مجلة السنونو (
العدد العاشر ) -
بين قوسين - قسم 1
|
|
الاماني
سراب من لي بجرعة من سراب ( وصفي
قرنفلي وطلائع النهاية
)
|
|
الأمانيُّ سرابٌ .. من لي بجرعة من سرابِ
وصفي قرنفلي وطلائع النهاية
أخي: " للأديب" * في قلبي،
ذكريات، فمن صفحاتها انطلقت
وعرفت، وعلى صفحاتها أنهي
-
بهذه الأبيات حياتي الشعرية
سلامي إليك، عش سعيداً
واسلم لأخيك(وصفي).
حسبي، فهذا دمــي
قد جـــف، واتـــأدت خطـاي، وانـــطفأت، في دربي
الشـــهـب
أمضي مع الدرب،
حيران الخطى، قلقـاً والتيــه يُـــجهــش فــي قلبــــي،
ويـنتحب
جف البيان،
فكـــان الورد، في شفتـــي، وكنت، أن قــلت شـــعراً،
بـــرعـم الأدب
تمـــر سمـــراء،
إن مـــرت، فيـــتبعها، طرفي فيـكبو، فيـغضي، والهــوى
تعــب
ويــزأر العــصر،
أحـــداثاً، فألجمــهــــا بالصمت، كالقبر، لا شـوق ولا
غضــب
وكنت - إذ كنت
شعراً- كلما ومــضــت بنـــا الحــوادث، كـالتيــار،
أصــطـــخب
إن قــلت
فالـعـرب الأحـرار، فـي قـــلمي كــأنــنـي - وأنا
مــنهــم- أنـــا الــعـــرب
* * * *
*
عـلـى
الـشـفــــاه - ومـالـي لا أدل بـهــا- قـصـائــدي
خـمــرة، أو نـكـهـة، عـجــب
* * * *
*
صحا السراب، فنام
الشعر، في كـبـــدي، كان الــســراب، مــنــى، إن المنـى
لهــب
الكـأس، تلـهـث
في كـفـــي، وقد ظـمـئت، والصـمـت، مـتـكـئ، كـالكـأس،
مكتــــئب
يا ذكريات اسكبي
في الكأس، مضطرماً كـالـنـار، مـن أمسنا، يضحك بها الحبـب
خـــبـــت
لـــيـــاليّ، إلا مـــــن تــنــهـــدة، تـئـن
ثـــكــلـى، وإلا، خـــافـــقــاً يــجــب
* * * *
*
حسبي؟ وأفرغت
كأسي، في قرارتــهـــا أفــرغــت دنــيــاي، لا جـــد ولا
لــعــب
أحــس - إن
مــلــت بالصــهبــاء أسكبـها- كــأن عــمـري، وراء الكـأس،
ينســكـب
أرى النهـاية،
خـلف الــدرب تـومـئ لــي، تَـخُــبّ نـحـوي ومشـيـي
نـحـوهـا خـبـب
واليـأس - هذا
الفراغ، الميت، في كـبدي- لـيـل تــسـاوى لـديـه،
الـبـعـد، والـقــرب
الـعـقـم،
والـلـيـل، والصـحـراء، تـلـك أنـا حـتـى، كـأنـنـي، إلـيّ
الـــمـوت يـنـتـسب
قـلـبـي
(كنـرجيـلتـي)، يـغـفـي عـلـى حـلـم قل، يا مارد، ترى هل
يــورق الحـطـب
* * * *
*
يا درب، عد بي،
فصاح الدرب:واحزني، وأطرق الشـيب يـبـكي: فــاتـك الـطـلـب
هـيـهـات أو
يـــســتــردَّ الــنــبـع جـدولــه، ويورق الشوك، فــي
عـنقــوده، عــنـب
إذا الــشـبـاب
مـضـى، فالـعـمـر، أطـيـبـه مـضـغ الـرمـال، سـراب، طـعمه،
كـذب
* * * *
*
مــاذا؟ ومــــات
ســـؤال، لا جــواب لـــه، ومـال هدب، وأغضى، لا يرى،
هــدب
|
|
كلمة نزار قباني في حفل تأبين وصفي قرنفلي
بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته
في
طريقي من بيروت إلى حمص، كان سؤال شرس، ونزق، ولئيم يثقب جمجمتي.
لماذا
يجتمع الشعراء دائماً على مائدة الموت، ولا يجتمعون على مائدة الحياة؟ هل قدرهم
المسطّر في اللوح المحفوظ، بأن يحملوا أجساد زملائهم على أكتافهم ويطمروها في السر،
حتى لا يراهم التاريخ ولا تراهم المروءات.
هل هناك
اتفاق مكتوب، أو شبه مكتوب يحتّم على الشعراء العرب أن يكونوا في حال حداد دائم..
وألا يتعانقوا إلا بعد سقوط الستارة، وانصراف المتفرجين هل قدر الشاعر العربي أن
يموت هذا الموت الدراماتيكي فلا تتعرف على جثّته، وعلاماته الفارقة وأوراقه
الثبوتية، سوى ديدان الأرض وأسراب النمل، وكواسر الطير.
هل
العالم العربي، لا اليونان هم وطن التراجيديا، وهل شعرائنا أن يلاقوا مصير هملت،
ويطعنوا ظهورهم كيوليوس قيصر؟
هل
الحزن هو الميراث الوحيد للشاعر العربي، منذ سقوط رأس الحسين في كربلاء حتّى اليوم؟
إنني
أبحث عن حادثة فرح واحدة في الشعر العربي، فلا أرى إلا حشرجات عبد السلام عيون
السود وسقوط عبد الباسط الصوفي منتحراً في كوناكري، وانطفاء وصفي القرنفلي كشمس
شتائية.
فهل كتب
على حمص منذ ديك الجن حتى اليوم، أن تقدم وحدها كل ضحايا الشعر، وأطهر قرابينه؟
هل على
وصفي القرنفلي أن ينتهي بهذه الطريقة الروتينية التي ينتهي إليها الأميّون،
والصعاليك، والتافهون، والمرابون، فيحمل في سيارة إسعاف مستعجلة، ووراءه مشيعون
مستعجلون، ليُصَلَّى عليه في كنيسة ما، ويُدْفَنَ في حفرة ما.. حتى لا يراه
التاريخ.. ولا تراه المروءات.
إذن، لن
تكون عربات المدافع، ووراء من تلهث الجياد الحزينة، ويغرف جنود البحرية موسيقى باخ
الجنائزية؟
أكيد أن
وصفي القرنفلي لا يريد عربة مدفع تحمله في رحلته الأخيرة، ولا طائرات هيليوكوبتر
تحلّق فوق جسده المحمول.. فهو من طبقة الشعراء الدراويش الذين يكرهون قواعد
البروتوكول، ويفضلون الصعود إلى السماء.. شيئاً على أقدامهم.. وأكيد أن وصفي
القرنفلي لا يحب في دقائقه الأخيرة أن تعزف له موسيقى باخ الجنائزية.. فاقد شرب
وصفي من بحار الدمع حتّى امتلأ.. وكانت حياته كلها إيقاعاً رمادياً وجرحاً لا ضفاف
له.. وأكيد أن وصفي القرنفلي لا يريد أن يشيع كالملوك وبدفن في مقابر الملوك فهو
بشعره وحده ملك الملوك. لم يكن وصفي بحاجة إلى العالم لذلك رفسه على طريقة المعرّي،
ومنذ الأربعينات كان وصفي في حالة صداع مستمرّ مع عالم العبث واللامعقول، فرفضه كما
رفضه كافكا وبيكيت وأونسكو..
لم يكن
لدى وصفي القرنفلي مواهب استعراضية، فهو لا يجيد التمثيل ولا يتقن ارتداء الملابس
التنكرية، ولا يعرف دبلجة الصوت، لذلك لم يستطع وصفي - لضغف موهبته التمثيلية- أن
يسرق الأضواء، وينال جائزة - الأوسكار- كان كالبحر مكتفياً بموجه وصدفه، وكالقصيدة
الصوفية، تطرب كلما قرأت نفسها، وكان كزجاجة النبيذ، كلما فكرت بنفسها سكرت
بتفكيرها..
هذا
الاكتفاء الذاتي المدهش، عند وصفي القرنفلي، جعله كالسحابة كلما عطشت فتحت شرياناً
من شرايينها الداخلية.. وشربت..
سألوني
أن أتكلّم في أربعين وصفي القرنفلي..
ولكن هل
مات وصفي القرنفلي منذ أربعين يوماً فقط.
أنا
أعتقد أنه مات قبل ذلك بكثير.
مات في
نهاية القرن الخامس عشر يوم سقطت غرناطة.
ومات
مرة ثانية حين أخرج العرب من فلسطين عام 1984
ومات
مرة ثالثة.. يوم تمزّقت خريطة العالم العربي وكبرياؤه بمقصّ إسرائيل في حزيران عام
1967
وخوفاً
من أن يموت موته الرابع.. تركنا، وذهب..
أيها
الشاعر الصديق
لم أقطع
مئات الأميال لأبكيك فلا أنا أجيد حرفة البكاء، ولا أنت تقبل مذلة الدموع..
ولكني
أتيت لأهنئك لأن جهازك العصبي قد توقّف عن الفعل والانفعال. وأعصابك لم تعد كأعواد
الكبريت قابلة للاشتعال في كل لحظة.
أنت
رميت نفسك من قطار الذاكرة ونجوت. أما نحن فلا نزال محاصرين في قطار حزيران.. لا
يسمح لنا أن ننتصر.. ولا يسمح لنا أن ننتحر.
هنيئاً
لك أيها الشاعر، فقد صرت في منطقة لا تصل إليها صحف عربية، ولا تصدر فيها بلاغات
عربية..
من حسن
حظك انك أخذت إجازة من حواسّك الخمس.
أما أنا
فما زلت يا صديقي محاصراً بحواسّي الخمس.. وما زلت مضطراً مع الأسف أن أفتح شراييني
وأكتب.
يا
صديقي وصفي..
لقد
اتحد وجعك بوجعي، وتداخل موتك بموتي، حتى لم أعد أدري من يرثي من..
|
|
من ذكرياتي مع الشاعر وصفي قرنفلي
بقلم: ممدوح سكاف
في جو
أدبي كان يغلي بالنضال الشعبي تعرفت وصفي قرنفلي أول ما تعرفته عالم 1954 وكان لي
من العمر يومئذٍ ست عشر سنة عن طريق كرّاسة شعرية مطبوعة صدرت في العام نفسه بعنوان
(موعد وعهد) تضم بضع قصائده الكفاحية الملتزمة مع الشاعر نصوح فاخوري. وكان اسم
وصفي قرنفلي يتصدّر كثيراً من المجلات والصحف والصفحات الأدبية في تلك الآونة من
خلال قصائد تفيض عذوبة وتجديداً وطابعاً رومانسياً من حيث السربال الفني، أو
التزاماً وحرباً ضد الاستعمار وعملائه من حيث المضمون الأدبي.
وتمضي
الأيام والسنون وإذا بالشاعر وصفي قرنفلي الذي أحببتُ وتتلمذت على يديه قراءةً قد
ودّع نظم الشعر1957 في قصيدة نشرت له في الأديب) بعنوان (طلائع النهاية) بعد أن دبّ
اليأس في نفسه وعصف التشاؤم بروحه وأنشبت مخالب المرض أنيابها في جسده الرقيق
الواهن النحيل ومطلعها:
حسبي، فهذا دمــي قد جـــف، واتـــأدت
خطـاي، وانـــطفأت، في دربي الشـــهـب
أمضي مع الدرب، حيران الخطى، قلقـاً
والتيــه يُـــجهــش فــي قلبــــي، ويـنتحب
وأذكر
أنه بناءً على طلبه أحيل إلى التقاعد من وظيفته حيث كان يعمل في مؤسسة المشاريع
الكبرى بدمشق مسّاحاً للأرض عريقاً، وخُصّص له راتب تقاعدي يكفيه مؤونة العيش هو
الذي لم يتزوّج ولم يُطِق إلا حمل عبء نفسه، أليس القائل في قصيدته (انطلاق):
أسعدُ
النّاس مُهمـــــــِلٌ مُهْمَلٌ ماله أحدْ
أبيض النفس كالضحى لم يلوّثه معتقد جَهِلَ الحبّ فاستراح والصداقات والحسدْ أغلق القلب وانطـــــــــوى ملء دنياه وانعقد وانتقل وصفي إلى بيته في حمص يسكنه بين أهله وذويه في حيّ(الورشة) أحد الأحياء الشرقية العريقة في مدينة ابن الوليد. وفي كل مساء اعتباراً من مطلع الستينات كان له مجلسه الأدبي الاجتماعي السياسي في مقهى الروضة الصّيفي والشتوي، يجلس في وسطه ويغرق حتّى القاع في (نرجيلته) يمتصّ رحيقها ويهيم في وديان حزنه العشبي.
إلى أن
كان يوم مشهود في حياتي قدّمني فيه أستاذي الأديب المرحوم(نديم عدي) إلى الشاعر
وصفي قرنفلي في موقف مصادف وكان ذلك على ما أذكر في مقهى (النصر) وكنت قد نلْتُ
الشهادة الثانوية في ذلك العام. ومنذئذٍ انعقدَتْ بيني وبينه صداقة متينة خالصة،
روحية وأبويّة وشعرية استمرّت اثنتي عشرة سنة متوالية كنت أزوره خلالها في بيته
القريب من بيتي كلّما سنحَتْ لي الفرصة أو كنّا نلتقي في عشيات(الروضة).
واذكر
انه قبيل أن يعتكف في البيت بدءاً من مطلع عام 1966 كان يستثقل الذهاب إلى المقهى
بعد أن اشتدّ عليه المرض وأعياه المسير، ومن أجل أن يتفادى مشقّة القدوم إلى المقهى
سيراً على الأقدام أخذ في الشهور التي سبقت اعتكافه في البيت ورقوده في فراش المرض
يستأجر سيّارة تأتي منزله فتنقله إلى المقهى وبالعكس وكثيراً ما كنت أشاركه ركوب
السيارة كي أساعده في فتح بابها بعد أن شُلَّتْ يده تماماً وعندما كنا نهم بالدخول
بالدخول إلى المقهى كان وجهه يتضرّج بالحمرة وجفناه يتكسّران على عينيه الذابلتين
وكان يطلب مني أن أقترب منه وأن أتقدّمه في الدخول حتّى أداريه فلا يشاهده أو يعرفه
روّاد المقهى، وأحياناً كان يهمس في أذني قائلاً ونحن نعبر المقهى إلى زاويته
المستحبة:- هل ينظر إليّ أحد؟.. وكنت أطمئنه قائلاً: - لا تهتم، كل جُلاس المقهى
منصرفون إلى لعبهم بالورق أو ما شابه، أو بالثرثرة والتدخين، لا عليك لا أحد ينتبه
إلا إلى من معه. حتى يصل منضدتَه المعهودة، فيسقط على كرسيها وأنا أسنده متهالكاً
من التعبين الجسدي والنفسي. ودون طلب يأتيه (نَفَس عجمي) على الأصول. والمعروف عنه،
المتداول في سيرة حياته أنه كان كريماً متلافاً يأبى أن يدفع أحد من الأصدقاء الذين
يشاركونه الجلسة ثمن المشروب حتى ولو كانوا عشرين عدداً. وقد حفز هذا الكرم
المتطفلين أو المفلسين للجلوس إلى مائدته، كما أسخط هذا الكرم عليه بعض معارفه وحتى
أصدقائه وظنّوه نوعاً من الترفع والمباهاة والتظاهر الفارغ وخافوا أن يمنّ عليهم
بذلك فأخذ بعضهم ممن لا يعرف صدق نفسيته وأصالة معدنه ونظافة جوهره ينصرف عن
مجالسته إلى أن اقتصر عن ارتياد المقهى نهائياً وقبع في بيته كما ذكرت سابقاً
اعتباراً من عام 1966، وفي هذا السياق يروي المرحوم الكاتب المسرحي مراد السباعي
هذه الحادثة: كنت مرة أجلس في قهوة الروضة ضمن شلة من أدباء حمص وكان الشاعر وصفي
قرنفلي حاضراً فهمس الشاعر عبد السلام عيون السود في أذني: يعجبني وصفي قرنفلي
فسألته: وما الذي يعجبك فيه، صمته أم قرقعة نرجيلته فأجاب: يعجبني كشاعر ويعجبني
كإنسان له مزاج خاص وإرادة حرّة.. إنه يعرف الناس جيداً.. إنّه يستطيع أن يغمض
عينيه فلا يرى منهم سوى الذين يريد أن يراهم.. هل سمعته في هذه الجلسة ينطق بكلمة
واحدة، فأجبت بالنفي، فقال: هناك شخص بين الحاضرين لا يروقه فسألته وكيف عرفت؟
فأجاب: عرفْتُ من صمته وإطراقه، وبعد لحظات غادرنا أحد الحضور فتألق وجه وصفي وعاد
إليه صفاء نفسه فالتفَتَ إلى عبد السلام وقال له: إن وجودك على طاولتي يجلب غليّ
وجوهاً لا أحبها فضحك عبد السلام كعادته وأجاب: لن اجلس إلى طاولتك بعد اليوم..
فقال صفي: تعال.. ولكن بدون نفايات.
وفي
دفتر مذكراتي المؤرخ في 24/11/1968 أقرأ: " أمس الأول كان بصحبتي الشاعر الصديق علي
كنعان في زيارة ودّ واطمئنان وسؤال عن صحة الشاعر وصفي قرنفلي المجهد مرضاً منذ
أكثر من ثلاث سنوات، المتمدد على فراش الأوجاع والأرق طوال هذه الفترة لا يريم حتى
لرؤية شعاع من شمس أو زرقة سماء كالحلم أو شجرة أكاسيا في حديقة أو زقزقة عصفور على
غصن.. إنه الشلل عدو الإنسان الأكبر في الحياة والإنتاج والإبداع يقيّد الشاعر
الحرّ، والجناحين الطليقين والحنجرة الهتافة عن الرفرفة والطيران والتأمل في حقائق
الوجود والاغتراف من ألوهية الطبيعة في عطائها المتجدد.. إنه الشلل، داء يثلج الجسد
الحارّ ويطامن النفس المتوثبة ويسربل الروح الحزينة أصلاً وأعماقاً بأسى متوالد
كدوران الدورة الدموية.
كبرياء
هذا الشاعر ونفسه العنود كانتا مثار الإعجاب والانتقاد معاً: في وظيفته بالمساحة-
وهو الطبوغرافي- الفنان- كان متكبراً على الوهاد والآكام والرمال واللهيب الحارق
تحت شواظ الساعور النووي: الشمس، يعمل فيهنّ وبهنّ ومن أجلهنّ دون ملل أو انكسار،
رافضاً كإنسان شامخ الهمة أن يطلب النقل إلى وظيفة إدارية في المدينة بباعث من
الكبرياء... وفي شعره، كبرياؤه الأسطورة أيضاً جعلته يصطدم شعرياً وبالقصائد الحادة
مع أكبر الشعراء المعاصرين له والمعجبين بشاعريته، يدوي الجبل وعمر أبو ريشة ونزار
قباني وغيرهم، وكبرياؤه كذلك في ميدان الشعر هي التي حرمت قراءه من ديوان مطبوع له
لأنه شرط على وزارة الثقافة ألا تحذف فاصلة من نصّه المخطوط. هذا الشاعر المتوحّد،
ذو العالم المفتوح المغلق، الواسع الضيّق، يعيش بالرصيد الذي لا يفنى من سيل
كبريائه، ففي مرضه وسنّه المتقدّم وعزلته القاسية ما يزال حديث الكرامة وعزّة النفس
حديثة الأجل.
قبل أن
نودع الشاعر - أنا وعلي كنعان- قدّم لي وصفي ورقة وقلماً قائلاً: "هذه أبيات رثيت
بها نفسي، ووصيتي أن تكتب على شاهدة قبري" وأملى عليّ:
لـقــد
غــدوتُ تـــرابـاً لا يــحــركــنــي بيتٌ من الشعر أو زهر على غصـن
حسبي-
ولا حسب خلف القبر- متكئي في حضن أمي وأني في ثرى وطني
وأنـنـي
كـنـت- والأحـرار تـعـرفـنـي- حرّاً أضأت دروب الشعر في زمـني
وقلت
في نفسي: حتى في رثائك لنفسك أنت قمة كبرياء يا وصفي".
من
ذكرياتي معه أنني دخلْتُ عليه أعوده في مأساة مرضه الطويل وكان ذلك في مطلع عام
1970 وأعايده بمناسبة عيد الفصح ما إن فتحْتُ باب الغرفة حتّى نظر في وجهي نظرة
المعاتب لغيابي عنه فترة مديدة في تقديره وقال لي بصوت يتحشرج فيه الألم والأسى: "
أين كنت طوال هذه الغيبة".. أذكر.. كان ممدوداً على سريره بهدوء واستسلام، ووراء
رأسه متكأة صغيرة وبجانبه راديو" ترانزيستور" صغير الحجم جداً يتصل من خلال موجاته
بالدنيا من حوله، وعلى منضدته صحن من زبيب وتين مجفّف ولوز وجوز.. والظلام يخيم على
جو الغرفة في النهار، وكذلك الصمت.. لست أدري لماذا أحسست آنذاك أنني في دير قديم
له طقوسه الجنائزية الخاصة. كان هذا هو كل عالمه بعد أن حرم متعة القراءة لأنه لم
يعد يستطيع أن يمسك الكتاب أو المجلة بين يديه، فيداه مشلولتان. الواقع لم تكن يداه
مشلولتان فقط وإنما كان جسده كله مشلولاً راكداً. كان جسده يذوب كالثلج تحت شمس
المأساة. كان كومة من لحم بارد وعظم متيبّس. شيء واحد كان فيه متّقداً، بل شيئان:
عقله وذاكرته أولاً وقلبه وعاطفته ثانياً.. إنه يحدّتك عن ذكريات بائدة مندثرة عند
غيره، عمر بعضها أربعون عاماً، فلا يفلت من جزئياتها شاردة ولا واردة إلا ذكرها،
وكأنه يروي لك أمراً جرى البارحة، أو كأنه يقرأ في كتاب مسطور، وهو يعتز بهذه
الذاكرة الشابة المتيقّظة التي لا تخزنه: (لقاؤه مثلاً بالشاعر الفلاني سنة كذا
والأبيات التي قالها كلّ منهما في جلسة خمر.. مظاهرة في حمص قامت عام كذا ضد
الفرنسيين، من استشهد فيها ومن نجا من الزعماء الوطنيين وماذا قال الشعراء في وصفها
وتمجيد أبطالها.. إهداء سعيد عقل له كتابه(قدموس) الصادر في طبعته الثانية عام 1948
بالعبارات التالية: ((إلى وصفي قرنفلي.. إلى المجدد الأول في سورية.. إلى الذي
بإمكانه أن يترك طابعاً من الجمال والنار على بلاده وأدبها.. إلى الذي ترتفع علاقتي
به إلى مستوى الصداقة)). زيارته للاتحاد السوفياتي للاستشفاء وموازاة غرفته لغرفة
مولوتوف في المشفى إلخ.. إلخ).
طافت في
خيالي صور حياة (وصفي قرنفلي) هذا الشاعر العربي الكبير قعيد المرض منذ سنوات:
شبابه المناضل ضد الأحلاف الاستعمارية التي أرادت تطويق قطرنا في الخمسينات.. عمله
المبدع في المساحة(طبوغرافيا) فريداً من نوعه يقطع البلاد طولاً وعرضاً تحت قيظ
الشمس اللاهب وصقيع البرد الجارح ليمسح الأرض التي أحب، شعره الغزل الذي تنبثق فيه
المعاني والصور والتعابير بكل جديد انبثاقاً فنيّاً رائعاً وخاصة في قصائده الأولى
المبكرة التي أعاد نشر جزء منها في مجلة (الآداب) و(الثقافة الوطنية) في منتصف
الخمسينات وكنا ننتظرها انتظاراً نحن قرّاء ذلك الزمان.
طافت في
مخيلتي هذه الصور وغيرها من سلسلة الصور البيضاء والسوداء في حياة هذا الشاعر
الفنان وقلت في نفسي:
- كيف
يستطيع إنسان كان يُدْمن معايشة الناس يومياً أن ينقطع عن الناس فلا يراهم إلا
لماماً من خلال زياراتهم العابرة له؟.. وكيف يستطيع إنسان كان يُدْمن معايشة
الطبيعة دائماً أن ينقطع عن مرآها فلا يتملّى مِنَحها الإلهية إلا من خلال شجرة
أكاسيا وحيدة تواجه نافذة غرفته، بعد أن كانت هذه الطبيعة كل حياته ومرتع عمله
ومثار صبواته واستغراقاته الفكرية والروحية؟..
وكيف
يستطيع إنسان أن ينقطع عن المشاركة في بناء المجتمع العربي التقدمي الاشتراكي الذي
كان يحلم بتحقيقه بعد أن كانت هذه المشاركة تشكل محور همومه وطموحه ونضاله وخبزه
اليومي. ولكي أنتشل نفسي من بئر تصوراتي العميق، اقتربت من سرير الشاعر الصامت
وسألته كما هي العادة عن صحته فأجاب بتفاؤل:
- هل
أخبرتك.. هناك دواء جديد أتعاطاه.. أرسل لي من أمريكا خصيصاً وهو مُجَرّب ويشفي
حالة مثل حالتي.. وأردف بفرح طفولي:- ولن تمرّ شهور حتى أعود كما كنت.. أخرج وأمشي
وأطالع.. وألقى الحياة وأعيشها.. وأرتدّ إلى أصدقائي ونفسي.. كان يقول هذه الكلمات
بثقة وأمل كأنه يتحدى مرضه المزمن وواقعه المؤلم ويخلق من صميم مأساته لحن غبطة
وسعادة ويفتّق من ظلام نهاراته ولياليه الطوال المتشابهة المتآكلة مهما كان فعّالاً
ومؤثراً أن يشفي مريضاً في الستين من عمره أقعده الشلل الرعاش الكامل في الفراش منذ
سنوات وأفقده الحركة والنطق الواضح؟!.
كان
يرافقني في زيارتي هذه المرّة صديقي الشاعر الشاب- آنذاك- (أحمد دحبور) وكان قد
شارك في مهرجان المربد الشعري لذاك العام وأراد أحمد أن يُسلّي وصفي فحكى له عن
المهرجان قائلاً: بعد أن أنهيتُ إلقاء قصيدتي ونزلت عن المنصّة سألني الجواهري
بحماسة:- من بلد وصفي قرنفلي أنت.. إنّه شاعر كبير... سلّم لي عليه..(وانفجر وصفي
لدى سماعه هذه الكلمات بعاصفة مُرّة قوية من البكاء والإجهاش لم تكن تنفع معها
تهدئتنا له حتّى بللت الدموع خدّيه دون أن يقوى على مسحها).
عندما
صمتَ قلت له:- يا صديقي وصفي: نحن أتينا نعودك ونعايدك.. قال بحسرة:- الماضي
يبكيني.. الندم.. (فقد أهملت مرضي في بدايته).. الذكريات.. الشعر..!!
وتابع
أحمد روايته قائلاً: - واقترب مني عمر أبو ريشة وقال: - وأنا أيضاً سلّم لي عليه
بالرغم مما كان بيننا من خلاف..
[يشير
أبو ريشة هنا إلى قصيدة لوصفي قرنفلي يُهاجمه فيها لسبب ما يعرفه كلاهما وعنوانها
"موعد"] وعاود وصفي ثانية البكاء متأثراً بتحية أبي ريشة إليه.
طوال
ساعتين كنا نحن نجاذبه أطراف الحديث، نحاول أن نسرّي عنه.. ننسيه المحنة التي
يعيشها بأعصابه المنتهية. لم يكن هو قادراً على الكلام إلا بصعوبة فائقة.. كان
الشلل قد قارب الوصول إلى حنجرته ولسانه وكان هذا أكثر ما يعذّبه ويضنيه ألا يستطيع
القراءة والكتابة ولا حتّى التمتمة. ومن طرفي كنتُ من أمهر أصدقائه الذين يتمكنون
من ترجمة غمغماته اللسانية غير المفهومة وتحويلها إلى معانٍ مفهومة لمعاودة زياراتي
له بشكل متلاحق فبين بيته وبيتي الكائن في حي صليبة العصيّاني مسيرة خمس دقائق. لقد
حفظت تذكاراته وحكاياته التي يردّدها في كلّ زيارة بعد أن أصبح عالمه جدّ محدود: "غارسيا"
- يقول- اسم أصله عربي.. أفتح البخلاء للجاحظ في الصفحة كذا نجد اسم غارسيا
مُحرّفاً في الهامش الثاني وأقرأ(غارس).. إنها اسم فاعل... صحيح أنني لم أدرس النحو
والبلاغة وعلوم العروض لكنني أتحدّى الخطأ نفسه فيها.. الخمرة والمرأة.. لا..
الخمرة والجنس هما دائي وكذلك الكبرياء.. لولا الثلاث ما وصلت إلى هذه الحالة
البائسة التي تراني عليها.. هل ترى صديقي الشاعر(فلاناً) ويتحشرج صوته بالبكاء.. ما
زارني منذ سنتين. هل نسيني.. كان يوم عزّي صديقي(ويتنهّد)-(يقصد نصوح فاخوري)-.
لندن إذاعة مخطّطة جداً: الأغنية فيها والحديث والتعليق السياسي والموسيقى ونشرات
الأخبار المعدّة بحذق بالغ وحتّى سلعة المذيع أو المذيعة وحتّى أخطاء الإلقاء
العفوية أو المتقصّدة لغرض خبيث، وجميع البرامج بدءاً من برنامج ما يطلبه المستمعون
وحتّى المقابلات وزاوية طبيب الأسرة.. كلّها تسير نحو تحقيق هدف مرسوم.. الإنكليز
يحفرون قبر الشعوب بالإبرة و(يضحك)..
خرجنا
أنا والصديق أحمد من الزيارة منهكين مرضاً. بكينا معاً عليه أكثر مما بكى. أنا في
الثالثة والثلاثين- كنت وقت استحضار هذه الذكريات- شعرت بعد مغادرتي لبيت وصفي أنني
في الثمانين من العمر وأنّ الحياة سخرية لا تُطاق إذا كانت ستنتهي هذه النهاية
الفجائعية. وأننا نحن البشر ضحاياها وذلك على الرغم من أنني أزور وصفي في مرضه منذ
لازم الفراش بين الشهر والآخر أو الأسبوع وشقيقه لكنني لم أره على مثل هذا النمط من
الانتهاء المؤسي والإحساس الأكيد بالموت والتعلّق الأسطوري بالحياة والبكاء الطفولي
العجيب.
مشينا
في الطريق ذاهلين حزينين.. أخمد(أحمدُ ) أحزانه في صمت قارس، وأنا أخمدت أحزاني بأن
عدْتُ إلى شريط ذكرياتي مع وصفي قرنفلي على مدى عشرة أعوام كأنها رفة الحلم وتهويمة
الخاطر وإطراقة الجفون. ثمّ.. ثمّ افترقنا أنا وأحمد دون كلمة وداع.. وقد خلّفت لي
هذه الزيارة فصيدتي(البكاء على قارعة الطريق) المكتوبة بعد فترة وجيزة من حصول هذا
اللقاء والمنشورة في ديواني الأوّل(مسافة للممكن مسافة للمستحيل) الصادر عام1977.
وأذكر
أن أصدقاء وصفي لم ينسوه في محنة مرضه، فعلى أيدي مبادرتهم وسعيهم وإخلاصهم لميثاق
الصداقة احتفل(والاستناد هنا إلى ذاكرتي الموثّقة بالوثائق) في يوم الثلاثاء الواقع
في الخامس من آب 1969 بتقليد الشاعر وصفي قرنفلي وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى
وقد قام وزر الثقافة سنتئذٍ سهيل الغزي بتقليد هذا الوسام للشاعر الممدّد في سرير
المرض وتسليمه البراءة الخاصّة به في حفل إنساني كبير أقيم في دار الشاعر. أما وصفي
الذي كان الداء قد أعاقه عن الحركة والكلام بعد أن استشرى في أنحاء جسده وتغلغل إلى
صميم روحه ومشاعره فإنّ البسمة لم تفارق وجهه طوال مدّة الاحتفال – الذي صوره
التلون وبثّه في نشرة الأخبار الرئيسية المسائية- وفي أثناء إلقاء الكلمات على ما
أذكر. لقد كانت هذه البسمة أبلغ من أي حديث فقد ضمّنها كل ما يريد أن يعبّر عنه من
آيات الشكر والعرفان ومن معاني السعادة والرضى الداخلي العميق وخاصّة عندما قال
الوزير في خطبة التقليد: " لم يكن وصفي يمسح الأرض بل كان يمسح العرق عن جباه
الفلاحين".أما الحضور فكانوا سعداء كذلك إذ لأول مرة في هذا القطر يكرم الأديب في
حياته.
أما
وصفي فما شاهدته مرة سعيداً راضياً مغتبطاً مثل هذه المرّة حتّى في أيّام صحّته يوم
لم يكن للمرض مُستراح في جسده وإقامة في أعضائه. إنّ هذا الرجل الذي كان يرفض
باستمرار إلا أن يكون صادقاً مع ذاته، قد برهن في احتفال تقليده لوسام الاستحقاق
أنه قد بلغ في صدقه مع نفسه أعلى المراحل لأنه يرى بعينيه أن أدبه لم يضع هباء
وشعره لم يكن قطرة في بحر وقصائده لم تلعب بها الرياح بل كان وما يزال هناك من
يقدّر الشعر والإنسان المدافع عن قضيّة شريفة، وهذا ما جعل البسمة العريضة تضحك في
وجهه والفرحة تزهر في عينيه ورفيف دمعة يلمع على أهدابه، وشريطاً طويلاً من ذكريات
بيض وسود يترى أمام مخيّلته.
إن
ذكرياتي مع هذا الشاعر معين ثرّ ولا يمكن لمن يتذكر مثلي أن يغض الطرف عن ذكرى
ويفتحه على أخرى فكلّها ذكريات غوالٍ وذات دلالات، ومنها أنني ما زرته مرة في بيته،
في أثناء عافيته وفي بداية مرضه واستفحاله إلا شاهدت بين يديه القرآن الكريم يقرأ
فيه ويتمعّن آياته أو رأيته موضوعاً على منضدة بجانب سريره وقد وضع داخله علامة من
ورقة أو ريشة طائر، طاووس على الأغلب، للإشارة إلى المكان الذي وصل إليه في
القراءة، ولما سألته ذات مساء عن سبب ذلك وهو المسيحي قال:" نبع اللغة العربية
الشعر الجاهلي والقرآن ثم الصحيح من حديث النبي العربي محمد ثم نهج البلاغة لعليّ،
ثم شعر المتنبي".
وأذكر
أنه كان يألم كل الألم ويتأثر صميم التأثر عندما يتذكر ما كتبه عنه صديقه وتلميذه
عبد الباسط الصوفي في رسائله وأوراقه الشخصية المنشورة في(آثاره) بما فيه من مطاعن
عليه ومغالطات بحقه تتعلق بالفارق بين مزاجه الشخصي وانتمائه العقائدي ونتاجه
الشعري ولا يخفي ذلك أمامي وفي لحظات مرارة كان يقول لي: عبد الباسط نال أدبياً في
حياته وبعد مماته أكثر مما يستحق، كما أذكر أنه كان ينزعج إذا كُتِبَ على قصيدة له
أو في الصحافة عنه(القرنفلي) بأل التعريف، وكان يقول لي: أنا أكبر من(أل) التعريف،
إنني أسَعُها ولا تسعني. ومرة سألته بعد عودته من موسكو للاستشفاء عام1965 متى بدأت
نظم الشعر ونشره فقال لي: كان ذلا عام1927. أي كان له من العمر آنذاك ست عشرة سنة.
ولم يكن وصفي ضد الشعر الحديث وقد نظم على نظامه لكنه فشل.. كان مع الشعر الجميل
الرائع على أي شكل كان وأذكر أن الصديقين أحمد دحبور وعلي كنعان ألقيا أمامه، بناء
على طلبه، وبوجودي شيئاً من قصائدهما الحديثة فاستجاد منهما ذلك وأعجب بشاعريتهما.
في
الساعة السادسة- أذكر ذلك لا أنساه- من صباح اليوم الثاني عشر من الشهر الثاني عشر
لعام1972 رنّ جرس الهاتف في منزلي- وكنت مديراً للمركز الثقافي العربي بحمص وأمين
سرّ فرع اتّحاد الكتّاب العرب- وكان صوت الصديق المرحوم عبد البر عيون السود يأتيني
بهدوء واقتضاب:-(ممدوح.. مات وصفي منذ نصف ساعة.. بَكِّر في النزول فأمامنا عمل
كبير) وبعد ساعة كنّا في بيت وصفي ومعنا عدد من الأدباء منهم مراد السباعي رحمه
الله.
الشمس
ساطعة تنير باحة الدار العربيّة الطراز بأكملها.. أشجار البرتقال والليمون
والأكاسيا والإكدنيا والنخيل والرمان محنية الغصون، مثقلة بثمارها.. الشبابيك
الخشبية الخضراء اللون مغسولة بمطر الليل.. ثلاث حمامات وديعات أخذن مكانهن الدافئ
الأمين في ثلاث نوافذ صغيرة عالية من غرفة الشاعر الميت ورحن يرسلن نحيبهن المعتاد
أو تسبيحهن الخاشع في حضرة الطبيعة مذكّرات من يسمعهن بالمعري في قوله من داليته
المشهورة(أبكت تلكم الحمامة أم غنّتْ على فرع غصنها الميّاد).
أما
نسوة المنزل: أخوات الشاعر وقريباته وأقرباؤه وجيرانه ومعارفه فكانوا جميعاً في
مأتم حزين حقّاً.
دخلنا
غرفة الاستقبال الواسعة الرطبة شبه المهجورة، وساد بيننا صمت مسكون بدمع يأبى أن
يتفجّر ويأخذ مسيلة على الخدود. في مثل هذه المواقف لا يجدي سوى السكوت... إنه أبلغ
من جميع لغات العالم وأفصحها طرّاً. إنّ الموت لا يُعامل غلا بالموت، وقد كنّا في
صمتنا الدامع موتى نتنفّس بإعياء ومجانية.
انتقلنا
أنا وعبد البر بناء على رغبتنا إلى غرفة الشاعر المسجّى على سرير من خشب الجوز
القديم ودخلناها بتؤدة وخشوع وقدسية ووحشة مُخافة أن نوقظ النائم نومته الأبدية
وداخلني شيء مثل الصدمة أو المفاجأة أو الفزع؛ كانت تلك أول مرة في حياتي أرى
ميتاً. كان وجه وصفي شديد الموت، شديد العدميّة.. كان منطفئاً كليّاً، لم تترك فيه
الحياة أية ومضة من ومضاتها أو علامة من علاماتها، هو الذي لم يُقبض إلا منذ ساعتين
غبرتا، وكان لونه يميل إلى أن يكون رمادياً أصفر، أو أصفر رمادياً، لكن ما يشبه طيف
ابتسامة وديعة حزينة مستسلمة قد تركت آثارها على شفتيه الرقيقتين المنفرجتين
المتحفزتين للبدء بحديث يبدو أنه انقطع بغتة، أو وصية ما استطاع النطق بها فماتت
معه أو بيت شعر طاف في خياله وهو يحشرج، فهل كانت هذه الابتسامة المطمئنة الراضية
الخافتة هي آخر ما خلّفته الحياة للشاعر الراحل الذي وهب الحياة أحلى أنغامه وأرقّ
عطاياه وأروع حب لوطنه وأمته، وهل تراه مات موتاً هادئاً بطيئاً بعيداً عن عذاب
الغرغرة وآلام النزع؟!
تملّيتُ
بالجسد الممدد أمامي طويلاً.. وحدّقت فيه بعيني كثيراً. أحاول أن أتبيّن مُبتداه من
منتهاه، فقد كان تحت الشرشف السماوي اللون شبه ضائع، شبه مفقود لضآلته، لقد أذاب
المرض الرهيب القاسي(الباركنسون) وصفي فلم يُبقٍ منه إلا هيكلاً عظمياً أو شبحاً
ناحلاً تردّدت فيه الأنفاس الشاعرة الخائرة صباح مساء لمدة ست سنوات هي رحلة الشاعر
مع الألم القارض وملازمته لفراش الأوجاع المبرّحة والسكون البارد والجراح النفسية
المتصببة دماُ غير منظور، سيّالاً من مصل الروح وسلافة الحنين المستجدي إلى نعمة
الحياة المعافاة، والندم العاثر على إهمال الصحة ومداواتها ثم الانكفاء النفسي
الصامت والاستسلام القدري الطائع إلى مصير لا مهرب منه ولا نجاة ولا تنفع في درئه
المعجزات.
واستفقتُ على نفسي والدمع يملأ عيني، يغرورق بهما ويغمرهما.. وطال وقوفنا خاشعين
كئيبين في حضرة الموت، وطالت النجوى ولم يزهر الصمت، ثم عانق كفي كفّ صديقي عبد
البر وخرجنا من غرفة الشاعر المغادر وصفي قرنفلي دون أن نسمعه يودعنا كما اعتاد
قائلاً:
- مع
السلامة... لا تطوّلا.. الغيبة.. أنا وحيد..
|
|
وصفي قرنفلي...
الرفيف والبركان
د. نجاح العطار
"
لقد توهّج القرص. طلع من أفق الشروق وتصاعد،
ثم جنح إلى الغروب".
" أيها القرص المنحدر عن قوس
السماء الأزرق،
ماذا يغريك في أفق الغروب؟"
الصمت
أحياناً عقوق!
ولماذا
الأحباء والأصدقاء والقراء صمتوا جميعاً؟
كل
الذين غناهم وصفي أو غنى من أجلهم صمتوا..
كأن لم
يكن يوماً حادي المسيرة وسامر الندي.
لم يكتب
عنه أحد، ولم يحاضر محاضر ولم يقدم لديوانه صديق.
أما
النقاد فخارج دائرة العتب.. وأين هم في حياتنا صمتاً أو كلاماً؟ من تحدّث عن البدوي
أو وصفي أو أمثالهما من قمم الشعر أو النثر؟ من قيّم أعمالهم وحدد مواضعهم؟ من
تناول بالدرس تلك المرحلة التي فيها عاشوا، وكانت دون ريب مرحلة مخاض حقيقي، هي إلى
كل سلبياتها، نقطة حاسمة في تطور الفكر والفن في سورية..
كان حظ
وصفي كحظ أمثاله من الشعراء أو الكتّاب، ديواناً يقلب صفحاته بين حين وآخر قارئ
عابر، ثم يمضي..
* *
* * *
عرفت
وصفي، أول ما عرفته، من خلال ديوانه، حين أسهمت في الإشراف على طباعته. الشاعر مريض
ولا يستطيع أن يتولى هذا الأمر بنفسه. ولكنه يرسل ديوانه مع توصية، يرفض فيها أن
تمسح الرقابة بعض كلماته، أو تخفف من حدّتها، كيما تجد سبيلها إلى النشر. وتحاوره
فيقول: لا، ينشر الديوان أو لا ينشر، ولا مساومة! ويبقى الديوان معلقاً، سنة أو
يزيد، يتأرجح بين الرفض والقبول، وبعد جهود كبيرة، يرى النور، يرى النور.. بضع
كلمات منه تمسح، تجاوزنا بها إرادة الشاعر، وعفوه، في سبيل نشر الشعر.
وينشر
الشعر. به يكون صباح ويكون شروق.. ومع الشروق، بعده، يميل قرص نحو الغروب، أيها
القرص المنحدر عن قوس السماء الأزرق، ماذا يغريك في أفق الغروب؟
لا
جواب.. الشاعر لا يجيب، يستشرف اللانهاية ولا يجيب، يودعنا صامتاً وينوس عليلاً
كالسراج الذي أوشك زيته على النضوب يظل وحيداً في مأساته كما كان وحيداً في حياته،
كأنما قدر وحدته بداية ونهاية وكأنما لم يكن ذاك الذي يرود للركب المجهول، ويسبق
قافلة العطاش.
كذلك
تغيم الأشياء في شرقنا." الذين يمنحون الرؤية للناس" كما قال إيلوار، لا تشملهم
الرؤية، نسدل عليهم ستاراً من النسيان، وفي الظلمة تظل عطاءاتهم، أما حياتهم ومنها
شعرهم، فقلما تكون موضع اهتمام.
ولو أن
حياة وصفي قرنفلي كانت هي الموضوع، لكانت بذاتها موضوعاً. إنّما أتكلّم الآن، فقط،
عن شعره.. عن عطاء هذا الذي ظل حياته موظف مساحة صغير، يجوب الأرض أشعث مغبراً
وحيداً، لا أهل ولا صحاب ولا رفيق، يشتهي أن تشرق الشمس يوماً وهو في فراشه..
الغربة ملء نفسه، وأشواقه أبداً تتسامى، وسيّان أظلم الأفق أم أشرق، فهو لا يكف عن
الغناء بل عن الحداء، النور من نفسه ينبع، وظلمات الحاضر أتفه من أن تحجب عن عينيه
المستقبل.
اتهموه
بالكبرياء والصلف وفرط الحساسية، ولقد كان في الحق متكبراً صلفاً كما يبدو من شعره
وأخباره، مرهفاً إلى حد المرض، ولكنه إلى ذلك، كان محباً إلى حدّ التفاني، مرتبطاً
بالشعب وبقضاياه وأرضه ارتباطاً ذاتياً أصيلاً ونادراً.
لم
يتعلم المساومة، ولم يفهم منطق التنازلات، وقد تعود أن يجابه الأحداث باعتداد
البدوي الذي ينبع عنفوانه من ذاته بحكم طبيعة ظروفه.. يطلّ على الحياة من مستشرق،
أكبر مما حوله رغم تعاطفه مع ما حوله.
لمن
عايشوا وصفي أن يتحدثوا عن حياته وتفاصيل مواقفه، أما أنا فقد تبدى لي، من خلال
شعره، رؤيا من الحنان والنضال، ضمن إطار من الحب الكبير والتمرّد الكبير، عاشهما
بأعنف ما يعاشا، وجسّدهما في قصيدة بكثير من الحرارة والبساطة، وبإيمان لا يُقهَر
بالإنسان، بالغد، بالمستقبل.
" الليل
يُقْسِم لا يحول
وتُقسم
الإنسانية أن تشق الليل، وتخط الصبح
في سبيل
الحرية، نحو غدٍ أفضل
كم
خطونا؟
إننا
نسير، غداً نصل..
آمنت
بالإنسان، آمنت بالصبح"
تلك هي
على مدى الديوان الرؤية التي عاشها، ومنحنا إياها.
* *
* * *
|
رابطة اصدقاء المغتربين تأسست عام 1973 وكانت رأيستها الاديبة الراحلة نهاد شبوع وتم اصدار 12 عدد فقط في بيت المغترب في حمص .
الثلاثاء، 1 ديسمبر 2015
مجلة السنونو ( العدد العاشر ) - بين قوسين - قسم 1
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق