الثلاثاء، 1 ديسمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد العاشر ) - وجها لوجه المحامي الاستاذ انطون طرابلسي

مجلة السنونو ( العدد العاشر ) - وجها لوجه
المحامي الاستاذ انطون طرابلسي  ( بقلم: معتصم دالاتي )   

المحامي الأستاذ أنطون طرابلسي
بقلم: معتصم دالاتي
  
       عندما يذكر في حمص اسم الأستاذ أنطون طرابلسي، فلا بد أن يقفز إلى الذهن صورة المهابة والإجلال اللذين يجب أن يكونا من السمات المميزة للقانون في كل زمان ومكان. حتى لَيخالُ لمن يعرف الأستاذ الطرابلسي بأن القانون الذي هو مهنة هذا الرجل قد أضفى عليه صفائه من خلال ملامح وجهه وسلوكه وحضوره وتصرفاته مع الآخرين.
       استقبلني الأستاذ أنطون طرابلسي في بيته الذي يطلقون عليه اسم القصر، والذي يعود بناؤه لمئة سنة خلت حيث بناه جده عام 1910 في واحد من أقدم أحياء المدينة(حمص)، وهو بستان الديوان، وهو يقع داخل السور الذي كان يحيط بالمدينة، شأنها شأن باقي المدن التي تُغلَق أسوارها مساء لتفتحها في الصباح، وذلك قبل أن تُلغى تلك الأسوار والأحياء القديمة مع الجديدة التي تعدّت إلى ما كان يُعرف بداخل سور المدينة.
       بعد أن مددت يدي لمصافحة الرجل الذي يضع قدمه على أبواب التسعين من العمر، بادرني بعبارة باللغة الفرنسية، ثم قال إنها مثل فرنسي معروف يعني بالعربية إن التقيّد بالمواعيد هو من آداب الملوك.
       ابتسمت بغبطة داخلية، ذلك أن تلك المجاملة التي تحمل صفة الإطراء لتقيّدي بالموعد المحدّد معه، قد جعلتني أتخلّص من كمية كبيرة من الرهبة التي كنت أحملها في داخلي وأنا للمرة الأولى في مقابلة، وبموعد مسبق مع الرجل الذي يحمل البطاقة الخاصة بأعضاء نقابة المحامين والتي تتميز عن غيرها في أنها تحمل الرقم(1) ذلك أن الأستاذ الطرابلسي كما في بطاقة نقابة المحامين، كذلك في سجلاتها يحمل الرقم الأول بين زملائه من المحامين. وتساءلت مع نفسي فيما إذا كان بعبارته تلك يقصد بأن القانون هو الملك الذي يحكم بدقة في الناس!
        بادرته بعد أن اجلسني إلى كرسي بجواره:
- أستاذ أنطون.. أنت متقاعد من المهنة، فهل تسمح أن نفتح بعضاً من أبواب الذكريات؟
قاطعني قائلاً:
- لا أنا لست متقاعداً، وما زال مكتبي على حاله تقوم عليه ابنتي المحامية نظلة طرابلسي، وأنا أتابع معها معظم القضايا القانونية التي تأتي إلى المكتب.
قلت:
- ولكن يا سيدي أما آن لك أن ترتاح؟
أجاب:
- التقاعد يعني الموت.. وأنا أحب الحياة، ولا أريد أن أكون ميتاً وأنا على قيد الحياة. ثم استطرد بأن التقاعد سيمنحه راتباً شهرياً جيداً، إضافة إلى مبلغ نهاية الخدمة، وهو كبير أيضاً بسبب خدمته الطويلة في المهنة. غير أن الحياة هي أهم من المال. ولعل شعوراً يستوطن دخيلة هذا الرجل بأن حياته ومهنته كرجل قانون هما توأمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر.
- هل للأستاذ أنطون طرابلسي أن يفتح أبواب الحياة الأولى ويفك بعض الأقفال عن مغاليق الذكريات؟
- في التاسع عشر من شهر أيار عام1919 كان يوم ولادته. درس الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدارس حمص. ثم حصل على شهادة البكالوريا الفرنسية من المدرسة اليسوعية في بيروت عام1936 ثم انتسب إلى معهد الحقوق بدمشق حيث كانت الدراسة فيه ثلاث سنوات. وقد تخرّج منه عام1940 ويذكر الأستاذ طرابلسي أن الطلاب المتخرجين آنذاك كان عددهم /46/ طالباً منهم أربعة طلاب من حمص هم: رياض أتاسي، ظافر موصلي، ذهني الحسامي وأنطون طرابلسي. أما الأساتذة في المعهد عام تخرجه منهم: أبو اليسر عابدين، سعيد محاسن، أحمد السمان، إحسان الشريف، جاك إستيف، سامي الميداني، عثمان سلطان، محمود النحاس، فايز الخوري وفارس الخوري.
ومن ذكرياته أيضاً عن المعهد أن الأستاذ فارس الخوري كان يلقي عليهم محاضرته حين دخل القاعة المفوض السامي الفرنسي فلم يعره الأستاذ الخوري أي انتباه، بل تابع المحاضرة بشكل طبيعي وعندما انتهى منها تقدم من الزائر وقال له بالفرنسية: أرحب بك إكسلانس. وهذا يعني حسب رأي الأستاذ الطرابلسي أن الدرس الذي يلقيه الأستاذ على طلابه هو أعلى شأناً من أي زائر مهما علا شأنه.
بعد تخرج الأستاذ الطرابلسي من معهد الحقوق بدمشق تقدم بطلب للحصول على شهادة الليسانس الفرنسية، حيث كانت تأتي لجنة من جامعة ليون الفرنسية إلى بيروت ثم إلى دمشق لفحص من تقدم من الطلاب لنيل هذه الشهادة.. وكانت النتيجة أنه حصل على ترتيب الأول مع التقدير في شهادة المعادلة الفرنسية، حيث يستطيع المرافقة في المحاكم بفرنسا. وهذا ما كان يأمله، غير أن الحرب الكونية الثانية هي التي منعته من السفر إلى فرنسا وتحقيق ما كان يصبو إليه.
تدرب في مكتب الأستاذ المحامي مكرم الأتاسي وحصل بعد سنتين على لقب أستاذ عام1942 واستقلَّ عن مكتب أستاذه في مكتب خاص به. والمفارقة في الموضوع أن أول المتدربين في مكتب الأستاذ الطرابلسي هو ابن إستاذه في المحاماة وهو المحامي عبد الكريم بن مكرم الأتاسي، والذي عمل فيما بعد في السلك الدبلوماسي حيث شغل منصب سفير في وزارة الخارجية السورية.
كان في سورية ثلاث نقابات للمحامين، الأولى في دمشق ويرتبط بها حمص، حماة، دير الزور، الجزيرة وغيرها. والثانية نقابة محامي حلب ويرتبط بها إدلب وغيرها. والثالثة نقابة محامي اللاذقية ويرتبط بها جبلة، طرطوس، صافيتا وغيرها. ومنذ عام1946 كان الأستاذ أنطون طرابلسي ممثلاً لنقابة محامي دمشق في حمص، وحيث أنه لم يكن لنقابة حمص مقراً خاصاً بها فقد كان أعضاء النقابة يجتمعون في مكتب الأستاذ الطرابلسي. وقد لاحظ مرة أن أحد الأعضاء المتواجدين في مكتبه قام لدى سماعه أذان المغرب وبحث عن جريدة وضعها على أرض المكتب وبدأ بالصلاة، فما كان من الأستاذ طرابلسي صاحب المكتب في الاجتماع الثاني إلا أن أحضر من بيته سجادة صغيرة قدّمها للرجل نفسه وسأله مازحاً: هذه  سجادة رجل مسيحي، فهل يصلح استخدامها للصلاة؟ فضحك الرجل وأبدى امتنانه ثم عقّب بأن الأديان جميعها لله.، وكلنا وبمختلف انتماءاتنا إنما نصلي لله.
من كتاب (وطن وعسكر) للمؤلف (مطيع السمان)، يتحدث الكاتب عن بداية حركة الانفصال في سورية في/28/ أيلول عام 1961 حيث كلفته القيادة في دمشق بالاجتماع مع الشخصيات السياسية والاجتماعية ونقباء الأطباء والمحامين والمهندسين لحثّهم وإقناعهم بإرسال برقيات التأييد إلى دمشق، باعتباره أي مؤلف الكتاب كان يشغل منصب قائد المنطقة الوسطى آنذاك، وإني هنا أنقل حرفياً ما ورد في إحدى صفحات الكتاب عن لسان المؤلف:
" ولا أنسى يومها موقف نقيب محامي حمص الأستاذ طرابلسي وهو من الطائفة المسيحية الكريمة، وأتذكر اسمه أنطون عندما انهمرت دموعه رافضاً طلبي بقوله بأنه يحترم نفسه ولا يستطيع أن يظهر بهذا المظهر الجديد أمام الناس وأن يتلوّن بلون آخر بين عشية وضحاها بقضية وطنية من هذا الحجم وقال لي:(لن أفعل ما تطلب وأنا غير قانع). ولم يفعل وانصرف من عندي وأنا أشيّعه بكل احترام وتقدير"
في عام 1972 تم إحداث نقابة مركزية للمحامين في دمشق وتشكيل فروع لها في كل المحافظات السورية. وقد فاز الأستاذ الطرابلسي في الانتخابات لثلاث دورات متتالية كرئيس لفرع نقابة محامي حمص من عام1972حتى عام1980.
روى لي الأستاذ أنطون طرابلسي أن الرئيس حافظ الأسد في استقباله لفرع نقابة محامي حمص والتي يرأسها الطرابلسي، وبعد أن تحدث الرئيس الأسد إليهم فيما يتعلق بأمور النقابة واستمع إليهم سألهم في نهاية الجلسة إن كان لديهم بعض المطالب أو الهموم التي تتعلق بمدينتهم حمص. فتحدث الأستاذ الطرابلسي عن سكة القطار الحديدي التي تخترق المدينة وما تسببه من حوادث مؤلمة مقترحاً نقلها من مكانها. فسأله الرئيس الأسد: إلى أين تقترح نقلها؟ ولما لم يكن عند رئيس فرع نقابة المحامين أي تصور عن المكان المناسب لتنقل إليه، ومداراة للإرباك الذي وقع فيه أجاب: سيدي ننقلها إلى حماة. وهنا ضحك الرئيس حافظ الأسد من كل قلبه، لٍما يعرف عن التركيبات والدعايات التي تحصل بين أهل المدينتين الجارتين. وضحك مع الرئيس جميع الموجودين. وفي اليوم التالي انهالت على الأستاذ الطرابلسي التساؤلات شخصياً وهاتفياً من قبل أصدقائه الذين شاهدوا الاجتماع الذي تقله التلفزيون، وكل كان يسأل عما قاله للرئيس حتى جعله يضحك على هذا النحو؟
في نهاية الجلسة قلت مداعباً الرجل الذي عمل في المحاماة لأكثر من ستين عاماً، فيما إذا كان خلال عمله يساعد بعض الفقراء من موكليه بالتنازل عن أتعابه كلياً أو جزئياً، فأجاب الرجل بحماس شديد بأن لديه ما لا يحصى من الحالات في هذا الموضوع. وإمعاناً مني في المداعبة والمزاح سألته إن كانت تلك المساعدات منه تخص المسلمين والمسيحيين من موكليه على حد سواء؟ سرح الأستاذ بخياله طويلاً، وأعتقد أنه لم يأخذ سؤالي هذا على محمل المداعبة أو المزاح، إذ نظر إليّ وما زال ساهماً وقال: سأروي لك حادثة عن فارس الخوري: أستاذي في معهد الحقوق، والذي شغل منصب مندوب سورية لدى الأمم المتحدة إبان الانتداب الفرنسي لسورية، وقد تصادف أنه كان في باريس حيث ضمه حوار مع أحد كبار المسؤولين الفرنسيين الذي قال له إن فرنسا في سورية من أجل حماية الأقليّات، فأجابه فارس الخوري بأن ليس لدينا في سورية أقليّات. ومع دهشة المسؤول الفرنسي من جواب محدّثه تابع فارس الخوري كلامه: إنني قد ولدت مسيحياً ومن طائفة صغيرة هي البروتستانت ومع ذلك فأنا في بلدي سورية رئيس وزراء ورئيساً لمجلس النوّاب(البرلمان).. وإذا كنتم تضربون معي على وتر الانتماء الديني فأنا ومن هنا في باريس مستعد الآن لأن أشهر إسلامي عبر وسائل الإعلام. ثم علّق الأستاذ أنطون طرابلسي بأن انتماءه هو أيضاً لوطنه ولأبناء وطنه، وهو مع الفقراء والمظلومين كائناً ما كان الانتماء سوى الوطن. وهكذا فوّت عليّ الأستاذ أنطون ما اعتقدت أنه سؤال يحمل سمة الدعابة أو المزحة، وإذا به نقيض ذلك.
في نهاية الجلسة المشوّقة مع الأستاذ المحامي أنطون طرابلسي كنت أتساءل مع نفسي عن هذا الرجل الذي يضع قدمه على أبواب عامه التسعين والذي يرفض التقاعد لأن التقاعد كما يرى هو موت والعمل حياة. ترى هل هو يرى ذلك لأن مهنته هي القانون؟ وهل أن القانون هو الحياة وأن غياب القانون يعني غياب الحياة؟ بمعنى آخر هو أن صحة حياة الفرد والمجتمع تكمن في صحة وحياة القانون؟
طال عمرك يا أستاذ أنطون.
 
 
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق