الجمعة، 6 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الخامس ) - خاطرة - حمى الوادي المتصدع - شوقي بزيغ

مجلة السنونو ( العدد الخامس ) - خاطرة
حمى الوادي المتصدع (رسالة اعتذار متأخرة الى أبي الطيب المتنبي) -  شوقي بزيغ

          لا اعرف على وجه التحديد السبب الذي جعلني مسوقاً لمخاطبتك من دون الآخرين في هذا الزمن العربي الذي يبعث على السخط والمرارة والقرف. ربما لكثرة القواسم المشتركة بين زمنك المثخن بالعجز والتفسخ وانهيار القيم وبين هذا الزمن الذي تثقله الأمراض نفسها والانهيار اياه. وإذا كنت استخدم صيغة المخاطب فليس ذلك لندية لا قبل لي بادعائها بل لأنك الشاعر الذي ارتفع إلى رتبة الرمز فصرنا نتلفع بحكمتك وكبريائك ونتعزى بجروحك المفتوحة على مصراعيها كما يتعزى المسلمون الشيعة بجروح الحسين. كيف لا وأنت نبي الكتابة وإمامها الغريب، بقدر ما أنت المنارة والدليل كلما انقلب المعنى على مبناه وبات الظلام سيد المشهد. والآن اكثر من ذي قبل ادرك السبب الذي جعل شعراءنا الكبار يتخذونك قناعاً لهم في الشدائد فيتماهى أدونيس في "الكتاب" مع الصرخة التي أطلقتها في وجه الموت والتاريخ المزور، ويشاطرك محمود درويش طريق الرحيل عن مصر بعد كمب ديفيد.
 
            ستة عشر عاماً وأنا ادرّسك بحكم مهنتي في المدارس. ستة عشر عاماً وأنا استعيد قصيدة بعد قصيدة ذلك الحزن الوجودي الذي يلفّ كالقماط كيانك الممزق بين الخيارات والنوازع، واقتفي بذهول اثر اقدامك على الأرض وكلماتك على الأفئدة وصراخك على الزمان ورثائك على الخرائب. ومع ذلك فقد كنت أحار دائماً في قسوتك على الخلق. كنت أحسبك تقسو على الناس أكثر مما يجب ومما ينبغي لك. ولم أكن أستطيع أن أجاريك في حكمك عليهم بالقول: "وصرت اشك في من اصطفيه/ لعلمي أنه بعض الأنام" أو في وصفك المريع لهم بأنهم مجرد "ذئاب في ثياب". ولا كنت قادراً أن أبرز لتلامذتي، ولا لنفسي، كل هذا القدر من الغضب والسخط والتبرم من البشر. لم اكن غافلاً بالطبع عن المكائد التي دبرت ضدك ممن يفترض أن يكونوا ظهيراً لك في الشدائد، ولا عن الإشراك التي نصبها لك الأدعياء والمرجفون والشعراء الصغار، ولا عن الغصة التي كسرت ظهرك وهم "يجرجرونك" عن سدة الحلم في اتجاه المعارك التافهة والمنازلات الهشة والفراغ الموحل. ولكنني كنت اظن، لبراءة في الروح ولقصور في الخبرة على الأرجح، بأن في حكمك عليهم الكثير من المبالغة والقسوة والعدائية النافرة والفائضة عن الحاجة.

          وها أنا الآن أجيئك، سيدي، معتذراً عن ظن في غير محله. وكيف لا افعل ذلك وبين ظهرانينا الكثيرون ممن يحملون الثقافة مستنقعاً ويقتاتون كالطفيليات من لحم الشعر ودمه الأعزل.
 
            كيف لا افعل ذلك وهم يعتدون باسم الحرية على الحريات ويستنفرون من الكراهية والحقد ما لا يليق حتى بأعتى الطغاة ورجال الغستابو ولصوص المباحث. لتحمد ربك، سيدي، أنك لم تخلق في زمن الهواتف السوداء والفضائيات العابرة قارات النميمة وأنك لم تقع في شرك صحافيين صغار يخبئون في جيوبهم وأجهزة هواتفهم ما تيسر من وسائل التنصت وآلات التسجيل ليحوّلوا الحديث العفوي تصريحات نارية لاهبة وليحرّفوا ما شاء لهم التحريف غير آبهين بالنتائج وغير مكترثين بأبسط ما للإنسان من حقوق. لتحمد ربك أنك لم تخلق في زمن الأجهزة الخلوية التي تدير عبر الأثير المعارك التي تشن ضد كل خلية تنبض في شريان شاعر و "الفاكسات" التي ينفثون خلالها سموم التآمر والتأليب والعداء المستشري في الصدور والسرائر.

           أنهم هم أنفسهم في كل زمان ومكان الذين لا يضخّون في جسد الأمة سوى الهزال والتأسن، الذين يحفرون الحفر للبراءة والأغنية والقصيدة، الذين يزوّرون تاريخ الشعراء الناصع بجرة حقد، الذين يتعامون عن المعارك الكبرى ليتلذذوا بلوك النفايات، الذين لم يؤثر عن حناجرهم الصدئة صرخة في وجه حاكم أو جلاد، الذين ينزلون بدم ايمن وبلال فحص ومحمد الدرة إلى هاوية الهزيمة العمياء، والذين يصادقون الناس في النهار لينكروا صداقتهم ثلاثا قبل صياح الديك. أنهم هم أنفسهم الذين يبشرون بنهايات الشعراء ليفتتحوا عصر المومأة والركاكة والمقالات الهزيلة الصفراء، الذين جل ما يتمنون أن لا يظل شاعر على قيد الشعر وغيمه على قيد المخاض وزهرة على قيد التفتح. أنهم هم الذين صرخت بهم ساخطاً: "أفي كل يوم تحت ضبني شويعر؟" والذين سيتولى الزمن بنجاح الاقتصاص من رغائهم العابر وطبول حضورهم الكاذبة.

             تشبّث بحمّاك أيها الجد الأكبر. فهي لم تصب منك غير ما تصيبه الخدوش من جسم الجبل. وهي ليست شيئاً يذكر ازاء "حمّى الوادي المتصدع" التي تضرب روح ثقافتنا العربية المعاصرة في الصميم، والتي لا نعرف حتى الآن سبيلاً للتخفف من عذاباتها الثقيلة وأنيابها السوداء.

أبحـث عنـك..

 
ابحث عن مدينة جدرانها غير ملوثة بشعارات حمقى رسموها بأيد ملطخة بدماء جيرانهم. ابحث عن مدينة لا ترتع فيها الجرذان ويموت الإنسان.
ابحث عن مدينة عاقلة، لا تُكرّم جلاّدها وتحمله على ظهورها كالقردة في مواكب الهذيان.
ابحث عن مدينة لا نحملها إلى المنفى داخل حقائبنا حين نرحل، بل نحرق حقائبنا أمام أبوابها حين نعود إليها.. أبحث عن مدينة لها ثائر حقيقي لا ينكرني ثلاثاً قبل صياح الديك ويبيعني وقومي بدرهم فضة، بل يعيد إلىَّ يقيناً فقدته، ويعيد لمدينته شمسها المخطوفة.
ابحث عن مدينة لا يحيا الموت سعيداً فيها ومتوّجاً على دموع الأطفال.
فهل اسم هذه المدينة بيروت؟.                         غادة السمان
 

     
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق