الجمعة، 6 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الخامس ) - قصة قصيرة - امرأة صفراء ترسم بالأزرق ( سوزان إبراهيم )

مجلة السنونو ( العدد الخامس ) - قصة قصيرة
امرأة صفراء ترسم بالأزرق ( سوزان إبراهيم )

أغلقتُ الليل على أطلال الصحو,نام الكلام على زندي, وخرج أطفال السماء المضيوؤن ليلعبوا في باحاتها. تيّارٌ من أشياء متشابكة,يبدأ سرياناً بربرياً في الأعصاب المشدودة,مياهٌ باردة,دماء,ركل بالأرجل,نساء عاريات,زنزانة تعذيب,مناديل تلوّح في الفراغ,وأرواح تعوي.أمدّ يدي,أحاول إغلاق فم الصراخ, إيقاف تلويح المناديل,وأصرخ بها.. لا تفعلي .. لكنّ امرأةً نذرت نفسها للعبور تهوي في خضمّ الماء.يتكرر  المشهد مرة بعد أخرى, نساء يتّجهنَ صوب البحر,النهر,البئر,أو أية حفرة تلمّ أطراف الحزن والضعف أو الخطيئة,فتهدأ سيوف القبيلة التي أعفيت من الخوض في الدماء.

أكنتٌ أنا أم هيَ من  قال, الموت عامل تنظيفاتٍ يزيل كلّ ما ترميه الحياة في شوارعها,إنّه موظف غير حكومي يتقِن عمله.يستدعيني الصوت من عمق الكابوس فأصحو.يتراجع  تيار الأحداث والشخصيات المختلفة إلى جوف الكتاب الملقى بجانبي منذ أن راودني النوم عن   يقظتي.مازال الصوت يأتي من مكانٍ ما في الوعي أو اللاوعي,يحفر على وجه الروح أخاديد,يتفرّع فيها الحزن المتدفق.

تهددني,سأشنق نفسي بحبرك,توقّفي عن الاستمتاع بتعذيبي وسجني,مرة بعد مرة تعبرين بي إلى فضاءاتٍ مجهولة ثمّ تلقين بي فوق أريكة الإهمال,وأنا ماأزال مبللة بشوق العبور إليها. عرفت صوت بطلة القصّة التي بدأت بكتابتها قبل أيامٍ,ثمّ تركتها على الورق فوق طاولة المكتب.كانت مثل كلّ العابقين حزناً,تدعُ بوابة الكآبة مواربةً,ماإنْ يلامسها حبري حتى تشتعلَ حقول بكاء. تتدفق كلماتها النزقة:ما شأني أنا بكلّ ما تقرئين,لماذا يتوجب عليّ أن أرى ما ترين,أن أحسّ ما تُحسّين!؟هل تعتقدين بأنكِ تحاولين التخفيف عني برؤيتي لعذابات الآخرين ,لماذا تُلصقين بي على جدار مخيلتك إعلانَ موتٍ مسبقَ الدفع !؟ دعيني أكتب نفسي, ثمّ أدارت وجه  الكلمات عني.هي امرأة ما تفتأ ترمي أعقاب الأيام في منفضة الآن,تطوي ثوب الليل بهدوءٍ,تدفعه على رفوف الفجر,ثمّ تستلقي وزهر الجفون الذابلة يتدانى توقاً لضمّ جسد النوم.لم أتركها إهمالاً أو تجاهلاً.كانت تقترب من مرفئها الأخير,بعد أن تمكن المرض من الانتشار الشرهِ هازماً كلّ الخلايا, فعمدتُ إلى تأجيل إلقاء مرساتها إذ كنتُ أعلم أنّها ستحزِم كلّ الدروب وتمضي كنسمةٍ تتنهد تعباً.

تتبختر بفرحٍ طفليٍّ.وأنا أتقدّمها نحو المرسم,وصبيّة الفجر لم تُكملِ استدارة صدرها بعد.تُسرعُ ويفضحها أريج اشتياقِ الخطو لعناق الدرجات الثلاث التي تفصلها عن الباب,تفتحه كأنّما تفتح درباً إلى الفردوس المفقود. أتبعها,فتقدّم لي كرسي انتظار, تعتقلني رهينةَ عودتها,ثمّ تختفي خلف الباب.يتكسّر الوقت بين يديّ قِطعاً,فأقرر لصق تلك الشظايا لأعاود كتابة الأشياء.بعين الروح رأيتها,ضوءاً يريد عبور كلّ الأشياء,لتنسلّ بهدوءٍ في غروب اللون وانطفاءاته,امرأةً مكتوبةً بحبرٍ يشفُّ وجداً,على ورقٍ يشفُّ توقاً.مرسمها غابةٌ استوائيةٌ مطيرةٌ,يتطاول فيها شجر الروح ويسمو,وتجني فراشاتها رحيق الوقت خطوطاً وألواناً.بين أيك الموسيقا وشهقات الريشة,يُولد ضوءٌ,ظلالٌ,وسراجٌ من دموع.يقيّدها توق الانعتاق من المكان والزمان,في المكان والزمان,تعبر دون جسور على قوارب صيدِ الأطياف التي تغزلها قمصاناً,تلقيها على هلام الصور,فتستحيل لوحاتٍ مجسّدةً. تستقطر روحها وخيالها استعداداً لمعرضها القادم,وتصرّ على إنهاء لوحتها التي قد تكون الأخيرة بصلب الموت على بوابة قلبها الذي ما زال ينبض بهدوء.

 بعد جرعةٍ من عبق الياسمينة الهارب عبر النافذة المطلّة على وجيبة صغيرة,بدأت تشدُّ القماش الأبيض على المستطيل الخشبي,وتُحرر ريشتها لتمارس فصل الهطول على هواها.بيدها (الباليت) وقد أثقلته بكميةٍ كبيرةٍ من الأزرق الكوبالت,والبروسي الغامق,وما بينهما من تدرجات. تُحيط بها لوحاتها الجاهزة للعرض,وأمام عينيها لوحتا (فام) و(آنسات أفينيون) لبيكاسو الذي تعشق,لعلها كانت تنوي فتح الأمداء السماوية,وهي تواجه القماش الأبيض,بياض الأكفان, فيستفزها الأزرق وبيكاسو الذي بلغ أوج الحياة وذروتها خلال المرحلة الزرقاء,بينما هي الآن ورقةُ خريفٍ صفراء تقاوم السقوط,وشمعةٌ تخبو رويداً رويداَ.تتسرب رائحة ما إلى أنفاسي.أتساءل.. ما عساها تفعل كلّ هذا الوقت!؟ أدخل بحذرٍ,ثمّة زجاجات من زيوت النفط  
والتربنتين ملقاة على الأرض. على الكرسي الهزاز تغفو,و أصابعها تمسك بريشةٍ مبتلةٍ بالأزرق.كانت تتبخر شيئاً فشيئاً.هاهي قد عبّأت تعبها,حزنها ومرضها في حقيبة ثمّ غادرت.شلاّل الموسيقا المنسكبُ,يهب المكان صوفيّةً مميّزة.       في صدر المعرض,كانت لوحتها الأخيرة تبكي,يتجمهر حولها الكثير من الناس والأسئلة.يتفتّح في اللوحة نبع بياضٍ,فهل هو سفر الأشياء للامتلاء بأشيائها!؟أهوَ صبح بعد ليلٍ,أم صبح قبل ليل!؟ أصامتةٌ هي أم قالت كلّ ما لديها بين الأبيض والأبيض!؟ هل أنهت لوحتها,أم بدأتها!؟ هل كان طوفاناً ما أرسلته,ليعيدَ للأرض عذريتها الأولى,فحملت من كلّ الأشياءِ زوجين على فلكٍ صنعتْه ثمّ أبحرت.

       بومة شكسبير

       أينما حلقت، أطير دوماً صوبك
       وقلبي بوصلة تشير إليك
       لا أريد أن أذكرك، ولا أستطيع نسيانك
       أن تحبني أو لا تحبني؟
       تلك هي المسألة...
                                                            غادة السمان
 
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق