مجلة السنونو (
العدد الخامس ) -
خاطرة
|
|||
حمى
الوادي المتصدع (رسالة اعتذار متأخرة الى أبي الطيب المتنبي) - شوقي بزيغ
|
|||
لا اعرف على وجه التحديد السبب الذي جعلني مسوقاً لمخاطبتك من دون
الآخرين في هذا الزمن العربي الذي يبعث على السخط والمرارة والقرف. ربما لكثرة
القواسم المشتركة بين زمنك المثخن بالعجز والتفسخ وانهيار القيم وبين هذا الزمن
الذي تثقله
الأمراض
نفسها والانهيار اياه.
وإذا
كنت استخدم صيغة المخاطب فليس ذلك لندية لا قبل لي بادعائها بل لأنك الشاعر الذي
ارتفع
إلى
رتبة الرمز فصرنا نتلفع بحكمتك وكبريائك ونتعزى بجروحك المفتوحة على مصراعيها كما
يتعزى المسلمون الشيعة بجروح الحسين. كيف لا وأنت نبي الكتابة وإمامها الغريب، بقدر
ما أنت المنارة والدليل كلما انقلب المعنى على مبناه وبات الظلام سيد المشهد. والآن
اكثر من ذي قبل ادرك السبب الذي جعل شعراءنا الكبار يتخذونك قناعاً لهم في الشدائد
فيتماهى
أدونيس
في "الكتاب" مع الصرخة التي
أطلقتها
في وجه الموت والتاريخ المزور، ويشاطرك محمود درويش طريق الرحيل عن مصر بعد كمب
ديفيد.
وها أنا الآن
أجيئك،
سيدي، معتذراً عن ظن في غير محله. وكيف لا افعل ذلك وبين ظهرانينا الكثيرون ممن
يحملون الثقافة مستنقعاً ويقتاتون كالطفيليات من لحم الشعر ودمه
الأعزل.
أنهم هم
أنفسهم
في كل زمان ومكان الذين لا يضخّون في جسد الأمة سوى الهزال والتأسن، الذين يحفرون
الحفر للبراءة
والأغنية
والقصيدة، الذين يزوّرون تاريخ الشعراء الناصع بجرة حقد، الذين يتعامون عن المعارك
الكبرى ليتلذذوا بلوك النفايات، الذين لم يؤثر عن حناجرهم الصدئة صرخة في وجه حاكم
أو جلاد، الذين ينزلون بدم ايمن وبلال فحص ومحمد الدرة
إلى
هاوية الهزيمة العمياء، والذين يصادقون الناس في النهار لينكروا صداقتهم ثلاثا قبل
صياح الديك. أنهم هم
أنفسهم
الذين يبشرون بنهايات الشعراء ليفتتحوا عصر المومأة والركاكة والمقالات الهزيلة
الصفراء، الذين جل ما يتمنون أن لا يظل شاعر على قيد الشعر
وغيمه
على قيد المخاض وزهرة على قيد التفتح. أنهم هم الذين صرخت بهم ساخطاً: "أفي كل يوم
تحت ضبني شويعر؟" والذين سيتولى الزمن بنجاح الاقتصاص من رغائهم العابر وطبول
حضورهم الكاذبة.
تشبّث بحمّاك أيها الجد الأكبر. فهي لم تصب منك غير ما تصيبه الخدوش من جسم الجبل.
وهي ليست شيئاً يذكر ازاء "حمّى الوادي المتصدع" التي تضرب روح ثقافتنا العربية
المعاصرة في الصميم، والتي لا
نعرف حتى الآن سبيلاً للتخفف من عذاباتها الثقيلة وأنيابها السوداء.
أبحـث عنـك..
ابحث عن مدينة جدرانها غير ملوثة بشعارات حمقى رسموها بأيد ملطخة بدماء جيرانهم.
ابحث عن مدينة لا ترتع فيها الجرذان ويموت الإنسان.
ابحث عن مدينة عاقلة، لا تُكرّم جلاّدها وتحمله على ظهورها كالقردة في مواكب
الهذيان.
ابحث عن مدينة لا نحملها إلى المنفى داخل حقائبنا حين نرحل، بل نحرق حقائبنا أمام
أبوابها حين نعود إليها.. أبحث عن مدينة لها ثائر حقيقي لا ينكرني ثلاثاً قبل
صياح الديك ويبيعني وقومي بدرهم فضة، بل يعيد إلىَّ يقيناً فقدته، ويعيد لمدينته
شمسها المخطوفة.
ابحث عن مدينة لا يحيا الموت سعيداً فيها ومتوّجاً على دموع الأطفال.
فهل اسم هذه المدينة بيروت؟.
غادة السمان
|
|||
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق