الجمعة، 6 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الخامس ) - وجوه - الشاعر : موريس قبق ( يوسف الحاج )

مجلة السنونو ( العدد الخامس ) - وجوه
الشاعر : موريس قبق ( يوسف الحاج )

تحديث الخطاب الشِّعري

قراءة مختلفة عن عام 1962

يوسف الحاج
 
          مَرَّ شهاباً عَبَرَ البرزخ بين المجرَّة والأَرضِ عانق أَرضنا وتركَ فيها أَثراً واضحاً باقياً يدلُّ على تاريخ الشِّهاب المتمِّيز عن الشُّهبِ والنيازكِ؛ معتقداً ومؤمناً أَنَّ: الجسدَ قُبَّةُ الرّوح؛ لذلكَ اختار لديوانه الأَوَّل عنواناً دالاً على التعالقِ مَعَ نصوص القصائد وأَطلق عليه : "الحبُّ والَّلاهوتُ" وحقَّق مقولة أَدونيس قبل النطق بها وكتابتها:
          "عِشْ أَلقاً وابتكرْ قصيدةً وامضِ
          زِدْ سعة الأرضِ".
          وليسَ عن عبثٍ إنه أطلق على ابنه الوحيد اسم: أَدونيس وعلى ابنته الوحيدة اسم: مانيا... لقد سبرَ طبقات ثقافته المتموضعة طبقةً فوق طبقةٍ من التراكم المعرفيِّ. أَدونيس في الأُسطورة كانَ الإله المخلِّصَ الراعي... وماني جاءَ من حدائق النورِ والنَّارِ وقضى شهيداً!
          ثقافة الشاعر موريس قبق مستمدَّة من أَعماق التاريخ الأَرضيَّ لأُمَّتنا وحضاراتنا البحريَّة والنهريَّة من فينيقيا البحرِ إلى حضاراتِ أَرض السَّواد التي تتالتْ على وادي الرافدين من سومرَ إلى بابلَ وآكادَ وأَشورَ وكنعان الداخل... في فلسطين. هل ثمَّةَ علاقة عضوية بين الذات المبدعة والأُمَّة المبدعة؟ " الفرد لا يبدعُ إلاّ داخل خيمة الإبداع القوميَّة. والشاعر مفردة في جملة اللغة والأُمَّة، وإذا حدث تلاحم بين الذات والأُمَّة واللغة جاءَ الإبداعُ حينئذ. وهو هنا ائتلاف عضويّ يتأصَّلُ بوساطة الاختلاف الواعي لهذه العلاقة التلاحميَّة وشروط التجاوب معاً اختلافاً وائْتلافاً.
          والحداثة في هذه الحالة ليست خروجاً وفراراً عن اللغة ولكنَّها إمعان في الدخول وإمعان في الغوص وإمعان في التأَصُّل: ذلك أنَّ الحداثة الشِّعريَّة في لغة ما، هي أَوَّلاً حداثة هذه اللغة ذاتها. فقبل أن تكونَ حديثاً في الشِّعر أَو قديماً يجب أَوَّلاً أن تكونَ شاعراً ولا تكونُ شاعراً في لغة ما إلاَّ إذا شعرتَ وكتبتَ كأَنَّكَ أنت هي، وهي أَنتَ. ليس "أَنت هي" فحسب، لأَنَّ هذا أئتلاف مُفرط، وليس "هي أنتَ" لأَنَّ هذا اختلاف مفرط، ولكنَّ الاثنتين معاً: أَنت هي، وهي أنتَ!
          وهنا سوف يتساوى الصوتان، لو نظريّاً ـ ونحن هنا في مجال التنظير طبعاً ـ فالصوت المفرد لا يتفرَّدُ إلاَّ ليجتمعَ، وهو لا يجتمعُ إلاَّ ليتفرَّدَ. وفي كلمات أَدونيس "فأَن يكون الشاعر العربيُّ حديثاً هو أَن تتلأْلأَ كتابته كأَنَّها لهبٌ طالعٌ من نار القديمِ وكأَنَّها في الوقت نفسه نار أُخرى(1) " .
          هذا الكلام التنظيري ينطبق على أَدونيس وموريس والسيَّاب وأَمل دنقل ومظفر النَّواب ونزار قباني وخليل حاوي كروَّادٍ للحداثة بعد أَن وصلتْ خيولُ الشِّعر السَّلفي العمودي إلى نهاية الشوط مع بدوي الجبل والأَخطل الصغير والجواهريّ؛ ولن أَنسى أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيَّاد ونازك الملائكة وفدوى طوقان وسعاد الصباح إنَّ قراءَة موريس قبق عام 2004 تختلف عن قراءَته عام 1962 مستفيدين من تيَّارات النقد الحديث وثورة الشكل لقصيدة التفعيلة التي كانت اجتراحاً وصدمةً قويَّة للقالب القديم المنبريِّ مع استيعاب التراث واحتوائه فلا شيءَ ينبغُ من عدمٍ... والنار الكونيَّة لكلِّ الأُمم... فالثقافات المتعدِّدة روافد للإبداعِ ونحن جزء من هذا العالم نتفاعلُ معه ونفعل به إن استطعنا أن نكون فاعلين لا مقلِّدين ومُحاكين فقط.
 موريس قبق واحدٌ في سربٍ وله في المربَّعِ الحمصيِّ ركنٌ وزاويةٌ إلى جانب وصفي قرنفلي، وعبد الباسط الصوفيِّ وعبد السلام عيون السُّود... والزاوية ركنُ العارف الكاشفِ الذي شاهد الرُّؤْيا فكتبَ عنها ولها وبها ومن مر يديه الشاعر أَحمد دحبور(2).
          كتب موريس قبق إِضاءةً لقصيدة: العلقم البديُّ: "جنسنا البشريُّ غده يقفز فوق جرف، ويستعجلُ السقطةَ.. وسدنة معابده يحرقون البخور في خوذ الحربِ، ويشتَمُّونَ أَرج الأَعشاب الطفيليَّة في مستنقعِ الموتِ... وهم مستريبون. أَمَّا أنبياء عصره، حفدة جوبيتر، فنرجسيُّون.
          لماذا إذن لا يستنفرُ الضمير العالميُّ، ويستردُّ ورقةَ نعيهِ قبل أَن يتلقَّفَهُ سرداب العدم...!؟
 
 
 
 
1-    "عدنا                                          
كهفُ رمادٍ أَزليٍّ..
معبدٌ غاوي حروفاً في شفه
هنَّ والتجديف سُبْحاتُ إِلهٍ
حجريٍّ
ومسوخٍ مُقْرِفه..
2-    وأَباطيلُ استلانتْ وثنيّاً
وحَواريّاً،
أَسيرَيْ مجرفه
3-    وتوابيتِ رصاصٍ
تتباهى
     أَنَّها ساحلُ جُزْرٍ مورِفه...
4-    إنَّها طِلَّسْمُ عرقٍ بربريٍّ
يتأَبَّى
     رِحلةً مُستكشِفَهْ
5-    أُيُداجينا سدينٌ مستريبٌ
حسُّهُ
     ليلاتُه مُستنزَفَه..؟
6-    ويغذِّينا
شروسَ العلقم البريِّ
آمينَ صلاةٍ مُسرفِه؟
7-    أَبداً ينقعُنا في حوض كبريتٍ
يصفِّينا...
فيغدو زعنفه
8-    مالنا
نخض على الثلج ونعرى...
آنَ لا يُكري نبيٌّ معطفه!؟
9-    غدنا عَشْرُ وصايا تتناهى
في هيولى الوحلِ
تعنو مدنفه...
     10- سقطةٌ تستعجلُ الهوًَّةَ
          دنيا المهبِط السريِّ
          دنيا مُتْرَفه..(3) !
          في الإِضاءَة رعبٌ يستشرفُ الآتي، يعي الحاضرَ وأَحداث هيروشيما وناغازاكي ليست بعيدةً، وما وقعتُ في عهد عادٍ وثمود. السَّدَنة يحرقون البخورَ في خوذ الحربِ. من مستنقع الموتِ يأْتي شميمُ الأَعشاب الطفيليَّةِ السَّدنةُ مُستريبونَ ليسوا على يقين. النرجسيَّةُ لا ترى إلاَّ ذاتها ولا تنظرُ إلى السِّوى. دعوة الضمير العالمي ـ الكون ـ للنجاة بالسَّلامِ من سراديب العدم... في نصِّ القصيدة: إلهٌ حجريٌّ لا يحسُّ ولا يتأَلَّمُ... والطلَّسْمُ المغلقُ آتٍ من عرقٍ بربريٍّ... يرفضُ استعمالَ مفتاحَ الكشفِ..
العلقمُ البريُّ غذاءُ البشريَّة. وتأْتي آمين في نهاية الصلاة المسرفة، ومعناها: استجبْ ياربّ! فهل يستجيبُ الربُّ الحجريُّ الباردُ لعذابات البشريَّة وأَربابُ العصر وأنبياؤُهُ نرجسيُّونَ؟.
حوض الكبريت... هذا التعالقُ النصيِّ مع مفردات خليل حاوي... الوصايا العشر في هيولى الوحل إِشارة ودلالة ومفتاح يؤَدِّي إلى مشهد مأْساة الشعب الفلسطينيِّ في أَرضِ كنعانَ ذاتها.
السَّقطةُ والهوَّةُ والمهبط السرِّيُّ إلى أَين...
إلى الإِضاءَة نعودُ: إلى سرداب العدمِ...
فهل يتغلَّبُ العدمُ على الوجودِ وجودِ الجنس البشريِّ بأَعراقه كافَّةً؟
ولا غرابةَ أَنْ يفتتحَ الشاعر القصيدة التالية:
توابيت الحضارة:
" تصطكُّ فوقَ جيلنا حوافِرُ الغيلانْ
... تسحقُهُ... تقيءُ فوق لحمه القديدِ سيل القيحُ والقطرانْ"
قصائدُ موريس دعوةٌ ونبوءَةٌ في آن.
وحدسُ الشاعر نبوءَةٌ يترتَّبُ عليها وبها الدعوة إلى الأَجمل... هل الشِّعْرُ خشبةُ خلاصٍ في اصطخابِ أمواج بحر ذَرِّيٍّ لا يُبقي ولا يذرُ... مهدِّداً بفناءِ وجود العالم... وبذرةُ فنائه كامنةٌ فيهِ... فهل ينجو السَّدَنةُ من شرورهم...؟
لقد رأَى الشاعر ما حدثَ في أفغانستانِ... في فلسطين المحتلَّةِ... في الكويتِ... وفي العراقِ... هل الشِّعْرُ له صفةُ النبوءَةِ...؟ هل يَرى ما لا يُرى، مالم يحدثْ وسيحدثُ ما دامتْ خُوَذُ الحربِ جاهزةً لإحراقِ البخورِ وللبخور دلالتانِ: تطهيرُ المعابدِ من الشَّياطينِ بطردها... وَلُهُ الدلالةُ الوثنيُّةُ والمسيحيَّةُ... أَليسَ الضميرُ المسيحيُّ الغربيُّ مسؤولاً عن الحرب الكونيَّة الأُولى والثانيَّة... وخلق دولة إسرائيل؟ فهل تَصَهْيَنَ الدينُ المسيحيُّ الغربيُّ... وها هو يواجهُ البدعَ الشيطانيَّةَ على أَرض لبنانَ الذي تعرَّضَ لاجتياحٍ رهيبٍ أَدَّى إلى انتحار الشاعر خليل حاوي صيف 1982...!
أَنْ تحترقَ لتضيءَ الأثيرَ والأَرضَ هذا مشروعُ الشِّعْرِ.
أَنْ تنتحرَ احتجاجاً على الاستلابِ والقهر يبقى احتمالاً للرحيلِ والولادة الثانية.
أَنْ تكتشفَ أَبجدَّيَتكَ وتشتغلَ عليها وبها ولها هذا دورُكَ كمبدعٍ أَصيلٍ لا دخيلٍ توهَّمَ الميلَ واكتفى!
توقَّفَ موريس قبق عن النشر صيف 1962...
تَوَهَّمَ البعضُ أَنَّهُ انتهى ولاذ صونُهُ بالصمت...
المفاجأَة كانت إنتاج ديوانه الثاني: شهيد النهد الأَسود ـ وقد أَوصى بطباعته بعد انتقاله من هذه الحياة الدُّنيا... وأَعتقدُ أَنَّهُ سيصدر في الزمن الآتي دون تحديدٍ. أَبجديَّةُ موريس كبصمتهِ كسماته الجميلة؛ لكون عينيه الحادَّتين كعيني صَقْرٍ يبني ملاحمه في تلل الجبالِ. صوتُهُ الشعريُّ مُتميِّزٌ عن أَصوات مجايليهِ من الشُّعَراءِ: عبد الباسط الصوفيِّ، وخليل حاوي. مدرسة تموُّزيَّة قائمة بذاتها لذاتها. تقتربُ وتبتعدُ عن مدرسة الشاعر نزار قبَّاني؛ تقتربُ منها في قصيدة الغزل، وتبتعدُ لتغوصَ فــي
 عمق الأَساطير لتكتشفَ: مولوخ وهو "إلهٌ ذكرٌ كان نسل صور يتعَّبدُهُ.. عاينَ المؤَرِّخ سترابون تمثاله في أحد معابدها حوالي 450 ق.م:
          مولوخٌ.. معبودُ الشَّهوه
          محصولُ عباداتِ الأَجسادِ، ديانات الجنس العاهرْ يتعرَّى.. يُبرزُ أردافاً لَسَعتْهاأَسواطُ النزوه يغزو غاباتٍ، يتحرَّى أَحواضَ صديدٍ ويكابرْ يتسلَّقُ أَعناقَ الأَرحامِ، ويُودِعُها أُنثى، ذكراً لا أَيّاً كانْ.
          ولهتُ صورُ.. فسقَتْ في قلب معابدها حتَّى الكُهَّانْ
قلعتْ نهداً فجّاً
          نهداً رِخواً
          أَقعتْ فوق بطون النسوه
          زخماً كانتْ صورٌ.. خصباً.. نسلاً حرّاً
          ما عانى حسّاً منطمساً.. سأَماً مُرّا (4)
          أَين موريس قبق بعد أَربعين عاماً على إصداره ديوانه الأَوَّل؟ هل انضمَّ صوتُهُ إلى أَصواتِ امرئ القيس، وعمر بن أَبي ربيعة، وأَبي نواس، والمتنبِّيِّ... الذي لبسَ أَدونيس قناعه ليحقِّقَ مخطوطةً نسبتْ إلى المتنبيِّ وأَبدعها أَدونيس حين يلتحمُ الوجهُ بالقناعِ وأَخرجها إلى النور في ثلاثة أَجزاءٍ تحت عنوان: الكتاب... ولو لم يكتبُ أدونيسُ إلاَّ الكتابَ لاستحقَّ أَن يكونَ مالئَ الدنيا وشاغلَ الناسِ. فهل يرفضُ المجتمعُ مشروعَ التحديثِ كي تقتصرَ الحداثةُ على نخبويَّةٍ اصطناعيَّةٍ في مُعظم الحالات؟ وبانتظار صدور الديوان الثاني لنا عودةٌ على بدءٍ. أََيُّهذا الطريقُ الذي يرفضُ أَنْ يبدأَ/ أَيُّهذا الطريق الذي يجهلُ أَن يبدأَ(5) !
تنويـه   
تصدَّرت الديوان كلمات موجزة للأديب مدحة عكَّاش، الأَديبة غادة السَّمان، الشاعر علي الجندي تلتها مقدمة الأَديب الشاعر كمال أَبو ديب.
 

الغلاف والرسوم الداخليَّة   بريشة: أَحمد دراق .

 

الخطّ                        بريشة: جورج راهب.

            يحتوي الديوان خمس عشرة قصيدة.
          عدد صفحاته 112
          قياس: 17 x 12

طباعة  خاصَّة على نفقة الشاعر...

ملاحظة:    سيطبعُ الديوان طبعةً ثانية تلبيةً لرغبة الذين سمعوا أسمه ويحبُّونَ الاطِّلاعَ على شعره من شعراء وشاعرات مبدعات!. 

 

مجلة فصول ـ العدد الثاني ـ المجلَّد 16، خريف 1997 ص 13.
مقدِّمته لأَعماله الكاملة ـ دار العودة 1983.
 (4)  قصيدة مولوخ، ص 59-63 تاريخ 22 نيسان 1961.
(5)   أَدونيس، الآثار الكاملة. 1/467 دار العودة ـ بيروت 1971.
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق