مجلة السنونو (
العدد الخامس ) -
قراءة في كتاب
|
الرقص
مع البوم لغادة السمان ( دراسة: د . رغيد نحاس وترجمته )
|
حمل
عنوان كتاب غادة السمّان الأخير "الرقص مع البوم" مفاجأة جميلة لي، وقبل الإشارة
للأسباب أود أن أعرض أولى مقطوعات الكتاب التي تلخص فكرة الكتاب، وتمثل في نظري،
أفضل قراءة له.
تقول السمّان في
مقطوعة "هل تحب البوم؟":
هل شاهدتَ مرة بومة في سيرك؟
إنها مخلوق يستعصي على
التدجين ويرفض التسوّل العاطفي ومنطق اللعبة الاستعراضية...
هل شاهدت بومة تحاول
إضحاك أحد، أو جرّه إلى مداعبتها ككلب زينة يهزّ ذيله؟
هل شاهدتَ مرة بومة
مستقرةً في قفص تغرد لذلّها؟
هل عرض عليك أحد شراء
بومة في سوبر ماركت المخلوقات الداجنة؟
البومة لا تباع
لكنها تحلّق إلى ما
تحب ومن تحب.
أفلا تحبها؟
أحبها، وألف أحبها،
أقولها دون تحفظ، خصوصاً أن المبادئ والأفكار الواردة في تلك المقطوعة إنما تمثل هي
أيضاً حياة غادة السمّان الحافلة بالطيران نحو الحرية والقيمة الفكرية العالية
والنوعية الأدبية المتميزة ـ وعليه فمن الصعب التفريق بين البوم ومن تراقصه. ولقد
عكس الفنان حسن إدلبي هذه الوحدانية في تنفيذه الرائع لغلاف الكتاب الذي نرى فيه
البوم منعكساً في حدقتي السمّان التي رفعت يديها احتفاءً بهذا البوم الذي حطّ
سعيداً بين سبابتيهما.
من جملة حركاتي في السباحة أن أستلقي على ظهري لأراقب جمال أشجار النخيل والسرخس المحيطة ببركة السباحة. تتميز سيدني عن غيرها من حواضر العالم أنها تجمع بين الحياة المدنية المتطورة وجمال الطبيعة الآسر. نعم، تزورنا الببغاوات المختلفة يومياً لتلقط ثمار الأشجار البلدية المتواجدة في حديقتنا، وتأكل ما نقدمه لها من بذور من بين أيدينا مباشرة في بعض الأحيان. ويمر على أغصان أشجارنا "الأبوسوم" ( من الثدييات) في رحلته المسائية، ونصادف بين نباتاتنا السحالي والعظاءات والعناكب المميتة، وغيرها من الكائنات. ورافقني أثناء سباحتي الطائر الضحّاك أكثر من مرة، لكن ما من شيء هيأني لمواجهة كهذه.
على غصن من
غصون النخيل صعقني منظر طائر لم أره من قبل. وجهت سباحتي عندها لأحافظ على وضع
يمكنني من دوام مراقبته خصوصاً أنه كان يراقبني بعينين واسعتين، ويحافظ على هدوء
ووقار أصابني بالهلع. بدأ وكأنه حجر ثابت فيما كانت عيناه تتسعان لأكثر من مداهما
وهو يرمقني بهما بنظرات ثاقبة.
ومضى بعض
وقت قبل أن أتمكن من إجراء عملية التصنيف الذهنية لأي نوع من الطيور ينتمي، بالرغم
من العينين اللتين أكّدتا حملهما كل صفات البوم، لكن هذا النوع البلدي الأسترالي
يتميز عن غيره من بني البوم في بقية أنحاء العالم. وفي استغراقي هذا تردد إلى صوت
شريكة العمر وهي تبدي دهشتها لمكوثي في المسبح أكثر من المعهود، وجاء سؤالها العفوي
وهي تطل من باب الحديقة على بعض مسافة مني: "ماذا تفعل؟ " أجبتها بجذل صبياني: "إني
أسبح مع البوم... أسبح مع البوم..." ولما وقعت عليها الكلمات كالطلاسم، تقدمت
وعلىوجهها أسارير من يحاول الاستفسار عن حقيقة الأمور. أشرت بيدي نحو البوم، وأنا
أنظر إلى وجهها وقد تغيرت أساريره بلحظة إلى ما ينبي عن الهلع.
منذ ذلك
الوقت وانا أرحب كل صباح بهذا الضيف الجديد الذي أختار مبيته في حديقتنا، بل لعلها
حديقته هو ونحن ضيوفها ظلماً وعدواناً. يغيب أياماً ويقيم أياماً، لكن صداقة من نوع
ما صارت تربطنا. وبدأ لي أنه يبادلني هذا الإعجاب لدرجة أنه أصبح يصطحب معه هذا
العام بوماً آخر من جنسه، يمضيان النهار كلّ على غصن، وأحياناً يلتصقان معاً فوق
غصن واحد. وما أن يحل المغيب حتى يبدأ سعي البوم وراء رزقه، فالليل معاشه والنهار
سباته. والحق أقول إنه إذا لم تتحقق لي رؤيته في الصباح، أغادر إلى عملي وفي القلب
امتعاض.
ولعل من أهم
أوجه المعاناة هذه من أسميهم "المهاجرين السرمديين" بسبب تواجدهم في مدارات "اللاانتماء"
لأنهم بالرغم من انسلاخهم الفيزيائي عن أمكنتهم، يحتفظون بإرث ثقافي يشكل جزءاً من
كينونتهم التي شاءت أن تنطلق خارج حدود المألوف. وسنلاحظ بعض أوجه هذا الإرث
لاحقاً، لكنني أورد هنا ما قالته في "بومة معذبة بالغربة وبالوطن" كإشارة لبعض
العوامل التي دفعت البومة إلى الرحيل، وربما إلى دوام طيرانها:
في الغربة، لست يا
صديقي أكثر من مقعد في حديقة عامة.
سيجلسون فوقك
ويستريحون وينتشون
ويشكرونك ثم
يمضون.
في الوطن أيضاً لست يا
صديقي أكثر من مقعد في حديقة خاصة بالسلطان
يجلس فوقك وحده
ويستريح وينتشي
لكنه لا
يشكرك ولا يمضي أبداً !
ودفعها إلى
أن تغير من مفاهيمها حول ما سبق وأن تلقنته من أصول اللعبة في موطن الأصل. تقول في
"بومة غير ملتزمة":
قضيت عمري وأنا أحمل
القلم بيد والكفن بالأخرى.
وأنا أحمل "الكلاشينكوف"
بيد والوردة باليد الأخرى.
وأنا أحمل جواز سفري
وذاكرتي بيد
وبطاقة الطائرة
وأمنياتي بيدي الأخرى.
الآن، أريد أن أرمي
بذلك كله إلى البحر
وأعانقك
باليدين معاً.
ويلاحظ القارئ تهكمها
وتمردها وهي تتحدث عن نقيض عدم التزامها في "بومة الانتماء":
أنتمي إلى قبيلة
الضوضاء والغبار والضباب والثرثرة.
لا شيء صلباً حولي،
سوى لحى الأجداد،
ولذا نتمسك
بها،
ونتدلى منها
مثل الخفافيش المعدنية
في الليل
الفضائي للألفية الثالثة!
وتقول في "بومة هاربة
إلى باريس":
الحزبيون يريدون أن
أوقع العرائض معهم دفاعاً عن حرياتهم، وهم يدوسون حريتي بجزماتهم، كامرأة وكمواطنة!
الشعراء يريدون أن
أنجب أطفالهم وأتغزل بقصائدهم وأقتات بالأوهام والأبجديات المنقرضة.
ولذا تطير البومة
عن ذلك الجحيم متعدد الطبقات واللهجات،
إلى النسيان في
باريس، والحب والحرية في باريس
وشعارها: اطلبوا
الحرية ولو في المنفى!
وهنالك
الحكمة التي تلقننا إياها البومة. فعلى سبيل المثال نجد في مقطوعة "بومة تكتب حكاية
عمر" تلخيصاً لاذعاً "للأنا" – للشأن الإنساني المنحاز إلى كينونته الشخصية و / أو
الطبقية و / أو الجنسية المكتسبة و/ أو المورثة له عن طريق العادات والمجتمع،
متنكراً أو متغاضياً عن أصله:
تسكعتُ في الغابة،
شاهدت ضفدعاً...
قبّلت
الضفدع فصار أميراً...
وحين فتح
عينيه قال لي باحتقار:
من أنت
أيتها الضفدعة؟
ونجد مثل
هذه المفارقات اللاذعة في أكثر من مقطوعة. ففي "بومة تحتفي بالراعي نصف الكذّاب"
تقول:
قرأت قصيدتك التي تزعم
فيها كاذباً أنك تحبني... وفرحتُ حتى الثمالة،
ألم أقل لك: صدق
العشاق ولو كذبوا؟!
وأجد قمة هذه
المفارقات في مقطوعة"المرأة والفحولة والبومة":
قالت لي البومة: يا
للمفارقة الخارقة!
هل لاحظت سيدتي كم
تشبه المرأة الفحولة...
لا يحتفي
الرجل بها
إلاّ بعد أن
يخسرها؟
هنا تقتحم البومة عرين
الرجل لتصبح الأنثى كلّ فحولته التي لا يقدر أهميتها الحقيقية إلاّ بعد فقده لها.
والأهم من ذلك أن الفحولة التي يفترض أنها نقيض سلبية المرأة كما يحب الرجل أن يوهم
نفسه، ليست في الواقع سوى استجابة للأنوثة إذا صح التعبير. أي أن بين سطور المقطوعة
أكثر من مجرد التهكم على أسلوب الرجل في استيعاب فحولته، هنالك التأكيد على وجود
المرأة الإيجابي كجزء من هذه الفحولة والتي تفقد معناها دون وجودها.
كما نجد في أكثر من موضع مدلولات اجتماعية وسياسية، مباشرة وغير مباشرة،
عن حالة المجتمع الذي خرجت منه
تلك البومة، وتهكمها
المستمر على هذه الحالة. هذا ما تقوله في "بومة تروي حكاية القرد الكبير":
يثرثر، ويتوهم هراءه
أمثالاً وحكماً وشعراً وروايات.
القطيع يصفق، والقردة
تحمله على أكتافها،
هو يكذب وهي
تصدّقه،
هي تكذب وهو يصدّق
إعجابها به.
فهل التكاذب المتبادل
قصة حب تاريخية؟
وتعزز تهكمها هذا
بتركيزها على النفاق السائد فتقول في "بومة أمراء كذبة نيسان":
كل شاعر
شهريار من نمط خاص
يقضي عمره وهو يكذب
بصدق مفرط
لكنه يقص رأس الحبيبة
لحظة تُصدِّق أكاذيبه.
وتقول في "أسرار بومة
دهرية":
دهر من
"الدهاء الذكوري" أنت،
حضارة مكر
قائمة بذاتها
أما "الدهاء الأنثوي"
فشائعة من شائعاتك!
ولعل ثمن
الحرية التي تدفعه البومة واضح تماماً مع أنّات غربتها وانسلاخها عن موطنها الأول
في المكان والزمان، ولهذا نرى في "بومة في منطاد الألفية الثالثة" الغصة التي تفعم
حلقها حتى في أفضل أوقات لهوها:
وحلقنا فوق غيمة من
القهقهات أيها الحبيب الفرنسي.
وبدلاً من
أن أرى باريس من علٍ
شاهدت على الأرض خارطة
جراحي وتضاريس وطني...
سقطت في الفضاء من
منطاد الذاكرة ولم تنفتح مظلة النسيان لتنقذني.
إذا شاهدتَ رأسي ينزف
على طرف رصيف باريسي
أتركه ينتحب
أحزانه تحت المطر،
ولا تلتقطه وتحنطه
وتعلقه على جدار غرفتك!
ومن الجدير ملاحظة هذا
التنويه عن "الفخ" الذي وقعت فيه حين أخفقت المظلة بالقيام بعملها، ثم إبداء رغبتها
في ترك رأسها ينزف كل أحزانها حتى اللحظة الأخيرة بدل تعليقه على الجدار بهذه
الطريقة السلبية. إنها ذروة الغربة في مواجهتها لهذه المتناقضات النفسية التي تترك
الضمير في حيرة من أمره حين يُسقَط في يده. وبالرغم من ذلك هنالك عنفوان البوم الذي
لا يريد أن ينتهي محنطاً، بل أن يبعث من جديد كالفينيق للتواصل والاستمرار وتلبية
نداءات الحرية التي تشاء سخرية الأقدار أن تكون في الواقع مستمدة من عبق ياسمين
الجدة:
في حدائق بيوت طفولتي
الدمشقية... عطور
تهذي بجنون الحياة
والفضول في ليالي "السونا" الصيفية.
ما ذنبي إذا
كنت قد أطعت أصواتها،
ولبيت
نداءات الحرية؟
وتستهل
مطلع هذه المقطوعة "بومة بدوية شامية" بقولها:
أنا
البدوية التي نسيت الخطوط الحمراء للبدو الرحّل...
وأمعنت في الرحيل شمالاً.
نعم، لقد
أمعنت في الرحيل شمالاً، لكن الرحلة ليست محض جغرافية. إنها رحلة عبر الأزمان
وتحليق سابر للأكوان عبر المكونات النفسية والبيولوجية للإنسان وريث رحلة ملايين
السنين من التطور الكوني.
وهي رحلة تترافق مع احتفاء إيجابي بالحب، تنسلخ فيه البومة عن القطيع، فلا تتعاطى
مهنة الحياء الزائف، بل تعبر عن مشاعرها كإنسانة وتفرضها بما يليق للحياة من معان
سامية. ولذلك يتلازم الحب مع الحرية. تقول في "البومة والشاعر" :
قالت
الصبية العاشقة: كلما سمعت كلمة حرية
فتحت نوافذ
قلبي للعصافير وضوء القمر والريح.
وبذا يكون
احتفاؤها بالحب كونياً. تقول في "بومة تكشف سر عيد العشّاق":
نعم، أعرف
أن الأرض لا تدور حول الشمس فالأرض تدور حولك.
لكنني
أستطيع أن أقسم أنها وقفت ساكنة في فلكها،
ليلة قلت لي للمرة الأولى: أحبك !
وتقول في
"بومة تتذكر مستقبلهـا معك ! " :
فالبهاء الذي عشته معك "ذات يوم"،
يعادل
عمراً مستقبلياً ضوئيّاً في كوكب آخر
ليس غريباً
بعد هذا التحليق إلى ما وراء الزمان والمكان أن يؤدي عزف هذه البومة إلى سيمفونية
خاصة تتفرّد بحبها في موسمه الخاص بها. تقول في "تبويم منفرد على عود
الليل":
أداعب بومتي فتروي لي أسرار عشاق الصيف وتقول لي سر الفصول الأربعة فاكتشف أنها
خمسة، والفصل السري يدعى: فصل الحب.
هذا السموّ
المتميز لا يعني أنها فقدت صلتها مع الأرض التي أنبتت لها أجنحة طيرانها، فها هي
كغيرها تجرب حظها وتكون "بومة مقامرة":
لعبتُ اليانصيب مع القدر
وربحتُ الجائزة الأولى:
حبك.
ولا تجد
غضاضة في التعاطي مع "الحبيب النرجسي لبومة" فتضفي على مرحها بعض الدعابة وهي تتحدث
ببساطة عن شأن إنساني معين:
تقول لي: حدّثيني عن عظمتي
ما من موضوع آخر يهمني !
أقول لك:
أحبك أيها الخرافي الرائع.
تقول لي:
أتفق معك في الرأي، فأنا أيضاً أحِبُّني !!
وتقول في
"بومة بوسام !":
وإذا كان
قلبي بومة،
فستطير حتى
القمر إذا قلتَ لها إنك تحبها !
والدعوة
إلى الحياة تكريماً للحب واضحة في "وصية بومة ليلة عيد العشّاق":
وحتى الذين
نجوا في سفينة نوح أبحروا إلى الموت
فعش يا
حبيبي، إكراماً لموتي !
وحين تبثّ
هذه "البومة الدهرية" أشواقها تخبرنا عن مولدها السابق لغيرها من الكائنات
والأحداث، وتحدثنا بخبرة وتجربة المتمرس في معرفة الأزل لدرجة أنها تشهد على تبختر
هذا الكوكب في مداراته:
وأشهد قبل
ذلك كله، أنني لولا حبك
لتناثر
جسدي حفنة من الرماد في ليل كوني بلا قاع ولا نهاية ولا ضوء في أخر النفق،
لولا حبك
لفقدت صبري وبوصلتي ومظلتي وتَبْويمي.
وتتخطى هذه
البومة مستوى الثورة الاجتماعية أو القبلية في حبها لترقى إلى مستوى الثورة
الكونية، التي تسميها "فرحة" كما نجد في "حب البومة فرحة كونية" :
حين أعلن
أنني أحبك،
حين أنحرف
عن مدارات الحزن إذ ألتقيك في ليل النجوم وعيد العشّاق،
تنحرف
نواميس الكون قليلاً إكراماً لحادثة حب:
يهطل
الشلاّل من الأسفل إلى الأعلى...
وبعد أن
تستعرض بعض هذه التغيرات تقول:
إنه الحب
الحقيقي في زمن التكاذب بالتراضي
إنه السحر
الحلال... فقل لي إنك أيضاً تحبني
ولو
سَحَرْتَني من بومة إلى امرأة!
من الواضح
هنا استعارتها لبعض التعابير المألوفة لصياغة تعابيرها الجديدة بمهارة فائقة مثل
قولها ’التكاذب بالتراضي‘ و’السحر الحلال‘.
وهي في
حبها تريد الحفاظ على خصوصياتها والابتعاد عن بذاءة تدخل الآخرين. وهنا يأتي البوم
لائقاً ومناسباً جداً ففي "البوم يكره الأضواء" تقول:
أنا البومة
التي صادقت الظلمة
كي يفشل
الضوء في إلقاء القبض عليها
وسوقها
مخفورة إلى استعراضات التفاهة.
لا أتقن
التعرّي إلاّ في ظلمات شرايينك،
ولا أريد
شاهداً على توهّجي غير كتمانك.
لكن هناك
خيبات للأمل كما تصف في "بومة آدم وحواء عصر الفضاء":
ها قد عدنا
خابيتين من خلّ الخيبة. وكنا ذات صيف رعشتين من الصدق في دروب القمر البحرية
المسحورة بالنقاء والغرابة.
وهي بالرغم
من ذلك خيبات متألقة بوميض الفكر والأدب لدرجة أن دمع البومة يفيض بلون المداد ليخط
سطور أشجانها كما نقرأ في "بومة أخرى بحياة سريّة":
وفقط حين
أنام، أركب بساط الريح،
وتبدأ
حياتي الحقيقية
التي أنجو
بها من كوابيس اليقظة، ومن خيبتي بمن أحببت.
وهذه
السطور لا أخطها حقاً بالحبر، بل بدمعي الأزرق!
هذه
الخيبات لم تحبط عزيمة هذه البومة التي تصر على تمردها وربما ـ بنوع ما ـ الثأر
لأجيال من بنات جنسها تعرضن لاضطهاد الأفكار البالية، فتقول في "تبويم
عاطفي":
في دمي
تنتحب أجيال من النساء المؤودات
لكنني مصرة
على أن أحبك تحت الشمس وعلى مرأى من رماح القبيلة.
غازلني
الصفر وقال لي إنه أهم من الأرقام كلها.
قلت له: أنت لا أحد دون سواك.
قال لي:
أنا العاشق الأزلي... لا أصلح لشيء بدون حبيبتي ولذا فأنا الأهم والأعظم!
هذا لعمري
مزج رائع بين الحب والرياضيات، يرينا فيه البوم أنه قادر برقصه أن يطوّع الحديد.
وحين يكون "بومة متلصلصة":
وحده البوم يعرف
أن العبير هو أسلوب الوردة
في التعبير عن وحشتها!
وهنا أتوقف
لملاحظة هذا الاستخدام الفريد لعبير الورد الذي ما ألفناه إلاّ في التعبير
الإيجابي. ولكن ما كان بإمكان أحد كشف الوجه الآخر لحقائقنا المتوارثة سوى عبقرية
البوم. وأريد أن أصف هذا التعبير وهذه المقطوعة بـ "الأناقة" أو "السّناء"، لأنني
أعتقد أنه حتى "الوحشة" هنا هي وحشةٌ ذات أبعاد نخبوية فكرية.
وفي "تَبويم
صيفي" تقول:
لطالما أعلنتُ حكمتي،
وأكدتُ أنني لن أخلط بين
الرسالة وساعي البريد.
ولنلاحظ المفارقة حين يصبح الليل موئلاً حقيقياً لحياتها في "حوار صحافي مع بومة
الحرية":
في الليل
أعيش حياتي الحقيقية سراً...
فأطارد الدهشة والفرح والأسرار.
وفي نفس المقطوعة تقول:
كل طعنة من
الخلف في ظهري تؤكد لي أنني ما زلت أمشي في المقدمة!
- لماذا
ترتاحين للظلال؟
-لأنني
البومة التي أحترق بها المصباح،
بدلاً من
أن تحترق كفراشة هشة.
هذه
النزعات الفلسفية توظف في "حوار متشائم مع بومة متفائلة" في سبر بعض جوانب الوضع
الإنساني إذ تقول:
حين أموت
سيخترعون لي بعض المزايا، كما يفعلون دائماً مع أمواتهم
خوفاً من
موتهم الآتي وانكشاف عوراتهم!
وتصل هذه
الفلسفة أوجهاً في "بومة حاسدة":
أهديتني تمثالاً نحَتهُ لي، فحسدته.
لتمثالي جناحان أطول من جناحيّ،
وعينان
أكثر اتساعاً من عينيّ ولا تجاعيد في رخامه.
لا يصاب بالزكام،
ولا يبكي في الظلام سراً،
ولا يئنّ
وهو يتابع تحليقه الليلي بحثاً عن حب صادق.
ولا يغمض عينيه لحظة التقبيل!
وفي "بومة
أخرى بحياة سريّة":
وفقط حين أنام، أركب بساط الريح،
وتبدأ حياتي الحقيقية...
وفي "بومة
تكشف سر اللؤلؤ":
هل الأصداف دفاتر مذكرات الغرقى
ولذا ينبت اللؤلؤ في بعضها؟
اللؤلؤ بدأ
لي ينبت في كل مقطوعة من مقطوعات السمّان التي جاءت عبارات موجعة الوقع والجمال،
مفعمة بالهم الإنساني بأسلوب سَنيّ يبدو لي أنه لا يختلف عن مواصفات من كتبه. ولعل
أهم ما هو واضح من كنه هذا العمل أنه انتقال إلى "العالمية" مادة وأسلوباً. ولا
أقصد هنا الانسلاخ عن خصوصية السمّان وعلاماتها الأدبية الفارقة، بل المقصود أنها
تكتب من خلفية ثقافة عالمية غير محدودة بتضاريس الجغرافيا.
وهي تكتب وفق حالة تفاؤلية يفتقد إليها معظم الكتّاب الشرقيين، وهذا ما يعزز
مقولتنا أعلاه. وفي اعتقادي أن هذا ليس نتاج الاحتكاك مع الغرب أو أية ثقافة معينة
فقط، بل هو قدرة السمّان على استيعاب التجربة الإنسانية بطريقة شمولية تركيبية،
وتسخير تمرّسها الحياتي وإرثها الثقافي في إشعال ضوء بحجم مجرات طموحها وانعتاقها
وحبها في ذلك الفضاء الليلي الذي اختارت أن تراقص بومها فيه. لكن تأجج العاطفة
الوجدانية تطور بالرقص إلى حالة دورانية بلغت مدارات الوجود إلى أن بات يصعب
التمييز بين الراقصَيْن.
سيدتي: هل تسمحين بهذه الرقصة؟
The above article
is ‘Raghid Nahhas’ reading of Dancing with
the Owl, a recent book by the prominent Syrian writer Ghada Samman
who lives in France. She uses the owl as a symbol of wisdom and a moral
vehicle for a flight for freedom. Nahhas, a graduate of the same university as
Samman and a person of parallel migratory history, draws on his similar
experience with the owl to confirm his admiration and support for the
intellectual and moral standing of Samman.
من مجلة كلمات/ العدد (14). ( اقرأ الترجمة الى الانكليزية من المجلة -
عبد المسيح
السعد
)
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق