مجلة السنونو (
العدد العاشر ) -
مهجريات
|
|
أمريك -
الحضور العربي في أمريكا الجنوبية ( بقلم :
أوزفالدو تروزي )
|
|
أمريك – الحضور العربي في أمريكا الجنوبية
أوزفالدو
تروزي
أمريك –
هكذا كان المهاجرون العرب يلفظون كلمة أمريكا التي كانت وجهة الكثير من الشبان
الذين، منذ نهاية القرن التاسع عشر، سعوا للهجرة بحثاً عن تحسين الأوضاع المعيشية
لعائلاتهم. سمّوا أمريكا الشمالية كما الجنوبية بـ (أمريك). وتجدر الإشارة إلى أن
أمريكتنا الجنوبية معروفة في العالم العربي بـ (أمريكا الأخرى).
ظهرت
بوادر للثقافة العربية في أمريكا الجنوبية بعدة أشكال قبل بداية الهجرة في نهاية
القرن التاسع عشر. أتى بها الستوطنون، ظهرت في اللغة، في الموسيقى، في فن الطبخ، في
فن العمارة والزخرفة، في التقنيات الزراعية والريّ، في علم الصيدلة وفي الطب. وذلك
عائد لسيطرة العرب على شبه الجزيرة الإيبيرية لحوالي ثمانية قرون، تاركين حضوراً
بالغاً الأثر. غرناطة وهي آخر معقل عربي على أرض أوروبية، استرجعها المسيحيون عام
1429، نفس العام الذي وصل فيه كولومبس إلى أمريكا.
بفضل التعايش الطويل الأمد بين المستعربين (moçarabes)
والمدجّنين (mudéjares)
والخلاسيين*، فإن اللغتين المحكيتين في شبه الجزيرة تدينان للغة العربية بكثير من
مفرداتهما: berenjena (باذنجان)،
aduana (الديوان)،
babuchas (البابوج)،
albanil
(البنّاء)، café (القهوة)،
algodon (القطن)،
chafaeiz (الصهريج)،
zanahoria (الجزر)،
cifra (الصفر)،
azucar (السكر)، elixir
(الإكسير).
هناك
مجموعة من حوالي أربعة آلاف كلمة من أصل عربي في اللغة الإسبانية. هذه المجموعة
تؤلف ثلث اللغة، إضافة إلى اللاتينية واليونانية. ويُلاحظ هذا التاثير أيضاً على
اللغة البرتغالية من خلال آلاف الكلمات مثلاً: oxala(ojala
بالإسبانية)، وهي مشتقة من العربية " إن شاء الله)، هذه العبارة شائعة جداً في
اللغة العامية، تعكس تسليماً تاماً للإرادة الإلهية على حياة البشر. في القرن
التاسع عشر، في منطقة " باهيا" (Bahia)
المستعبدة، شمال- شرق البرازيل، كان هناك وجود ملحوظ للغة العربية والثقافة
الإسلامية بين الأفارقة الماليه (malês)
بسبب ارتباطهم الديني.
أدخل
العرب إلى شبه الجزيرة الإيبيرية أشياء أساسية مثل الأرقام العربية لتحل مكان
الأرقام الرومانية صعبة الاستعمال في الحساب، وألعاب مثل الشطرنج، والطاولة، وحتى
فن الخط، حيث أنهم يعتبرون أن الوحي الإلهي أنزل بواسطة الكلمة المكتوبة. في فن
الطبخ نشروا القهوة والحلويات والفطائر، وزيت الزيتون ليحل مكان دهن الخنزير المحرم
دينياً، والكثير من التوابل، مثل الزعفران وجوز الطيب والقرنفل والقرفة، والفلفل،
وغيرها من البهارات.
في
الموسيقى، كان للعود وهو عربي الأصل سلالة واسعة في أمريكا، إذ انحدرت منه عائلات
حقيقية من الآلات الموسيقية: الرباعي، الخماسي، السداسي والثماني الفنزويلي والـ"
باندولا " (bandola) في كولومبيا
وفنزويلا وآلات وتريّة تسمّى " بانجو" (banjo)،
منتشرة بين الزنوج في أمريكا الشمالية، إضافةً إلى الناي العربي، الذي يعتقد أن
المزمار الإيبيري انحدر منه، والدف الذي سبق الـ" بانديرو"
(pandeiro).
ادخل
العرب ايضاً إلى أوروبا زراعة الرز وقصب السكر الذي حظي بأهمية بالغة في بداية
الاستيطان في البرازيل. إن الأرض الجدباء والصحراوية أكسبت العرب مهارة في التقنيات
الزراعية والري، فنشروا الطواحين المائية في أوروبا، فاستوحى منها البرتغاليون
لاحقاً معاصر قصب السكر في بدايات الاستعمار.
في فن
العمارة، شكل الطراز " المدجّن" النموذجي الإيبيري، ربما الحدث الأكثر بروزاً في
تاريخ الفن الاسباني. تميز بالتعايش والانسجام بين الفن العربي الإسلامي وعناصر من
الفن الأوروبي المسيحي، خاصة الطراز القوطي. عن الفناء ونافورات المياه، الشرفات
وقبب الكنائس والأديرة كما التقسيم الداخلي للمنازل، يعكس فن العمارة " المدجّن(mudéjar
(، في جميع أنحاء أمريكا الجنوبية. وهذا
النموذج موجود في كولومبيا، في بوليفيا، خاصة في مدينة سوكري، في البيرو، في
كاتدرائية العذراء " كانديلاريا" (candelaria)،
في قرى على ضفاف بحيرة تيتيكاكا(Titicaca)،
في الشيلي، في كنيسة سان فرانسيسكو في سانتياغو وفي أماكن أخرى في مرتفعات الآندس،
كما توجد أعمال رائعة في كيتو، الإكوادور. نماذج أخرى، مثل الشرفات في القصر
الأسقفي في ليما، وصالون الحمراء(Alhambra)
في النادي الاسباني، في بوانس آيرس، الأرجنتين، تؤكد حضور الأثر العربي بشكل واضح.
والعنصر
الثاني البارز للحضور العربي في أمريكا الجنوبية هو الوصول المباشر للمهاجرين، خاصة
السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، إبتداء من آخر القرن التاسع عشر. في البدء
كانوا يهدفون لهجرة مؤقتة، من أجل تحسين أوضاع عائلاتهم التي كانت تعاني من مصاعب
اجتماعية واقتصادية. لكن ما رجوه مؤقتاً تحول فيما بعد إلى هجرة دائمة، وعوضاً عن
رجوعهم إلى ديارهم، جلبوا عائلاتهم إلى المهجر. الأخ جلب إخوته، أولاده، زوجته،
أولاد أعمامه، والديه، أعمامه، أجداده، أبناء بلدته ومعارفه.
امتداداً من الأمازون حيث كانوا يتنقلون في مراكب تجارية(regatoes)
إلى كل أنحاء أمريكا الجنوبية، يطلق عليهم نفس اللقب: " تركو"
(turco)، وكانوا دوماً يعترضون على هذه
التسمية. حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، كانوا يصلون إلى المهجر حاملين جوازات
سفر صادرة عن الإمبراطورية العثمانية، وهي في حالة انحلال آنذاك، فلم يرغبوا فب أن
يطلق عليهم اسم الذين كانوا يتسلطون على بلادهم. وفي القصة الكلاسيكية " غبرييلا،
قرنفل وقرفة "
(Ga
breila, Crav o e Can ela)، للكاتب جورج أمادو(Jorgre
Amado)، أحد الشخصيات الرئيسية " نسيب " يجسّد تلك
الحالة:
" كان
الكثيرون وخاصة الأصدقاء منهم ينادونه بعربي أو تركي، وهذه حقيقة. وكان هذا تعبيراً
ودياً وحميماً.. أما نسيب فلم يكن يحب هذه التسمية، فيرفضها منزعجاً وأحياناً يغضب
منها. فيجيب:
- "
تركية " هي أمك!
- لكن
يا نسيب...
- نادني
ما تريد، إلا تركي. أنا برازيلي ويضرب بيده الكبيرة على صدره الكثيف الشعر ويضيف:
ابن سوري والحمد لله .
- عربي،
تركي، سوري، كلّه نفس الشيء.
- نفس
الشيء لا، يا صاحب القرون! أنت جاهل، لا تعرف لا التاريخ ولا الجغرافيا(...)
- مهلاً
يا نسيب، لا تغضب، لم أقصد إهانتك.(...)
وكما هو
واضح في حال نسيب، فإن المجتمعات في العديد من دول أمريكا الجنوبية لم تكن قادرة
على تمييز أصول المهاجرين. فصنفوهم ضمن مجموعات شاملة وغير دقيقة، فتنصهر هويتهم في
المجموعة الأكبر، نتيجة لتفاعل المجتمع معهم. لذلك فإن كل الهويات الدينية
والجغرافية التي يوليها المهاجرون أهمية كبيرة كانت تسقط في نظر الباقين، برازيليين
كانوا أم من عرق آخر.
شكل
السوريون واللبنانيون أغلبية المهاجرين إلى البرازيل والأرجنتين وإلى كافة أنحاء
المنطقة. في الشيلي، كان الكثير منهم من أصل فلسطيني. كانوا يخططون للعودة لديارهم
بعد عدة سنوات، الكثير منهم أتوا عازبين، يسعون لتوفير بعض المال كي يرسلوه إلى
عائلاتهم في قراهم البعيدة والراسخة في عقولهم وقلوبهم. كان لديهم دائماً قريب أو
مواطن قد سبقهم إلى بلاد المهجر فيمكنهم الاعتماد عليه عند وصولهم إلى العالم
الجديد في تأمين المسكن، تعلم اللغة، إيجاد عمل، اعتماد مالي، بضاعة يجول بها
بائعاً، مدرسة للأولاد الخ.
مع أن
العمل الرئيسي للعرب في بلادهم كان الزراعة، لكن في أمريكا الجنوبية، اختار معظمهم
مهنة التجارة. توغلوا في داخل البلاد كبائعين متجولين ينشرون في الأماكن النائية
آخر مستجدات العاصمة. يحملون صندوقاً أو حقيبة على ظهورهم أو على ظهور الحمير،
يبيعون جميع أنواع الخردوات: خيطان، علب كبريت، ثياب، أقمشة، حلي، مأكولات، بمجملها
للاستهلاك الشعبي. من " الآندس" الفنزويلية، من " غواخيرا "
(Guajira) الكولومبية، من "سيروس"
(ceros) الشيلية في " لاس كوندِس"
(Las Condes)، إلى الطرقات
المغبّرة في قرى " البمبا" (pampa)
الأرجنتينية، لا يهم! إن " التركي المتجول " بائع الخردوات، يشكل وجهاً مألوفاً.
إضافة إلى وجوده في المدن الكبرى: " مونتيفيديو، سانتياغو، لاباس، سانتاكروز ديلا
سيارا، فالانسيا (فنزويلا)، ليما، كوزكو، بوغوتا وبارّانكيلا في كولومبيا التي
استوحى منها الكاتب غبرييل غارسيا مركيز روايته المشهورة
(Calle de los Turcos de Macondo).
على
غرار مجموعات كثيرة وصلت إلى المهجر تجمعوا في مناطق مركزية مخصصة للتجارة. في سان
باولو تواجدوا في شارع 25 آذار (25 دي مارسو) المجاور للسوق البلدي، في وسط مدينة
ريودي جانيرو، في شارع ألفاندغا (Alfândega)،
في بورتو أليغري، في شارعين منها أنْدرادي نيفيس (Andrade
Neves) وفولونتاريوس دا باتريا
(Voluntarios da Patria). فضلوا السكن في المدن. في
بوانس أيرس، تمركزوا في حي ريتيرو (Retiro)
القريب من المرفأ ومحطة القطار، وفي سانتياغو في المحل المعروف بـِ
(Recoleta).
بداية
كانوا يعيشون في غرف مستأجرة ضمن مساكن شعبية حيث تجتمع عائلات بأكملها على مساحة
صغيرة. وقد تميزوا بهذا النوع من التجارة الذي يقوم على الأسفار الطويلة يجولون
كبائعين يتحدثون بلكنتهم الخاصة:
يبدأ
الجولة من " فلوريس" (Flores)
حيث يسكن، يمر بـ " باليرمو" (Palermo)
حين عودته للحيّ. كما يسلك طرقاً بعيدة توصله إلى ضواحي المدينة.
Mustafa
– Si, dueme y brebara biernas que
manana vamos Tigre,
gamino Douring Club.
Os mascates para lَa
para cَa taq taq tَa
batem o metro na canastra ihihi fitinha? Retrosinho? Zabonetinho? bringuedinha?
Berfuminha?...
وبعد
مضي وقت على البيع المتنقل، يستقر المهاجر. يفتح متجره الخاص ويتخلى عن عمله السابق
لأحد أقاربه أو معارفه القادمين حديثاً. حيث أضحى طبيعياً إيجاد "حانوت لتركي" في
أي بقعة من البرازيل. اكتسبت محلاتهم التجارية في المدن الداخلية أهمية كبرى بسبب
موقعها قرب ساحة أو كنيسة القرية مما منح أصحابها حضوراً اجتماعياً متميزاً. هذا
الوضع المتشابه والمتكرر في عدة دول من القارة استوحت ومع مرور القرن العشرين،
ترسخت في الأذهان صورة المهاجرين العرب كتجار. طبعاً. المتحدرون من أصول سورية
ولبنانية كانوا قد انتشروا في مناطق كثيرة وعززوا حضورهم في مجالات عدة مثل محلات
الخردوات التي احتلت أهمية بارزة في ذلك الوقت. حيث أن سر نجاح الأعمال كان بتعزيز
الاستهلاك الشعبي.
" عندما
يصل " تركو" (turco) لشارع ما
ويفتح فيه محلاً تجارياً، الشارع يتغير. يكتسب ألواناً وهوية أخرى. الواجهات مليئة
بالخردوات. قمصان معلقة، ألواح الصابون تتدلى بواسطة الشرطان، حقائب مدرسية وألعاب
للأطفال. الألوان المتنوعة والأشياء المعروضة تضفي ملامح سورية على الشارع".
في هذا
الإطار، جدد المهاجرون مفهوم التجارة الشعبية بمنح تسهيلات للدفع، بإقامة التصفيات،
وتصريف المخزون من البضاعة بسرعة، حتى ينتقلوا إلى مرحلة متقدمة تمكنهم من البيع
بالجملة. الكثيرون منهم لم يتوقفوا عند هذا الحد. فأسسوا المصانع، أغلبيتها في مجال
النسيج والألبسة الجاهزة.
من
تسنّى له مرتقبة مسار العائلات العربية في المنطقة يلحظ الدور المحوري للعائلة
والعمل في جميع مراحل انخراطهم في المجتمع. عائلة ملتزمة بالعمل، المحل التجاري في
الواجهة والمسكن في الخلف أو في الطابق العلوي. العائلة تكدّ وتكدح. بعد أن تغلب
الجيل الأول على المصاعب سعى لرقي أبنائه الاجتماعي والاقتصادي عن طريق التعليم.
كانوا يرغبون برؤيتهم دكاترة وخصوصاً أطباء ومحامين. وانطلاقاً من هذا فإن وضعهم
المتميز ومعرفتهم الشاملة للنسيج الاجتماعي مدعوماً بالاختصاصات في المجال المهني
الحر، جعلهم يبرعون في حقول منه الكاتبة إسابيل أليندي شخصية رياض حلبي المدهشة. هو
إنسان شهم، كريم الأخلاق وكانت أعماله الأكثر ازدهاراً في المنطقة. كل ما تطلبه تجد
في محله: أغذية، أسمدة، مطهرات، أقمشة، أدوية، وإذا لم تجد المطلوب في مخازنه، توصي
التركي عليه وهو يجلبه في سفرته المقبلة.
مختلفة
كالطب والتدريس، الأدب والسياسة. في مجتمعاتنا، إن العدد الكبير للسياسيين
المتحدرين من أصل العربي يعبر عن إمكانياتهم الخارقة في التأقلم في العالم الجديد
بالرغم من أصولهم الثقافية البعيدة. إن الميزة التي تظهر التكامل الوطيد بين هاتين
الثقافتين هي إدخال المأكولات العربية على المطبخ المحلي. في مدينة سان باولو
مثلاً، ربع الوجبات المقدمة في الحانات والمطاعم آتية من المطبخ العربي. حتى إنّ
بعض الأطباق تحوّلت فيما بعد إلى مأكولات شعبية في العديد من دول المنطقة، مثل
الكبة، الصفيحة، التبولة، اللبن، البابا غنوج، الخبز العربي، المعمول، الفطائر،
الغريبي، المحاشي والكرواسان العربي.
ولم
يتأخر المهاجرون العرب كثيراً في الإعلان عن شعورهم بالامتنان للأوطان التي احتضنهم
فعبروا عن ذلك في مناسبات متعددة. وبالرغم من مرور أكثر من قرن على وصول أول
المهاجرين، وفي مقابلات أجريت مع المسنين القادرين على تذكر الماضي والمدركين
للصعوبات التي واجهوها إنهم يدلون بشهادات مؤثرة حول حياتهم ومسيراتهم.
إن
مشاعر الامتنان والثقة تتوافق مع المسيرات الغنية التي عاشتها الشعوب المتحدرة من
أصل عربي على كل أراضي أمريكا الجنوبية. إذا ما أخذت هذه التجربة الإيجابية
بالاعتبار وجددت لتتلائم مع الظروف الحالية يمكنها أن تؤسس بوادر لعلاقة أوثق بين
أمريكا الجنوبية ودول ومجتمعات العالم العربي، علاقة أوسع تتخطى المناطق التقليدية
التي جاءت منها مجموعات المهاجرين.
إلى طفولتهم فيكَ ـ يَاوَطني ـ يَرتدّون، هُنا .. هُنا .. حَيث تقفزُ البئرُ
وَالداليَة وَحيطان اللّيلَكِ إلى البَال.. وَفي تيَّار رائحةٍ حَميمَةٍ آسرةٍ
يغرَقون .. يتذكرون .. وَمَرة أخرَى يُدركون : أنَّ العمر ليسَ أمنيةً
وَدربَاً.. وَإنَّما هُو مكانٌ يَحتوي العُمر نسَميهِ : " الوَطن " .
نهاد شبوع
|
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق