع عابر لا يدوم، وما منه تستمد روح الثورة.
وهكذا
كان ارتباطه بالشعب عميقاً متأصلاً، يستشعره وتتشكل منه رؤاه. الشعب عنده معنى
الخلود، وفيه معنى الكائن السرمدي، وإيمانه به يكاد يكون بلا حدود. بيده القياد،
وتطوير خطوط الحياة. بيده أن يصنع المعجزات، وأن يتخطى كل ما رسم له من آفاق.
وإذا
كان يؤمن بالثورة واقعة لا محالة، فإنه كان أحياناً يستبطئ المسيرة، ويرى في الصمت
العار. الذل أتخم الناس، والتماسيح تجترّ دماء الشعب، ومن أجل ذلك يهتف بالشعب أن
يثور بجلاده، وأن يحطّم قيوده وأن يتكتّل وينهض، ويفجر في الشرق الإعصار، فقد
تجاوزت " الأرباب" الحدود انحنت الرؤوس، فسلبوها حتى الرغيف، وجعلوا من الأحرار
عبيداً لهم.
لا سبيل
إلا الثورة، ولا معنى للصبر إلا أن يكون جبناً. يحتج الناس بالضعف؟ كلام مرفوض.
ربّ
ضعف، إذا تكتّل في الأفراد يرتدّ عاصفاً جبّارا
الأزمة
عميقة، وإذا كان يتخطاها باستمرار، ويظل على إيمانه بالغد المشرق، فإنه كان مصمّماً
على وجوب إبراز الأخطاء وتعرية الأدعياء، وبشكل خاص، أولئك الذين يطلون على الناس
في هالة من الكلم الجميل، ووشاح من الثقافة " البرّاقة ".
شد ما
يذهله، ويذهلنا معه، أن تسقط الكلمة في سوق النخاسة، وأن تغدو سلعة، تتهاوى على
الأقدام وتتمسح بالأعتاب.
يا ويح
للقلم الأجير، وويح للأدب المزور
يا ويحه
عصراً فعصراً إلى انقضاء العصور، والهتفة هنا ليست لعنة عاجزة، إنها إدانة، حكم في
تاريخ الأدب يبلغ في قسوته مستوى الأحكام التي صدرت في التاريخ السياسي على الذين
خانوا بلادهم وأنفسهم. قصيدة وصفي، " قلم للبيع " متفرّدة في شعرنا العربي، قديمه
وحديثه، وقد تكون كذلك، بموضوعها في الشعر العالمي. وما نزال نحن نتحسسها بحدّة، ما
تزال معاصرة، منغمسة في صدور المثقفين المتاجرين، تشهد عليهم، وتلاحقهم، وتلج
بيوتهم!
من
يشتري القلم المنضر، حلو الرفيف، تقول جوهر
فيه حبر
من كل لون، متقن كالأصل، لا يشفّ عن زيف، وفي سوق البيان هو المجلي، أخضر كالربيع
إن شئت، وإن شئت كان أحمر. حاضر البديهة، يتقمص كل رأي.. إن لم ترد شراءه، فبإمكانك
أن تستأجره! وبمقدار ما تدفع يخصب، وخبرته في الدعاية كبيرة! يلوك اللفظ والأفكار،
ويمسح الخيانة بالبطولة، يخدر.. يخدر.. ويا ضيعة المخلصين المصدقين، ويا ضيعة
المضللين. الشباب هم مادة هذه اللعبة، هل رأيت أمة تضحّي، واعية أو غير واعية،
بشبابها الجاد، على مذبح التزييف؟!..
يا
رحمتا لدم الشباب، يحول ألفاظاً، ويهدر..
وصفي
وحده، قادر على أن يضع قارئه ضمن الصورة، محاطاً بألوان الموقف، متحسساً انفعالات
الشاعر. الهمس يدور، ونكاد نسمعه، والظلام يلفّنا من كل جانب . تجربة الشاعر تنقلنا
إلى جوه. والبيان، يا ويح البيان، يزور مرة أخرى، ويحول بطلاوته، الليل إلى نهار..
والسخرية المرة، تنساب عبر تساؤل قلق عابر أما تراها؟- وتغيب في طوايا الكلمات، حيث
تستحيل إلى موقف شعوري ذي أبعاد. والقوى المخلصة تعمل بصمت، وتتجمع بصمت، ودونما
هدير، يغدو التيار، أشد كثافة ومجراه أكثر عمقاً..
كان
وصفي يخاطب بشعره جيلاً لم يفسد بعد، ويتحدث إليه حديث الرجال إلى الرجال.. لم يكن
يعنيه أولئك الذين يحملون ملامح الأنوثة في النظرة والحركة والإحساس، فهؤلاء لن
يكونوا من المناضلين.. ومن أجل ذلك كان يعبر بصراحة، وقوة، وبساطة، وواقعية هي بنت
التجربة الحيّة. لم يكن يزوق ولا يحتال. يرسل شعره كلاماً مقطعاً، مكثفاً، متوتراً،
حادّاً، وكأنه الطلقات، عبر رؤية مشرقة، متكاملة، مترابطة، من البيت الأوّل إلى
البيت الأخير. وحين يضيق به الصدر، ولا تستوعب الصورة المدلول كله، ولا الشعور كله،
كان يلجأ إلى الرمز، لا يعني عنده حذلقة جمالية، بل يعني كثافة في المعنى، وكثافة
في الشعور، تنتقل إلى القارئ عبر نغمات فيها البسالة وفيها الحنان.
وهل
أجمل من هذا النداء، وأكثر إيحاء، وأشد حرقة:
يا شعب،
يا شعبي، وبعض القول لا يحكى، فيضمر..
بل كل
القول، أحياناً، لا يحكى.. فيضمر!
ونسأل
مرة أخرى، كيف استطاع وصفي أن يطرح في شعره همومنا، وأن يكون لساننا وضميرنا؟
والجواب
واحد، لا سبيل إلى غيره: لأنه كان صاحب قضية. ذلك أن الشاعرية وحدها لا تكفي ولا
تفسر.. كانت لوصفي قضية هي قضية شعبه، وكان صادقاً في إيمانه بها، يعيشها ممارسة
حارة عنيفة، من خلال واقع يومي بائس.. لم يكن نظاماً، ولم يكن مغنياً.. كان إنساناً
ومناضلاً وشاعراً، همه أولا وأخيراً، أن ينتصر للإنسان، وأن ينطلق به أشواطاً على
درب الحرية.. وقد فعل.
* *
* * *
المرأة،
وقبل نشيد الأناشيد هي ليست لغزاً، ولكنها في معجزة تنوع الخلق هي المعجزة. وفي
الشعر ظلت فيضاً له فيض، من الأزل وإلى ما بعده، أزلاً أزلياً.
غير أن
المرأة، وهذه صورتها في التنوع اللامتناهي، قد تبدّت في شعر أكثر شعرائنا، صورة
جاهزة ومحدودة، للجنس تارة، وللعاطفة العامة تارة أخرى، هي شكل للأنوثة، وأداة
لدوام الحياة، ومتعة، أو هي قص حب طويلة، ومأساة حرمان، هي بكلمة أخرى، القديسة
والغانية، ولكنها، على كل حال، مادة شعرية، غدت تقليداً يمارسه من تعنيه حقاً ومن
لا تعنيه.
أما عند
وصفي، وكما يبدو لي، فقد كانت نقطة الملتقى في المدى النفسي. هي الحياة، وهي سر
الوجود المحسوس، هي الحدس والرؤيا، ونيسان وأشواق الربيع، ورعشة الخلق.. هي الطبيعة
والحلم، والهداية والغواية، والاستمرار المشرق واقعاً وتجريداً.
ومن
وراء الصور الحسية في شعره، من وراء الصفات المادية المسرفة أحياناً في ماديتها،
ترتسم لوحة، وتتجسد في هذه اللوحة خطوط وآفاق، بعض ألوانها الشفافية والصوفية
والجنون، والأمومة فيها معنى وسر التكوين معنى، والظمأ الإنساني الذي لا يرتوي، عبر
المسيرة الطويلة، ومض سراب، يلوح في كل خط ومع كل لون.
الحياة
والحب والطبيعة معان متداخلة في ألحان الشاعر، توقع نغماً واحداً، يشتد فيكون
نفيراً، ويعذب فيكون غزلاً، أو يكون فيئاً وظلاً وتراباً يحمل كل عبير الأرض.
المرأة
قدر الرجل، هكذا يقول وصفي، وكل ما عداها يهون. تمجدت هي وتمجدت بها الحياة..
هل يقول
فيها الشعر؟ هل يقال الشعر في الشعر؟ المرأة في نظره شعر..
ولم
يخطر له أنها وهي كذلك، تغدو في الشعر امرأة أخرى..
وقد
يكون لوصفي بعض العذر، فالمرأة مادة غير مطاوعة في الفن، على كثرة ما كانت، منذ
كانت وكان الفن، مادة أساسية ملهمة فيه. وأمام هذه المادة، وقف وصفي مرتبكاً،
حائراً، لا يعرف كيف يصنع من مادته تمثاله الخاص.. يحبها حتى الجنون، وتعجز ضربات
الأزميل الشعرية عنده عن أن تنحت هذا التمثال الخاص. يظلّ تمثالاً عاماً، رمزاً
لمطلق، وتظلّ المرأة، كل امرأة في الشعر..
المرأة
حبيبة، والمرأة أم، وكلاهما عند وصفي معنى أبعد لكائن أسمى، وجراح الهوى، وجراح
الفجيعة فيض حنين شعري لا ينضب، وذكريات عزيزة تحتضن القلب.. الحبيبة والأم مطلق
عزيز وغائم، في صميمه يعيش، إلهاماً كبيراً، وفجراً يتجدد أبداً.
في غزل
وصفي، لا يتابع القارئ الصور بتفاصيلها فحسب، بل يعايش رؤيا الشاعر، تنسرب إلى
أعماقه انسراب اللحن، يعلو ويهبط، يقسو ويرق، ينداح دوائر تتسع وتتلاشى في أمداء
الإحساس، لتكون هي ذاتها إحساساً آخر، خاصاً، ذاتياً وآسراً في كلٍ منا.. ثم يتوتر
الشعر ليعود فيلين، والقارئ محمول على أجنحة أحاسيسه إلى أمداء بعيدة، بعيدة، من
وحي الشعر هي، ولكن من تصوّره هو أيضاً.
وتأتي
الطبيعة في مهاد اللوحة الشعرية، مصدراً للضوء والحركة. وكما حول دانتي" الأفكار
إلى أحلام " يحول وصفي الطبيعة إلى أحلام أيضاً.
عاشها
في وجهها، جمالاً يشعر معه أن الكون كله ينبض بين جنبيه، وجحيماً محرقاً في عالم
المساحة، يشتهي معه الماء والظل وراء العاصي، ومراحاً يعفيه من التطواف المستمر في
صحارى لا نهاية لها كما يحسب في بعض الأحيان.
كان
وفياً للأرض، وكانت في قلبه نداء الحياة وعبق الحرية، لها أكثر من معنى عنده،
ولارتباطه بها أكثر من سبب، وحفنة من ترابها قد تعدل الحياة، بإحساسه المتوفز
يستشعر النار في دمائها، ويرى الأحلام العذراء المنعقدة على أهدابها. طيبة هي
ومباركة في نظره، والحنان منها يفيض. أمومتها هي الأسمى لولا أن الناس - بعضهم على
الأقل- يشوهونها، فلا تعيش في نفوسهم بعداً إجمالياً من أبعاد الإبداع والخلق.
وتتعالى الطبيعة عنده، لأكثر من سبب، أن تكون صيغة للمادة المجرّدة، إنها ترادف
الانطلاق والحرية، والمكان الذي يتخطّى معنى المكان، ويحرّر من أسار الزمان. وهو من
هذه الطبيعة المرادفة للحرية جزء، في أمنياته وتطلعاته، كالظل لا يعض به القيد،
وكالماء لا يقر، والفضاء مداه الذي فيه يهيم.
الناس
جميعاً يحبون الخضرة والماء والنسيم والعطر والزهر، تتحول في أحاديث بعضهم إلى
عامية تافهة مملّة، وتغدو عند آخرين لوناً من التمجيد أو التسبيح، أو التصوير
الرشيق. أما وصفي فقد نمت في نفسه وجوداً آخر اغتنى وتناغم واتضح، واستحال، من بعد،
إلى لوحات أبرزتها لغة الشعر دفقاً من الشعور، ورؤى على أقواس قزح.. اللوحات عنده
ليست مجرّد أداء مسطّح، فقد ألهبها بأشواقه، وأضفى عليها من الحنين ما يجعلك تحس
أنك محمول بيت عالمين، في حال من الوعي واللاوعي، الصوت عميق بعيد.. واللون يصبغه
الإحساس، والرفيف والحركة يبدّلان الخطوط.. أرجوحة الشعر تشدّها النجوم، ويجذبها
عبير التراب، ويستحيل فيها الحلم إلى واقع، والواقع إلى حلم.. كل ما حولك يشفّ عن
الوجود الأكبر، ويجسّد الحياة في أوج حدّتها وعنفوانها..
الصبح
في غلالته الزرقاء نديان ناعم..
" بين
هدبيْه من عطور الليالي، حلْم، هزّه الضحى فتفتّحْ
طار
ملءَ الآفاق، في فمه الليلُ، ذبيحٌ، على الوهاد، مجرَّح
واستفاقت سمر الظلال، فلفّته بأهدابها، فأغفى، وصوّح
مشهدٌ
يعقد اللسان، ودنيا، ترسل النفس، في الفضاء فتسرحْ "
الأنا
تذوب، تنحلّ في كل ما حوله، يضيع ما هو إنساني وما هو غير إنساني، ثم تعود فتتجمّع
وتنفصل وتستقلّ. في داخل المشهد هو وخارجه، يكون اللون حيناً، واليد التي تحمل
الفرشاة أحياناً.. حال من أحوال الوجد، على حدّ تعبير المتصوّفين.
"
الكلمات النابعة من المخيلة لا يمكن أن توازي ما ينبثق عن الواقع "، غير أن الفنّان
الكبير هو ذلك الذي يعرف كيف يؤلّف بين الواقع والمخيّلة. ويوائم بينهما حتى لا
نكاد نميّز بين ما أملاه هو وما فرضته تلك.. ودوره ليس أبداً أن يؤلف أو يوائم
فحسب، إنه يقظان حالم، لا يستحضر الطبيعة صوراً حسّية وإنّما يتّحد بها، يعيش في
حال انخطاف، تُملي عليه أحلاماً، ويخلع عليها أحلاماً.. ثمّ يرتدّ إلى أرض الواقع،
لينقل إلينا، بالكلمة الشعرية، تجاربه الجمالية من أفق شخصي وغير شخصي، يجعل من
العادي شيئاً غير عادي، ويضع القارئ في كثافة المشهد الشعورية، حيث يعيش من جديد،
رؤى الشاعر وأحلامه، أسير المدى الحر، فوق النهايات، معنى كبيراً للوجود الأكبر.
تراني
كنت مخطئة حين رأيت أن شخصية وصفي بمعناها الإنساني والجمالي، تبرز في ملامحها
الأصيلة المميّزة عبر تقاطع خطوط ثلاثة، النضال والمرأة والطبيعة؟
* *
* * *
سطور
أخيرة..
وصفي في
حياتنا الشعرية يقرر حقيقة أكيدة هي أن الشعر ما يزال يتكامل تكاملاً تاريخياً..
وأن التمرّد الكبير لم يكن قادراً على كسر الإطار، وتخطّي الإيقاع الجزل المتوتر،
وتجاوز الكلاسيكية الغنائية..
عالمه
رحب من الداخل، ولكن رعشة البادية تلفّه باستمرار وتحتضن تموّجاته، وتأبى بصلابتها
إلا أن تكون النغم الموقع على عروض الخليل..
والرؤية
الجديدة، والتناغم الداخلي، والثورة التي تتجدّد أبداً في نفسه، كانت قادرة على أن
تسقط من شعره العلاقات التعسّفية التي تربط فكرة معيّنة بعبارة معيّنة، أو التي
تسحب على القارئ آثار تراث كبير من الشعر المقفّى، غير أنها لم تكن كافية كي تهزّ
الشكل، وتساقط اللبنات، وتطلق للتعبير الشعري العنان.
في حدود
الرؤية الشعرية، كنت ترى هذا الفيض التلقائي المتوثّب، يتفجّر أو يهدر، ويتّخذ في
الصياغة طابعاً متوترا، متقطعاً، انفعالياً، عاطفياً، كضربات القرار تحت أنامل عازف
مجنون، تكاد أصابعه تتكسر على أوتاره - كما يقول أبو ريشة- ولكنه يبقى مع ذلك
ملتزماً بالنمط التقليدي في شكله العام.
الإثارة
تأتي من الخارج، من الظروف، من الأحداث، ثم تتّجه نحو الذات، وتتوغّل، وتلتهب في
متاهات سحيقة، لترتدّ من بعد إلى الخارج فيضاً قوياً يتحدّى، ويبتعث انفعال القارئ
من مراقده، ويولد بينه وبين الشاعر علاقة هي أقرب إلى الانفجار الشعوري الذي تحدثه
المشاركة الوجدانية بين الخشبة والصالة، في مسرحية مسيّسة.
الثقافة
لم تلعب دوراً أساسياً في نتاجه الشعري، وقد تكون مسؤولة إلى حدّ ما عن عزلته عن
تيّارات التجديد التي بدأت تتلمّس خطاها في العالم العربي آنذاك.
كانت
الأرض تتشقّق عن أكثر من بذرة، والنبتات الصغيرة تنمو في ظل الريح.. دربها الدرب
ولو أنه غير ممهّد. وبدايتها، على سطحيتها وضبابيتها، إعلان عن حياة جديدة،
لإشراقات جديدة، وفكر جديد، ورؤى أغنى وأصدق.
أما
وصفي فقد ظلّ بعيداً، يجانب الخط الذي لم يتّضح بعد، ولا يدخل في التجربة..
ثائر
ومحافظ، ومعاصر وبدوي، والثقافة عائق كبير يقف في وجه المدّ.
ولعلّي
لا أبالغ حين أجد في شعره رداً على هربرت ريد الذي يرى أن الكلاسيكية نقيض دوافع
الخلق والإبداع، وأنها نسخة فكرية عن الطغيان السياسي " ففي كل أرض تلطّخت بدماء
الشهداء، نجد عموداً دورياً أو تمثالاً لمنيرفا"...
ألم
تصبغ هذه الدماء شعر وصفي النضالي؟ ألم تتفجر قصائده بألف صورة وصورة تحمل معالم
مستقبل أفضل، وأفق للجمال والشعر، جذوره في أبعاد التاريخ، وفروعه منتمية إلى زمن
سيأتي...
بشعلة
الحياة التي ظلّت تلتهب في أعماقه وبالحسّ السليم، عرف كيف يكون معاصراً، وكيف يقول
الكلمة التي تظلّ حيّة رغم كل الملابسات.
كان هو
نفسه رؤيا، وبالصورة الموجزة الفيّاضة، والإيماءة البعيدة البعيدة، كان يشفّ شعراً
يوحي أكثر مما يقول، ويلهب بالنار سيالات الشعور، يختلف في ذلك قوّة وضعفاً،
وحناناً وتصلّباً، وحبّاً أو تدميراً، ولكنه يظلّ باستمرار موجزاً معجزاً، ينصهر في
قصيدة الفكر والإحساس والصورة والمدى، كي تنتقل إلى القارئ فكراً وإحساساً وصورة
ومدى...
وبعد..
فهل بلغت المنتهى في كلامي على وصفي إنساناً وشاعراً؟ أحسب أن لا.
ينتهي
الكلام على الشعر، ولكن الشعر نفسه يبدأ، وأقرأ ما كتبت، وأعرف أن ما كتبته محاولة،
طرقات على باب وراءه دنيا بغير حدود.
لقد
توهّج القرص. طلع من أفق الشروق وتصاعد، ثم جنح إلى الغروب. أيها القرص المنحدر عن
قوس السماء الأزرق، ماذا يغريك في أفق الغروب؟
وصفي قرنفلي رومنسيّاً
د. قصي أتاسي
في معرض
الحديث عن الحركة الرومنسية لا بدّ من الإشارة إلى وضع الفنان في المرحلة
الرأسمالية التي في ظلّها نبتت غرسة الحركة الرومنسية ثم تفرعت أغصانها وأزهرت
وأثمرت.
لقد وجد
الفنان نفسه في ظل النظام الرأسمالي، ربيب الثورة الصناعية محاطاً بوضع غريب حينما
حوّلت الرأسمالية كل شيء إلى سلعة وراحت تعمل على تحطيم العلاقة بين المنتج
والمستهلك وتقذف بالمنتجات إلى سوق مجهولة تباع فيها وتشترى؟ وهذا ما أدى إلى
القضاء على الطابع المباشر للعلاقات الإنسانية وإلى ازدياد شعور الإنسان بالغربة عن
الواقع الاجتماعي وعن نفسه..
في مثل
هذا العالم لم يعد بوسع الفنان الإنساني الصادق أن يدافع عن عالم كهذا، عالم يشعر
فيه بالغربة والعزلة، عالم يسحق شخصه ويدمّر فرديّته... فكانت الرومنسية حركة
احتجاج صارخ على الدنيا الرأسمالية البورجوازية، على التفاهة والتجهم اللذين
يرافقان دنيا الأعمال والأرباح ويطبعانها بطابع القسوة والشراسة.
ولهذا
كان من التجارب الأساسية التي حرص الرومنسيون على تصويرها تجربة الفرد الذي يقف
وحيداً في مجابهة العالم، ويواجه المجتمع غريباً بين غرباء، وهذا ما أدّى إلى تقوية
الشعور بالذات وتنمية الذاتية المزهوة بنفسها، كما أدّى إلى شعور بالحيرة والضياع
والذهول والانطواء على النفس، والعزلة الكئيبة الموحشة مع المشاعر الداخلية
والأحاسيس الفردية. وهكذا راح الرومنسيون يعطون الحرية، ملء الحرية لأهوائهم
ونزعاتهم فانطبع إنتاجهم بطابع شخصباتهم وذواتهم، وظهرت فيه الاعترافات الشجيّة
والبوح الناعم الهامس بمكنون الوجدان. أمّا الخيال فلا تسلْ عن دوره، فهو الملاك
المخلّص، وعنده العزاء، وعلى أجنحته الذهبية سلوى لا تعادلها سلوى، وعالم سحري
عجيب.
أما
القواعد والقوانين التي وضعها الكلاسيكيون فإلى الجحيم، ففي قلب كل فنان نبع لا
ينضب وحماسة لا تجف، وتفجُّر ذاتي للانفعالات، وصبوات لا انتهاء لها، فليجدّد كل
فنان إذن وليستقٍ من ذاته ما شاء، وليأتِ بأخصب العطاء دونما حاجة إلى قانون أو
قاعدة.. وفي أحضانكِ أيتها الطبيعة مسرح للفكر والشعور وملعب للخيال الجموح وواحات
ظليلة لكل مُتْعَبٍ هارب من دنيا المال والأعمال.
*
* * * *
ويتأثر
وصفي قرنفلي مع مَن تأثر بالحركة الرومنسية ويجد فيها خير معبرٍ عن النوازع الفردية
المتمرّدة، ومجالاً تتنفّس فيه (الأنا) المختنقة المحبوسة التي مزّقها الألم
والصّراع اللامجدي مع واقع بائس متخلّف جامد، أصبح التلاؤم معه ضرباً من
المستحيل... فينغمس الشاعر المرهف المتوفّز الحس في تجارب فردية ذاتية يغرق فيها
همّه، وينسى ذاته ولو إلى حين، ويتعزّى عن الوجود المزعج المقلق بالشعر الذي يسرح
وراء الجمال، جمال المرأة – العزاء يتصيّد بسمتها الربيعية المنعشة ويتفيأ ظلال
هدبها، وينتشي بما يفوح من صبوات إذا مَشَتْ أو همَسَتْ أو غمَزَتْ:
وتغمز
جارتي: أتقول شعــراً؟ فلــم أنـبــسْ كــأن الأمــرَ سِــرُّ
وقالت:
غنّ بي شعراً وصِفني فـملتُ بـها أتـمـتـم: أنـت شـعـــر
علـى
شفتيـك متّـكأ الـمـعـانـي وفي الهدبـيـن.. قـافـيـةٌ وبـحــرُ
دم
العشـرين منـطــلق يـغـنـي كما غنّى مع النـسمـــات زهــرُ
خطىً
نغَمٌ وخصرٌ مستجيــبَ سرى فالأفق أنّى سرْتِ، خمـرُ
وإمّا
قلْتِ برعم كـــلٌّ حــرفٍ وماج على الأثير الرحبِ عطر
وهذه
تجربة ذاتية أخرى يسبّح فيها الشاعر بحمد الجمال المصفّى ويصلّي في هيكل الحسن
المعبود ويرتّل أنشودة الهوى المشبوب العاصف... حيث تبوح (الذات) بمكنون وجدانها
وتهمس (الأنا) العاشقة المُدَلَّهة مسحورة مبهورة تتعزى عن قبح الواقع بجمالِ
يتجسّد مفاتن أنثوية يغرق فيها الحس، وتستريح في ظلالها الأعصاب المكدودة المتوفزّة.
في
زحلة، جارة الوادي، عروس البقاع، أمضى الشاعر يوماً وليلة.. فكانت ذكريات.. وكان
شعر.. وكانت قصيدة بعنوان: مادونا.
مادون!
تـلويحٌ بقـبلـه زاد الـغـريـب ومـا أقـلَّـهْ!
وغداً
أروح وتنطوي في القلب أنّى رحتُ، غُلّهْ
مادون!
هذي كبرياء الشعر بين يديك ذِلّه
ما زحلة
السمراء؟ ما وادي العرائش؟ أنتِ زحلهْ!
شفةٌ..
سَلِ الشفق المحشرجَ: من سقاه دمي وعلَّه؟
والهدبُ
يا نَعَس الهوى سكب البنفسج فيه كحلهْ
الفـجــر هـوّم بـرعــمـاً والعطر تمتم فيه قبله
مادون!
إي مادون إنْ عقَلَ الهوى حطمتُ عقله
أنا في
الهوى طفلٌ وأنتِ وراء هذا الغنج طفله
ما
زحلةُ السمراء ما وادي العرائش؟ أنت زحلهْ.
وإذا
كان جان جاك روسّو يدعو إلى العودة إلى الطبيعة والارتماء في أحضانها واتخاذها
ملاذاً أو مهرباً من قسوة العيش وتعقّد الحياة وضجيجها.. وإذا كان لامارتين في
قصيدة (البحيرة) يستنطق الطبيعة، غاباتها ووديانها وغدرانها وجداولها وكهوفها،
ويشخّصها ويخلع عليها الحياة ليناجيها ويبثّها شجونه ويستودعها أسراره ومكنونات
وجدانه فوصفي قرنفلي لا يقلّ عنهما التحاماً بالطبيعة والتصاقاً ولا يقصّر عنهما
تشخيصاً وتأنيساً وإحياءً وتحريكاً... حتّى تنقلب الطبيعة كائناً حياً يتنفس ويلهث،
بل يعاتب ويلوم ويغنّي ويرقص ويهفو ويميل ويسكر ويطرب:
...
فإذا الصّبحُ في غلالته الزرقاءِ ساجٍ ينهلّ طيباً ويلمحْ
رفّ
وانسلّ من براعمه الخضرِ طريّاً مهفهفَ الخطوِ أفيحْ
بين
هدبيْه من عطور الليالي حلْم هزّه الضحى فتفتّحْ
طار
ملءَ الآفاق، في فمه الليلُ ذبيحٌ على الوهاد مجرَّح
فاستهلَّتْ له الرياض ومدّ الورد خدّيه للحبيب ولوَّحْ
طلع
الصبح! فالفضاء مدى عينيك عطرٌ سارٍ ونور مجنَّحْ
عُرُس
الشمس زغردت في فم الصبح وراحت تزقّه فترنّحْ
وكأن
السماء شقَّتْ عُراها واستطارت في رفرف الشمس تسبحْ
والطيور
استقلّت الجو أسراباً وراحت تدغدغ الجوَّ صُدَّح
مشهدٌ
يعقد اللسان ودنيا ترسل النفس في الفضاء فتسرحْ
لذّة
كالنسيم ناعمة بيضاء تنساب في الصدور فتشرحْ
قلت: يا
صبح مرحباً، وسألت الشعر: ماذا ترى؟ فصلّى وسبّحْ.
وإذ كان
الرومنسيون يعيشون في أعماقهم مأساة الضياع والتخبّط ويندبون (الآمال الضائعة)
المتحولة إلى رماد منطفئ... وإذا كان إحساسهم بالغربة والمرارة والخيبة ينغص وجودهم
ويملأ افواههم بطعم الملح فيسعون وراء الأحلام يتعلقون بأذيالها، ويجرون وراء الوهم
يستحلفونه أن يحملهم على أجنحته فإن شاعرنا يشعر أعمق ما يكون الشعور بالحاجة إلى
اقتناع يملأ فراغ النفس وعقيدة تشحن خواء الروح... ولهذا يتعلق بالآمال ويستمسك بها
ولو كانت سرابية ضبابية بعيدة لا تُنال، زئبقية لا يُمسَك بها، ويعلن عن رضاه
بالأوهام واكتفائه بالأحلام فهي خُبْز الحياة، ونبيذ الشرايين، وهي الزاد الذي لا
غنى عنه في رحلة الوجود... أليس الوهم في لحظات أحلى من أية حقيقة؟ أليس السراب
أحياناً أندى من أي ينبوع؟
عصف
اليأس بالبقية من كأسي فأفرغت في التراب شرابي
...
قيل: في اليأس راحة.. تعس القول وهذي أشلاؤه في ثيابي
إنّ شر
الجراح جرحك يا يأس بل الموتُ دون هذا العذابِ
الفراغ
العقيم لونٌ من الموت تعرّى حتى من الاكتئابِ
... يا
ضلالي طال السّرى وتداعى دربكَ الميْتُ متعباً في الشعابِ
يا لرجس
العلوم.. أنقى وأسمى من جميع العلوم طهرُ الغابِ
إنّ
خيراً من الحياة بلا ربٍّ وأندى عبادة الأنضابِ
نفض
اليأس في دمي عنصر الموت وذرّ الصحراء في أهدابي
قتل
الشعر في فمي ولواني عن صحابي فملّني أصحابي
صبغ
الأفقَ بالدُّجى وأتى الخمر فصبَّ الظلام في أكوابي
يا
لفقري حرمت حتى من الدمع ومن رعشة الأسى في إهابي
يا
أمانيّ عدن بي هزّني الشوق وضجَّتْ في رمّتي أعصابي
عادني
الشوق يستغيث إلى دائي وجرحي وحيرتي واغترابي
يا
أمانيّ انفضي في دمي الميْتِ حفنةً من خضابِ
يا
ضلالي عدْ بي إلى الوهم أعبدْه وابني في ظلّه محرابي
الأمانيُّ من سرابٍ ولكنْ آه مَن لي بجرعة من سرابِ؟!
وإذا
كانت آلام ألفريد دي موسّيه وبوحه الشاكي وأنينه الخافت ونشيجه المحشرج قد انسكبت
عصارة شعرية مصفّاة في قصائده الرومنسية؟ وإذا كانت جراح فؤاده المدمّى قد صبغتْ
قوافيه بألوان الأسى والكآبة والغمّ فغدت شاهداً خالداً على (الأنا) المعذبة
المفردة الوحيدة التي لا معين لها ولا أنيس في وحشة الحياة وصحراء العيش؟ فإن آلام
وصفي قرنفلي قد فعلت فعلها ولعبت دورها في شعره فانعكست حسراتٍ دامعة، واجتراراً
للذكريات يمضغها، ورثاء للشباب الذي لن يعود، ورنّة تشاؤم سوداوي يعلن فيها الشاعر
استسلامه ورميه للسلاح واعترافه بالهزيمة وتسليمه بالانطفاء والانتهاء... فراح
يترقب المصير الفاجع، وينتظر بل يتوقع فاجعته النهائية التي تنهي سائر الفواجع
وتختمها..
كانت
تلك أهم الملامح الرومنسية وأوضحها عند وصفي قرنفلي: شعور حادّ بالغربة والضياع،
وتخبط عشوائي لا يعرف له مستقراً ولا وجهة يتجه إليها، وإبحار مع التيار لا يأمل في
مرفأ أو ملجأ، وانكفاء على الذات وتغنٍّ بشجونها، وإنصات إلى ما تهمس أو تبوح به،
وسعيٌ حثيث لا يتعب وراء لذّةٍ عابرة تتجسّد جرعةَ شراب أو قبلة شفةٍ ظمأى، ولهفة
حرّى لاهثة وراء السّراب ولا وصول، واجترار للذكريات والحسرات الدامعة، ودمعة ترثي
كنز الحياة الذي ستواريه هوّة العدم!!
نعم إنّ
(وصفي قرنفلي) يقف شاهداً على الحركة الرومنسية في الشعر العربي الحديث وممثّلاً
حيّاً لما لها من سمات وخصائص.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق