الجمعة، 6 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الخامس ) - قصة قصيرة - المسافر ( سائر جهاد قاسم )

مجلة السنونو ( العدد الخامس ) - قصة قصيرة
المسافر ( سائر جهاد قاسم )

ينعطف في الشارع وبيده حقيبة، فيها كل أوراقه وما جنته يداه. تطالعه الحشائش اليابسة على أسطح المنازل، لاشيء تغير، كل شيء كما تركه، يصعد الدرجات، يمد يده إلى جيبه، ثم إلى الحقيبة، يتذكر أنه لم يأخذ المفتاح معه. يهبط الدرج وينعطف يميناً ليسأل جيرانه، يقرع أول باب، يسمع صوتاً من الداخل، يدخل، امرأة تجلس على المصطبة ترف بيدها:
   ـ  من .. أنت؟ الحمد لله على السلامة.

          كان صامتاً كأنه أخرس، مكتفياً ببعض العبارات التي تسمعها المرأة، لكنها لم تقف. اقترب منها بناء على طلبها، قبلته على لحيته البيضاء الكثيفة، عرف أن سمعها قليل:
   ـ كيف حالك يـا.. ورفع صوته بما ينسجم والحالة التي هو فيها.
   ـ ماتت ولسانها ينطق باسمك .

أحس بأن يداً تقبض على عنقه، وثمة دمعات نفرت من عينيه، حاول ألاّ تلاحظ المرأة هذه الدموع، وأشاح بوجهه قليلاً .. قالت:
   ـ حين تبكي الرجال تصاب النساء بالخيبة.. لا تبكِ أمامي فأنا لا أستطيع المقاومة.
          كفكف دمعاته. ومدت المرأة يدها إلى عبها، وأخرجت كيساً مصنوعاً من القماش معلقاً في عنقها.
راحت يداها المرتجفتان تبحثـان في زوايـا الكيس، وأخرجت مفتاحاً ذا لون أصفر. 

ـ يا حسرتي.. قالت لا تعطيه لأحد غير ابني إذا عاد!.. وها أنت قد عدت.. عليك بالصبر.
          لم يحسن تقديم الشكر، انحنى على حقيبته حملها، ثم أخذ المفتاح وعاد.
          يفتح الباب، تطير العصافير داخل البهو، تخرج من نافذة صغيرة دائرية تستعمل لبواري المدفأة .. ثمة ثوب نسائي معلق، يقترب منه، يدفعه شيء بداخله لشم رائحته. الكرسي الخشبي الوحيد الذي يمكنه أن يجلس عليه، يهزه، يتطاير الغبار مشكلاً سحابات راحت تنشر في تلك الغرفة تتعلق على خيوط العنكبوت المتأرجحة في الزوايا.

يفتح النافذة، يدخل الهواء، ينفض الغبار، يسعل قليلاً، يقع نظره على أصيص الورد ثمة زنبقة كانت قد تحولت إلى يباس. يتقدم باتجاه صنبور الماء، يحاول فتحه، كان جافاً وقد بنت الحشرات بداخله مساكن لها.

          يقترب من المرآة، ينظر بداخلها، منع الغبار إظهار الصورة، يرفع منديلاً من جيبه يمرره على وجه المرآة ثم يدعه يتأرجح نحو الأرض ككل الأوراق الصفراء. يحدق من داخل الخط الذي مسحه إلى داخل المرآة.. رجل في الخمسين من العمر.. ذو لحية بيضاء يتخللها بعض السواد وعينان دامعتان فيهما كآبة. يرفع قبعته بدا الجبين عالياً، أما اللحية فقد غطت الحفر غير أن كرسي الخدين ظهرا لامعين تحت عينين معذبتين. راح يتلمسهما فيما أفكاره، رحلت إلى خمسة وعشرين عاماً خلت .. هنا كانت تجلس والدته سألته:

   ـ أكان يجب أن تذهب هكذا وتتركنا ؟
   ـ أنا لا أترككم يا أمي سوف أبعث لكم ما يكفيكم لتعيشوا بسعادة.
   ـ نحن سعداء بوجودك، فكر في قلب أمك، أبوك كاد يطير عقله حين سمع قرارك.
   ـ أبي وأنت ومن لي غيركما.. أما السفر فهذا لأجلنا جميعاً.. هل تريدين لابنك أن يعيش العوز فيما غيره من الشباب يؤسس حياته.
   ـ برضاي عليك.. " لا تنسانا ".
          أيقظته حركة من وراء المكتبة عرف أنه فأر، كتبه ما زالت داخل الزجاج حبيسة فوق المكتبة اتكأت آلة موسيقية في زنزانتها (حقيبتها السوداء).
صرخ بأعلى صوته: ـ اللعنة ! ..     
                              
          ورفع الكرسي وضرب زجاج المكتبة فانهارت القطع صارخة، ضحكت من داخلها الكتب كل كتاب راح يصرخ كان يسمع الصرخات وكأنها صرخات داخل نفسه التي امتشقت ساعتئذ. مد يده من بين الكتب إلى مصنف كان يستعمل لجمع الصور، فتحه، هذه صورته وجهه مجدور طلب من المصور أن لا يضع عليها أية رتوش، هذه أمه، وهذا أبوه. راحت الصور توقظ سيل الذكريات،
غير أن حركة الفار ما زالت وراء المكتبة الخشبية. جثا على الأرض محاولاً طرده، لكنه تركه، وفتح أول درج( لقد تكدست رسائله التي تركتها أمه )، حمل أعلاها، وفض الغلاف، كانت بقايا مذكراته، وثمة رسائل كان قد خطها بقلمه (إلى حبيبتي ريم) انفتحت شفتاه عن ابتسامة سرعان ما انكمشت، أين أصبحت؟ من تزوجها؟ لا بد أنها تزوجت. فض الرسالة وقد تراخت يده وسقطت الورقة تتأرجح في أرجاء الغرفة.

          خلع سترته البيضاء الأنيقة وقذف بها بعيداً، لم يعد يهمه أي شيء، غير أن نداءً محموماً كان يسمعه من عوالم مجهولة تخيلها وكأنها صدى لأوتار الكمان، أمسكه وأنزله، فتح الحقيبة، ثم وضع ذقنه على مسنده، واحتوته الآلة، مسك القوس، وراح يجر أولى النغمات التي لم تعزف من قبل، كانت الآلة فرحة بتحررها غير أنها انصاعت لإرادته لتنتج صرخات أقرب ما تكون إلى صرخات ثكلى، ومع حركة القوس راحت الأوتار تترجم حالته، وترحل إلى بيوت الجيران الذين عرفوا أنه عاد، وما أن تجمعوا وقرروا أن يرتقوا الدرجات الثلاث ويقدموا له التعزية بوفاة والديه، ويقدموا  له التهنئة، حتى سقطت الآلة من يديه، وثمة ورقة مكتوبة مؤرخة بتاريخ قديم منذ خمس وعشرين عاماً، وبقايا صور، دخل الجيران.. لم يستطيعوا تقديم التعزية.
 
*        *        *
" الهجرة.. وإن تكن على صعيد القلب الجمرة الكاوية والقصّة الباكية.. وعلى صعيد الأمومة والأبوّة والبنوة غابات اللهفة والدمعة الأبدية، وعلى صعيد حقول العمل خسارة السواعد المؤقتة، ومغالبة الصخور البعيدة العاتية لتفجيرها ماءً وسلوى.. فإنها تبقى على صعيد النفع الإنساني العام الحياة الدفّاقة والشبكة الحيّة التي توزّع شرايينها كنوز العبقرية الإنسانية إلى أقصى بقاع العالم وأكثرها انعزالاً وبكارة لتعميرها حياة وحضارة".
                                      نهاد شبوع 1992
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق