مجلة السنونو (
العدد الخامس ) -
وجوه
|
|||
موريس
قبق إنسانا
|
|||
موريس قبق إنسانا
((لا
دمع يغسل جرح وحدتي ولا قمر يضيء ليل وحشتي))
منى عبد المسيح قبق
تبعثرت الأوراق
أمامي.. صفراء ممزقة من القدم. جلت بعينيّ كأني أرى الكتابة لأول مرة. قرأت
فانتابني الحزن والحنين رويداً رويداً, نسيت نفسي وانسلت روحي مني.. صور باهتة
مبهمة تظهر.. تغيب.. وترجع بقوة أكبر.. تطفو فوق الأوراق تموج أمام عيني.. في دوامة
تدور.. ولا زلت أسمع صوتي يقرأ مذهولاً من روعة الكلمات والأفكار. تداخلت الصور
والأصوات حتى كأني أشم رائحته.. تبغه.. طغى إلقاؤه على قراءتي.. يا إلهي هل يعود
الأموات!! أم أن هذه روحه هو فهو كان يؤمن بالتقمص. لا, هذه كانت تخيلات, كان
إلقاؤه رائعاً لازلت أسمعه, أناأقرؤه فتعود الصور أقوى, بعينيه الزرقاوين الحزينتين
تحنو على القصائد المبعثرة, وكبر حزني, وأنا أقرأ تلك القصائد من الفكر الحر,والغزل
المبدع, والتناول لمآسي المجتمع المبتكر..أسفي على صمتك.. وبدأت هيولى خياله تلفني
وذكرى صوت صديقه.
- أقدم لك, صديقي
موريس قبق بكالوريوس أدب عربي وأستاذ اللغة العربية في المدرسة, التفت, رشيق
القامة, عريض المنكبين, حلو الشقار, بعينين زرقاوين جريئتين..
يا للمصادفة,أنا بحاجة
إلى دروس بالعربي لصف البكالوريا.
-
بكل
طيب خاطر.
وهكذا كان. اكتشفت فيه
المفكر الموضوعي والشاعر المرهف الحس. وبدأت أفكاره وطروحاته بأمور الحياة تعمق
بيننا صداقة فريدة من نوعها, ملؤها الصراحة والتصارح.
أهداني ديوانه"الحب
واللاهوت", وعند قراءتي له انذهلت.. وأعجبت بشكل القصيدة المميز. كلمات رشيقة, معان
مبتكرة جريئة, باشتقاق جديد مشهود له بجدارة, ديوان يشف عن نفسيته وآرائه وروحه
المتمردة.
الحب والجنس والشعر
طقوس مقدمة لا يجوز الاستخفاف بها وتمارس كالصلاة. واندهشت لرفضه المطلق لكل توابيت
الحضارة التي تشد كلاّ منا رغماً عنه. وجدت بين مخلفاته رسالة صغيرة كتب فيها"لماذا
لا نرفض حتى الرفض أنا لا أشير إلى طريقته الشعرية, فالشعراء والنقاد أقدر مني في
هذا.
بالسراء والضراء هكذا
قال الكاهن.. وهكذا بدأت الرحلة.. رحلة السنين الطويلة.. بحلوها ومرها. بدأت كأغنية
نجاة الصغيرة "شكل تاني حبك أنت "
تتالت الأيام... كبرت
الأحلام والآمال. وشرعنا قلوبنا وعقولنا للحياة. طريقته بالتعامل مع الآخر معاملة
الند للند مع من علا شأنه أو صغر بتواضعه, لا أحد افضل من الآخر إلاّ بالأخلاق.
متواضع لكنه معتد بنفسه, يحب التحدي. واثق من نفسه يعرف معا يبه كما حسناته,معروف
بين أصدقائه بالكرم, يستخف بالمال "المال زائف وقبض ريح"مقولته المشهورة.
وعندما بدأ بتأليف
الإعراب التطبيقي أعطاه من جهده ومعرفته الواسعة في النحو وسهر الليالي وإتقان
متفان ليظهر بأفضل وأجمل وأسهل حلة, غلاف جميل وترتيب يسهل على الطالب البحث فيه.
اعتبره الجميع مرجعاً
للطلاب, ومرت الأيام.. وتوالت الأحداث من سياسية إلى ثقافية من تأميم المدارس وفرض
التوجيه السياسي على أساتذة اللغة العربية وهو الذي يتنفس الحرية هواء وحياة, فقدم
استقالته واستمر بالتدريس الخاص. يحب الكرم والكرماء ومن شدة كرمه وحبه للناس
استبدل ديك الجن والروضة اللتين كان يؤمهما باستمرار برفقة الأصدقاء الشعراء
والأدباء وغيرهم, واستبدلهما ببيتنا وحتى بيت أهلي بواسطة الصداقة التي نشأت بينهم
وبينه, صداقة عفوية دون تصنع وهذا يشمل صداقاته, صداقة حرة متينة, دائمة فهو يدمن
الوجود كإدمانه الدخان هو والسيجارة توأمان لا يفترقان , اندلعت حرب67, وأحداثها
دخلت بيتنا بحماس ولعفتنا ككل فرد سورية ولفنا الحزن والخيبة, للهزيمة التي هزت
العقول والمشاعر والإنسان, على دماء سفكت وأراض احتلت, انتابه غضب شديد كجميع
الأدباء والمفكرين. دخل ميدان مصادفة لا ليجمع المال والثراء كما جاء بمسلسل الكاتب
المعروف ممدوح عدوان والذي أحزنه جداً, بل ليقوم بعمل ما, سنحت له الظروف ليمارسه
ويقوم بأود أسرته خاصة بعد تركه التدريس الخاص. كما كان يمارس التجارة ممارسة
شاعرية إنسانية متقنة خالية من الغش والنفاق لهذا لم يجمع منها ثروة, كما كان
يمارسها بفروسيته المعهودة, ويعطي هذا ويدين ذاك بشهامة.. هيهات أن يصبح الشاعر
تاجراً.
وعند اندلاع الحرب
الأهلية بلبنان ازداد اليأس والإحباط, ذلك أن تلك الحرب مست كل سوري وأغلب البيوت
بسبب المصاهرة والجيرة والمصالح المشتركة والانسجام الاجتماعي.
كان يأمل أن تنتهي
الحرب سريعاً ويعود كل شيء إلى مجراه الطبيعي ليشد الرحال إليها, ويمارس شعره
وحريته بالتواصل مع الأدباء هناك. وطالت الحرب وتراجعت تجارته بعد ازدهار معقول
لأسباب عامة, كبر الحزب وازدادت الخيبات. كل هذا كان له تأثير كبير أقنعه بعبثية
الكلام وليس كما قيل أنه لم يعد لديه شيء ليقوله.
كان يقولها كحجة,
انتابه القرف من بعض الممارسات وازداد اقتناعاً بصمته وهو الذي كان مقتنعاً
اقتناعاً تاماً بإلغاء الفرو قات الاجتماعية الدينية والفكرية والحوار سيد الموقف
والخيار الأمثل.
وكان محاوراً عنيداً
ولكنه محاورا ًموضوعياً يدافع عن رأيه بشدة.يترك الحرية لغيره في الآراء. كما يمارس
إنسانيته وحريته ويترك الباب لغيره مفتوحاً. يدافع عن حرية النساء وحقهن في كل
المجالات, ويدعو لتغيير قانون الأحوال الشخصية لإنصافهن والسيجارة التي لا تفارق
شفتيه وفنجان القهوة أمامه. وزاد القهر قهراً والذل ذلاّ والغضب غضباً عند دخول
القوات الإسرائيلية بيروت, لازلت أذكره في مقعده أمام التلفزيون, وقعت السيجارة من
فمه عندما نعى لبنان انتحار الشاعر خليل حاوي من شدة حزنه ويأسه من دخول الجيش
الإسرائيلي فقلت مستغربة:
أيعقل أن ينتحر!؟
فأجابني بحزن أشد: معه حق حزناً على بيروت والعرب. حزن جدّاً على الشاعر العظيم
الذي افتقده الأدب العربي في لبنان وخارجه.
جواب الشاعر والإنسان
الذي يشعر بالآخر بعمق أحاسيسه.
وأما هو فانتحر
بالصمت, شعر بموت الحرية التي من دونها لن تقام الحضارات والحوارات التي تدفع
البشرية إلى التآخي والتفاعل الذي يغني تلك الحضارات عوضا عن المدفع والقمع
والاحتلال التي تنفي التواصل والمعرفة. وهو الذي ضحى بكثير من وقته وأعصابه وماله
لوالديه ثم لزوجة والده في أواخر أيامهم. يمضي الساعات الطويلة لمساعدة والده على
زوجته المشلولة بعدما جمعت بينهما الصداقة والإنسانية ولم يكن يتذمر أو يشتكي
وعندما توفي والده بقي بارّاً بزوجته يخدمها لآخر يوم إلى حين وفاتها. عندما خاف من
الشيخوخة وأمراضها وعجزها, مع أنه كان يتمتع بالقوة والصلابة والجلد.
الإنسانية فعل لا
كلام, كان إنسانا بكل المواقف. سند أصدقائه عند الشدائد. الإنسان موقف.. أفقت من
شرودي وذكرياتي وسفري بين سنين خصبة وسنين عجاف حاولن التركيز لأواصل نسخ قصائد
ديوانه الثاني والذي لم يرض عن طباعته إلاّ بعد وفاته فوعده الشاغر أحمد دحبور(ابنه
الوفي) وأنا بذلك, وهاأنا أفي بوعدي. يأخذ مني أيّاما ًوليالي مليئة بالذكريات,
ذكريات السعادة والفرح والحزن والألم والفقدان
من جديد تتزاحم الصور
في ذاكرتي وهل تختصر حياة إنسان وشاعر بكل ما فيها من ثراء وأحداث وأحاسيس وتناقضات
بعرضها وطولها قبل أن أعرفه وبعد أن عرفته ببضع صفحات.
أصبحت الأوراق والحروف
بعيدة تسحبني معها وتشدّني إلى ماض بعيد وقريب عندما شاء القدر أن نمرّ بظرف طارئ
هزّنا بالعمق وشتت قدراتنا. فنسل منه القوة والصراع والتحدّي الذي هو من صميم طبعه
فاسترسل في الاستسلام للمصير المجهول. وبدأت الدائرة تضيق وتصغير وفسحة الحياة تشد
وتخنق.
ولما وضعت الحرب
اللبنانية أوزارها تنفسنا الصعداء وملأ الفرح قلوبنا بعد أن ذرفنا الدموع وهدّنا
الانتظار ولا سيما لنا أهل هناك, ولما استتبت الأمور بعد سنوات في لبنان غمره حنين
الحرية بمعاودة التحليق في سماء كان يعدّ نجومها منتظراً. وبدأ الأمل وخاصة بعد أن
رجع التواصل الأدبي بين كثير من الأدباء السوريين بين لبنا, وكبر الحلم في نفسه لكن
أجنحته أصبحت ضعيفة هدها المرض. ولم يمنحه القدر هذه الفرصة التي انتظرها سنوات
طويلة.
غاب وبقي حاضراً في
قلب الأحبة والأصدقاء والشعر, حاضراً بين الحين والحين بقالات هنا وهناك لإعادة
اكتشاف موريس بما كان له من بصمة على الشعر وشعلة يستنير بها الشعراء الجدد. غاب
الفارس بعد أن انتهى زمن الفرسان.
عدت إلى الواقع من
سفري القصير, إلى الأوراق والقصائد أتلمس من خلالها إنساناً شاعراً مرّ من هنا.
هل يدان سقراط بحجة أن التزامه الثابت بالحقيقة وأبحاثه الفلسفية أدّت إلى ما
قام به العامة المضللة حين
أجبروه على تجرع السم..!
وهل يدان المسيح لأن ضميره ألا لهي الفريد واستمراره في تكريس نفسه لمشيئة
الرب قد أديّا إلى فعل
الصلب الشرير.؟!
مارتن لوتركنغ جونير |
|||
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق