مجلة السنونو (
العدد الخامس ) -
نقد وفن
|
|||
الفنان عبد الظاهر مراد ومشقات عصر التحولات الكبرى ( بسام جبيلي )
|
|||
إذا استثنينا بعض الفنون التطبيقية للنقوش والزخارف , التي كانت تزين الأدوات
الاستعمالية المنزلية و رسوم الجدران والسقوف الخشبية لبيوت حمص القديمة , في
نهاية القرن التاسع عشر . و إذا تجاوزنا فن رسم الأيقونات الدينية مجهولة التوقيع
, و تخلف وخواء القرون الأربعة المظلمة للحكم العثماني . يبقى لدينا المراحل
الأولى للفن التشكيلي في بداية القرن العشرين , المعتمدة على نسخ و نقل صور المناظر
الطبيعية , التي كان ينجزها فنانون هواة في أوقات فراغهم , وسننتظر حتى منتصف
القرن لنتمكن من رصد بداية التأسيس لحركة فنية واعدة وجادة في مدينة حمص , بريادة
الفنان صبحي شعيب , وجهود جيل من الفنانين الشباب الذين توجهوا لدراسة الفن خارج
سورية و أولهم الفنان عبد الظاهر مراد (1926-2004) حيث توجه إلى إيطاليا وعاد
حاملا إجازته من أكاديمية الفنون الجميلة في روما عام 1958.
لقد كانت فترة
الخمسينات
من القرن الماضي منعطفا كبيرا للتفتح و النمو, على
مختلف الأصعدة , سواء كانت فكرية أم ثقافية أم فنية أم أدبية. كانت فترة خصيبة على
كل المستويات, وبدت كتربة صالحة ملائمة تفتحت فيها المواهب في جميع المجالات ,
واندفع الجيل الشاب المتعطش للارتواء من ثقافات العالم , وبدوافع ذاتية محضة , إلى
تحدي أحلامه . فلم يكن بالنسبة للتشكيليين منهم أي معهد أو كلية أو حتى صالة عرض .
و كما يقول الأستاذ معتصم دالاتي (كانت تلك الفترة بالنسبة لهؤلاء الشبان مرحلة
رومانسية الاتجاه , كانوا رومانسيين بالفن , رومانسيين بالشعر , رومانسيين
بالتطلعات , رومانسيين حتى بالسياسة ) . لقد كانت دوافع هؤلاء الشبان من القوة
والاندفاع وحب التغيير ما جعلهم يفكرون بترك بلدهم في هجرة مؤقتة لتحصيل العلم .
وكان الأمر مبررا بالنسبة لدارسي الطب أو الهندسة , بضمانة مهنهم المزدهرة
والمطلوبة والتي يحتاجها الوطن بشدة , لكن أن يفكر أحدهم , و أولهم , الفنان عبد
الظاهر مراد بالاغتراب لدراسة الفن فالأمر يدعو إلى التساؤل , بل يستدعي الإعجاب ,
ففي ذلك الزمان
, لم يكن من المتصور أن يترك الإنسان بلده , و يتحمل تكاليف الغربة , و مصاريف
الدراسة , و يعارض أهله , ليعود بشهادة مجهولة المصير و الهوية , وهو يعرف تمام
المعرفة بأن الفن لا يطعم خبزا , و بأن الفنان مهما كبر شأنه , سيظل ينفخ بقربة
مقطوعة . لكن حين يكبر الحلم و يتحدى إحباطات الواقع حينها يصبح ترك الوطن و
تحمل مشقات الغربة , من قبيل المغامرة الوردية , غير مضمونة النتائج .
وكان شأن عبد الظاهر مراد كشأن الرواد , حين يلقون بأنفسهم إلى المجهول ,لا
يحملون في جعبتهم سوى صفاء سريرتهم , وعنادهم الرومانسي , وإيمانهم بالفن و بقدرته
السحرية على تغيير العالم . لقد آمنوا بالجمال واعتبروه أساس تربية الجنس البشري ,
وعشقوا الفن و تأكدوا بأنه الوسيلة الكبرى لصون و احترام إنسانية الإنسان .
لقد
عمل عبد الظاهرمراد مدرسا في مركز الفنون منذ تأسيسه , و مديرا له منذ عام 1966الى
عام 1970 ما أتاح له التعرف عن قرب على المواهب الشابة التي أصبحت فيما بعد بفضل
تشجيعه و رعايته من الأسماء المهمة والفاعلة في الحركة التشكيلية السورية . حين
أشاع طريقته في الرسم المباشر عن الطبيعة . لقد أسس مع زملائه لحركة فنية نشطة , و
استطاع بفاعليته وتفهمه و نظرته السمحة , أن يتصالح مع الحلم و يحوله ببساطة إلى
واقع .
كانت
موهبة الفنان عبد الظاهر مراد موزعة بين اللوحة الفنية و فن الديكور (
العمارة الداخلية) , وكان في كلا المجالين, الفنان المجلي , ذا الحساسية المرهفة
والتعبير الراقي .
فعلى مستوى بناء لوحته كان عاشقا للأمكنة , تستوقفه الجدران و الحارات
القديمة وتستهويه الأسواق العتيقة والقرى متراصة الأبنية . لكن المكان عنده لم يكن
أبدا حياديا أو شكليا جامدا , بل كان ذلك الحيز التاريخي المسكون بالحبور و بنبض
الحياة , ورغم أنه يرسم عن الطبيعة مباشرة , فذاكرته البصرية و اللونية لا تخضع
بشكل نهائي لما يرى من الأشياء , بل لما يجب أن تكون عليها هذه الأشياء , و كأنه
ينظر إلي موضوعه بعينين اثنتين موجها نظره بإحداهما نحو الخــــــارج و بالعين
الأخرى نحو الداخل , ولا تصبح اللوحة ناجزة إلا بتطابق كلا الرؤيتين , إنها نظرة
انطباعية للمشهد المرئي , تعتمد على الانفعال الآني و الاستبطان و الإنجاز السريع ,
و
انطباعيته هذه , ما هي إلا علامات تصويرية تقوم على منطق التجاور و التزامن ,
فلوحته تخضع لعمليات كثيفة مـن الحـــــــذف و الاختزال يتطابق مع تقنيته و أسلوبه
في استعمال السكين و العجينة اللونية الكثيفة , هذه التقنية التي أصبحت كعلامة
مميزة , وطابعا لأسلوبه الفني الشخصي , و سمة من سمات طريقته في الرؤية والعمل, لم
يتخل عنها طوال حياته . إذ انه عندما يبدأ بإعداد الأساس للوحته يعتمد على
الأرضيات القاتمة أو السوداء , ليباشر بفرش ألوانه وتوليد النــور و الضـــوء و
الظلال. و رغم أنه لم يستخدم الريشة أو الفرشاة مطلقا , فانه قد استعاض عنهما
باستعمال السكين وحدها , هذه الأداة صعبة المراس, التي أتقن عبد الظاهر مراد
استخدامها وجعلها مطواعة ,عبر آلية و خبرة تراكمت خلال عمر كامل , هذه التلقائية
والسرعة في استعمال السكين أتاحت له تقليص المسافة بين فكره و إحساسه , بين ما يراه
و ما يشعر به . انه كعازف , أو كلاعب سيرك , يعرف حدود و إمكانات أدواته , ويتقن
كل الخـــــدع و الألعاب, فيستعمل سكينه بتـــدفق هائــــــل, و بسيالة عصبية
تلقائية , مميزا برهافة بين سن السكين وحرفها أو بطنها أو وسطها . وهو لا يصنع
الخطوط بل يتركها تظهر من تلقاء نفسها بين المساحات اللونية الكثيفة معتمدا على
عتامة لون أساس لوحته . وضربات السكين لديه تتراوح بين النزق والهدوء , بين
المساحات الكبيرة و الدقيقة , وتشي باتجـــــاه و سرعة حركة يد الفنان أثناء
التنفيذ. و (باليتة) الألوان لديه فقيرة و متقشفة للغاية فهو يستعمل مجموعة محدودة
من الألوان الأساسية فيستنبط منها , على قلتها , مشتقات لونية لانهائية آسرة , إذ
انه يعتمد أحيانا على مزج اللون مباشرة على سطح اللوحة , ما يوفر له ذلك التدرج و
التلاشي اللوني السلس , بين لونين متجاورين . وأحيانا أخرى , تجده يقوم بلمسات
صغيرة , و عن طريق التجاور بين لونين شديدي الاختلاف كالأزرق و الأصفر مثلا ,
فيستعيض عن مزجهما الكيميائي بالمزج البصري , لتتولد في عين المشاهد مشتقات لونية
خضراء , تعتمد على خصيصة من خصائص فيزيولوجية الإبصار لدى
الإنسان في
قدرة العين على تحقيق هذا المزج السحري المباشر للألوان المتجاورة , مما يكسب هذه
المشتقات جمالها و بريقها , فتستعيد حيويتها و نقاءها مع كل نظرة جديدة إلي اللوحة
. لقد كانت تلقائية الفنان وعفويته في مزج عجائن اللون الكثيفة , تنتج أحيانا أخطاء
غير متعمدة تأتي مصادفة , فيحولها بقدرتــــه و مراسه إلى قيم جمالية جديدة ترفع من
جودة اللوحة و تؤكد شخصيته وحضوره , و هذا ما ساعد في إيصال أسلوبه الانطباعي
الأنيــــــق و معالجته الأليفة للمنظر الطبيعي و الطبيعة الصامتة , إلى شريحة
واسعة من الجمهور الساعي إلى تذوق الفن و المنحاز للجمال .
و
يشكل اللون الأخضر ومشتقاته قاسما مشتركا في أغلب لوحات الفنان , هذا اللون
الإشكالي , صعب المراس , الذي يتوسط موشور ألوان الطيف , والذي يحمل بطبيعته
امتدادا و تنوعا مضاعفا , بحيث يمكن اعتباره لونا باردا أو لونا حارا, حسب درجة
إشباعه و نصوعه , وهذا ما يفسر التوازن اللوني السلس بين الحار والبارد في لوحات
الفنان مراد , حين ينقلنا في لوحته دون عناء , نحو الأخضر البارد المزرق أو نحو
الأخضر الحار المصفر.
و
يمكن من الناحية التقنية , إضافة استنتاج أو ملاحظة , حول بعض الأعمال الفنية
القديمة نسبيا للفنان , حيث بدأت ألوانها تفقد بريقها و حيويتها الأساسية الأولى ,
مما يدعونا للاعتقاد بأن السبب يعود إلى أساس قماش اللوحة المطلي باللون الأسود,
ما أدى مع مرور الزمن , إلى امتصاص بريق وحيوية الألوان . وهو ما يؤثر سلبا على
بعض الأعمال الجميلة القديمة النادرة .
و جاهد في
سبيل كسب اعتــراف المجتمـــــع و الزبائن , على السواء , و رسخ عادة احترام وتقدير
قيمة ما يقدمه الفنان من تصور للفضاء الداخلي , و بأنه لا يقل أهمية و لا جمالا عن
الفضاء الخارجي للبناء . لقد بدأ في زمن لم تكن مواد الديكور متوفرة في الأسواق ,
لعدم توفر الطلب الفعلي على استيراد هذه المواد , كما هو الحال اليوم , وهي
تعتبر أساسيــــــــة و ضرورية لأنها تساعد المصمم و توحي إليه باختيار العديد من
الحلول الجمالية المناسبـــة , و تمكنه من تحقيق أفكاره بسهولة و حريــــــة و
مرونة . لكن ندرة هذه المواد اضطرت مصممي الديكور , و عبد الظاهر منهم إلى
الاستفادة مما هو متوفر في البيئة من مـــــواد و أهمها الخشب , لطواعيته وسهولة
تشكيله. وهذا في الحقيقة ما ضاعف العبء على الفنان الذي اصبح , بالإضافة إلى هموم
التصميم معنيا بتأمين تصنيع المواد الخشبية اللازمة, بكافة تفاصيلها ومقاطعها . و
هذا ما اختلط في ذهن العامة , ودفع بعضهم للاعتقاد بأن مهندس الديكور ما هو إلا
نجار كثير المتطلبات يحمل شهادة غامضة لا لزوم لها .
عام 1982
والسفر إلى أبوظبي للعمل كمهندس ديكور لمدة ليست بالقصيرة .
وأخيرا قد يكون هذا التعامل المبكر للفنان مع السوق ومع آليات
العرض والطلب من خلال عمله في مهنة الديكور هو ما أتاح له و اكسبه تلك الطريقة
الواقعية في التعامل مع الزبائن . لقد ساهم بشكل كبير في ترسيخ فكرة أن للفن قيمة
مادية يجب أن يفرضها الفنان نفسه , و أن يسعى إلى احترامها كما يحترم فنه تماما ,
وهذه القيمة هي التي تعطي للفن هويته وتتعدى ثمن القماش و الإطـــــــار والألوان .
و رغم أن اغلب لوحات الفنان عبد الظاهر مراد كانت تذهب كهدايا للآخرين , فقد أدرك
مبكرا ضرورة وجود طريقة ما للتعامل يمكنها أن تؤسس لبناء تقاليد فنية تساعد في
تقريب المسافة بين الفنان و المتلقي , فكانت فكرته في إنشاء مؤسسة صغيرة أسماها (
دار الزخرفة) أتاحت للفنانين الشباب بيع لوحاتهم الحقيقية أو المنسوخة عن لوحات
أخرى , و أقنعت الفنانين مع مرور الزمن بأن ما يقومون به لم يكن لعبا لا طائل له ,
و إنما هو فن مرغوب ومطلوب يحمل قيمة مادية توازي و تدعم لغة التشجيع و الإعجاب
.
وهكذا يمكننا اعتبار الفنانين الذين عاشوا تلك التحولات العميقة في مجتمع و حياة
النصف الثاني من القرن الماضي , شاهدين على عصر من التناقضات و مشقات التأسيس و
تغير أفضليات سلم القيم .
و بالعودة إلى ما حققه الفنان عبد الظاهر مراد من إنجازات , يمكننا أن نرصد
ما حصده من شهادات التقدير , وما استحقه من الاحترام , بنيله العديد من جوائز
التكريم من معرضي الربيع والخريف في حلب ودمشق , إضافة إلى أعماله الفنية الموزعة
في
مجموعات فنية
في كل من سوريـــا و الأردن و لبنان و إسبانيا و سويسرا والنمسا .
رحم الله الفنان عبد الظاهر مراد , الذي كان من هؤلاء المؤسسين , و الذي سيبقى على
الدوام حاضرا و حيا في ذاكرة أصدقائه و طلابه و زملائه الفنانين و محبي فنه الجميل
.
صباح الخير للميماس
صباح الخير لبساتين حمص
صباح الخير للأزقة العتيقة حيث تعبق رائحة الغار والبيلون ـ
صباح الخير لأسواق حمص حيث تنادي مع إشراقة الصباح
صباح الخير لقرى حمص التي تنام هادئة حالمة
صباح الخير لشلالات الورود حيث ما زال أريجها عابقاً
صباح الخير يا شوارع القدس يا كنائس القدس
يا جوامع القدس يا أحجارها العتيقة. سلام لك من القلب
سلام لك من ريشة فنان عاشق
صباح الخير لشواطئ بيروت ومراكبها ومقاهيها وفنجان قهوتها
صباح الخير يا بحر الإمارات يا بحر المحبة والعطاء
صباح الخير لمراكبه المتكئة على رمال تدفئ القلب
هؤلاء جميعاً كانوا أصدقاء ريشته وحلاوة ألوانه
وأناقة إبداعه.... طارت الريشة على غيمة بيضاء
وبكى عصفور على شجرة سقطت أوراقها ـ كانت لوحة هي آخر ما رسمه.
يا رفيق عمر دامت رفقته سبعة وثلاثون عاماً. عرفت في دفئها السعادة.
صباح الخير من ابنتك هلا وصباح أحلى من ولدك الحكم
سلام لك حيثما كنت
سلام.
نهلة
دباح مراد
|
|||
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق