مجلة السنونو (
العدد الخامس ) -
قصة قصيرة
|
قصتي
مع السنونو ( كامل دعدوش )
|
لدى
كلِّ إنسان محطاتٌ مهمة في حياته، ساهمت في تكوين شخصيتة أو تحديد مستقبله، وقليل
من الناس من يكون واعياً لذلك خاصةً إذا كانت تلك المحطات في مراحل الطفولة.
وأعترف أنَّ الذي حبّب إليَّ الأدب عموماً والشعر خصوصاً كتابُ (المختار)
الذي كان مقرراً للصف السادس بداية المرحلة المتوسطة، وقد تضمن هذا الكتاب ملخصاً
لقصة "الأمير السعيد" للكاتب أوسكار وايلد، وقد أدهشتني تلك القصة واستحوذت على
مشاعري على الرغم من الصورة الحزينة البائسة التي رافقتها! وقد تكرّس لديَّ هذا
الحبُّ حين قرأتها باللغة الإنكليزية في المرحلة الثانوية، ومن ثم حظيت بها مترجمةً
إلى اللغة العربية مع قصص أخرى لهذا الكاتب الكبير.
والأمير السعيد أمير مقاطعة صغيرة عاش في قصره حياة البذخ والترف واللهو،
وقد ارتفعت أسوار قصره مما حال بينه وبين معرفة ما يعاني منه الناس من بؤس وحرمان،
فلما مات أقامت له حاشيتُه تمثالاً مطلياً بالذهب ومرصعاً بالجواهر في إحدى ساحات
المدينة!.
وهكذا أُتيح لتمثال الأمير أن يعيش وسط الناس ويرى كلَّ يوم مظاهر البؤس
والحرمان مما حرَّك لديه مشاعر العطف والرحمة والشفقة، ولكنه عاجزٌ عن القيام بأي
عمل لمساعدة الناس ودفع البؤس عنهم، وقد عانى من عذاب الضمير ما عانى، ورغب لو
يتمكن من التكفير عن تقصيره!
وفي ليلة باردة لجأ سنونو تخلف عن سربه المهاجر، إلى بلاد النيل إلى تلك
المدينة. وسبب تخلف هذا السنونو أنَّه لحق بفراشة رشيقة الحركات، زاهية الألوان،
وأراد مغازلتها...ولكنَّها لم تبادله الغزل، وفي أثناء لحاقه بها، تعرف إلى قصبة في
النهر، ممشوقة القامة، تتمايل يمنةً ويسرةً مع النسيم وتتيه بجمالها وحسنها فعلق
قلبه بها، وأراد أن يتمادى في غزله... لكنَّه نُصح بأن هذه القصبة لعوبٌ وكثيراً ما
أوقعت في حبائلها كلَّ من أُعجب بها!.
ولما أوشك الليلُ على الانتصاف وجد السنونو أنَّ النوم بين قدميّ تمثال
الأمير السعيد خير موضع لكنَّه ما إن أستعد للنوم حتى نزلت عليه قطرةُ ماء، فعجب:
كيف أنَّ هذا التمثال الضخم لا يحميه من قطرات المطر ثم ما لبثت أن نزلت قطرةٌ
أخرى، فنظر إلى فوق فوجد السماء صافية لا غيوم فيها فدهش.. لكنه حينما نظر في وجه
الأمير وجدَّ عينيه ملأى بالدموع.. فسأله عن سبب ذرفه للدموع فحكى له ما كان منه في
سابق عهده، ثم وصف له ما يشاهده الآن: أمٌّ فقيرة تعكف على حياكة ثوب للأميرة،
وطفلها يبكي من الحمّى ويحتاج إلى البرتقال وليس عندها سوى الماء. طلب الأمير من
السنونو أن ينتزع الياقوتة من مقبض سيفه ويطير بها إلى تلك الأم لتشتري البرتقال
لطفلها المريض.
وفي الليلة التالية يرى الأمير كاتباً مسرحياً لا يستطيع إكمال مسرحيته
لأنه جائع وضعيف ويعاني من البرد وليس عنده مدفأة. فيطلب من السنونو أن ينتزع
الزمردة من عينه ويقدمها لذاك الكاتب ليشتري مدفأة.
أما في الليلة الثالثة فيرى الأمير طفلة بائسة، تبيع الكبريت في الشارع،
ولكنّّ الكبريت وقع في الماء، وهي تبكي بحرارة لأنَّ أباها سيضربها بشدّة لأنها لم
تأتِ بالمال.. عدا عن ذلك فهي تسير حافية
القدمين!
أيُّها السنونو الصغير.. هلاّ انتزعت الزمردة من عيني الثانية وقدمتها إلى الطفلة
البائسة!
وبعد أن قام السنونو بالمهمة الثالثة أدرك صعوبة المأزق الذي صار إليه الأمير
السعيد: إنَّه لم يعد يرى وبالتالي ليس في مقدوره أن يراقب الناس ويعمد إلى
مساعدتهم!
وعندئذ طلب السيد الأمير أن يراقب بدلاً عنه ويساعد!! فردَّ السنونو بأنه لم يعد
لديه جواهر ينتزعها.. فما كان من الأمير إلاَّ أن نبّه السنونو إلى أن جسمه مطليٌ
برقائق الذهب فما عليه إلاَّ أن يقتطع قطعةً بعد أخرى ويقدمها لمن يحتاج!
وهكذا نسي السنونو نفسه ونسي اللحاق بسربه وأنغمس في المهمة التي أوكلت إليه: فكلَّ
يوم يراقب ويتحرى من خلال طيرانه فوق أحبار المدينة وأزقتها، وحين يعثر على محتاج
يعمد إلى نزع قطعة من الرقائق الذهبية ويقدمها له إلى أن أستنفذ الرقائق كلها
وبالتالي بدأ التمثال باهتاً لا رونق فيه ولا بهاء!!
* * *
أقترب فصل
الشتاء فاحتلت الغيوم سماء المدينة واخترقت الريح الباردة شوارعها وأزقتها، مبعثرةً
أوراق الأشجار في كلِّ اتجاه، فما كان من السنونو إلاَّ أن لاذ مرتجفاً من البرد
بتلك الفسحة بين قدمي التمثال.
قال
الأمير: ها قد أتممت كلَّ مهماتك.. أما تفكر باللحاق برفاقك الذين سبقوك إلى وادي
النيل!؟
أجاب السنونو: إنَّ رحلتي لن تكون إلى وادي النيل بل إلى عالم الأبدية.. فهل تسمح
لي بتقبيل يدك. قال الأمير: بل يتوجب عليك أن تقبّل شفتي لأنني أحببتك فاستجمع
السنونو قواه الأخيرة وطار حتى وصل إلى كتف الأمير ثم عمل إلى تقبيل شفتيه وسقط
ميتاً بين قدميه!
وفي
اللحظة نفسها سُمع صوتٌ قوي لشيء تصدّع داخل التمثال: إنَّه قلب الأمير الرصاصي!!
* * *
في الصباح
الباكر كان رئيس البلدية يتجول في الساحة يرافقه أعضاء مجلس البلدية، فرأى التمثال
فقــال: يا إلهي كم يبدو الأمير السعيد رثَّاً! أجاب الأعضاء بصوت واحد: كم يبدو
الأمير السعيد رثَّاً.
ثم
قال: لقد سقطت الياقوتةُ الحمراء من مقبض سيفه وانتزعت الزمردتان من عينيه، ولم يعد
مطلياً بالذهب! إنَّه أفضل قليلاً من شحاذ!!
فردَّ الأعضاء بصوت واحد: إنَّه أفضل قليلاً من شحاذ!
وتابع رئيس البلدية: هناك عصفور ميت عند قدميه، يجب علينا أن نصدر إعلاناً يمنع
الطيور من الموت في الساحة! كما صدَرت مذكرةٌ عن محكمة المدينة بإنزال التمثال
والتصرف بمعدنه: لقد صرح أحد أساتذة الفن في الجامعة: أنَّ التمثال لم يعد جميلاً
وبالتالي لم يعد نافعاً!
لقد
نُقل التمثالُ إلى أحد أفران الصهر وعلى أثر ذلك عقد رئيس البلدية اجتماعاً ضمَّ
أعضاء مجلس البلدية ليقرروا ما يجب فعله بالمعدن!
وقال يجب أن نضع تمثالاً آخر وبالطبع سيكون هذا التمثال لي!
أما
أعضاء المجلس فقد قال كلَّ واحد منهم: إنَّه لي .. إنَّه لي، ولم يصلوا إلى قرار...
* * *
تساءل ناظر العمال في فرن الصهر: ما هذا الشيء العجيب: إنَّ هذا القلب الرصاصي
المكسور لن يذوب في الفرن لذلك يجب علينا أن نرميه بعيداً.. وكان ذلك فوق كومة من
النفايات حيث كان السنونو الميت مطروحاً!!
* * *
إنَّ هذه النهاية التي انتهى إليها بطلا القصة لمحزنةٌ جداً تشعرك بالجحود الذي
لقيه كلٌ من الأمير السعيد والسنونو. إنَّ أوسكار وايلد يصوّر واقعاً يتخطى حدود
الزمان والمكان ويكشف عن عدالة البشر الناقصة وقصور نظرتهم إلى الأشياء!
بيد
أنه لا يُسدل الستار قبل أن يردّنا إلى شيء من الأمل.. وشيء من العزاء:
قال
الربُّ لأحد ملائكته: أحضرْ لي أغلى شيئين في المدينة: فأحضر الملاك القلب الرصاصي
والسنونو الميت.
قال
الربُّ: لقد أحسنتَ الاختيار:
سيظل هذا الطائر الصغير يغردُ في حديقتي إلى أبد الآبدين وسيكون قلب الأمير في
مدينتي الذهبية من المقَربين، الذاكرين فضلي، والمسبحين بحمدي!
* * *
في
ميزان الأخلاق.. من الذي ترجح كفته؟
أوسكار وايلد.. أم الأمير السعيد أم السنونو؟!
إذا
كان الأمر كذلك فان فريقاً من الناس يشطب اسم الكاتب من هذا الميدان لأنه ـ كما هو
شائع ـ كان شاذاً!!
غير
أن كفته ترجح في ميدان الفن.. وكم هو غريب أن يكون عطاءُ الشذوذ هذا الكمالَ الفني
وهذا الإبداعَ النادر!!
بيد
أننا إذا رجعنا إلى اللاعبين الآخرين فإننا نرجّح كفة السنونو في ميزان الأخلاق على
كفة الأمير لأن الأمير أقدم على فعل الخيرات تكفيراً عن تقصيره في التعرف إلى حياة
الناس في مدينته الذين عاشوا شظف العيش ومرارة الحرمان فكأنه يدفع ثمن حياته
السابقة. أما السنونو فقد استجاب لفعل الخير كابحاً في البداية نزوعه الغريزي للحاق
بسربه لأن الفعل الأخلاقي فعل خيار بين خير وشر أو بين خيرين أحدهما أسمى مرتبة من
الآخر وهو قد أختار الأسمى وتطوع أن يكون خادماً لفعل الخير ولو قلنا إنَّ قبوله في
المرة الأولى نزوةٌ تنطوي على حب الفضول فإن استمراره في المرات التالية دلَّ على
طبيعة سويّة وإرادة خيرة.
كما
أنه حسم خياره عندما أدرك صعوبة المأزق الذي آل إليه الأمير السعيد.. فتطوع أن يكون
السيد والخادم معاً!
* * *
لطالما نظرت
إلى قصة الأمير السعيد على أنَّها قصيدة لرقي مضمونها ولعلو مرتبتها في مجال العمل
الفني والخيال والرقة والإحكام:
فلقد أُعجبت أيما إعجاب بهذا المخرج الذي جعل السنونو يتأخر عن سربه وكان على
مرحلتين:
الأولى عندما لحق بفراشة رشيقة وأراد أن يغازلها فهذا أقرب إلى طبيعة السنونو
فكلاهما ذو جناح ولكن الفراشة لا تستقر في مكان واحد، وهنا جاءت المرحلة الثانية
عندما علق قلبه بالقصبة اللعوب، فالقصبة ثابتة ويمكن أن يظل بقربها غير أن القدر
كان يهيئ السنونو لعمل آخر أعلى مرتبة من مغازلة تحصل كلَّ يوم آلاف المرات لذلك
جاء التنفير منها بأنها لعوب.
هذه
الدقة في اختيار الحلول، وهذا الإحكام والربط بين الطوباوية الصافية والواقعية
الغارقة في الطين ليس له مثيل خاصة في النهاية الصارخة بالواقعية التي خفف من
آثارها السلبية إدخالُ العنصر الميتافيزيكي على الخاتمة!
وهذا ما حملني على تصور تلك القصة كما لو كانت لوحة من الفسيفساء بالغة الدقة، بهية
الألوان، جامحة الخيال، سامية المضمون!
ولعل إعجابي الشديد بها هو الذي دفعني في بداية حياتي التعليمية إلى اختيارها في
بداية الستينات موضوعاً من مواضيع التعبير للصف الخامس وكان ذلك مفاجئاً للطلاب
الصغار، وللزملاء، وللأستاذ المشرف.
لقد
أحسنتُ سرد القصة بلغة سليمة بسيطة وبلهجة شائقة وبتعبير تشخيصي استخدمت فيه تعابير
الوجه وحركة الجسم واليدين مع التلاعب بدرجات الصوت!
لقد
استحوذت القصة على مشاعر الصغار وجعلتهم يتفاعلون مع الأحداث بجديّة، وبانتباه
متصل، فكانوا جميعاً في واحد! أما الأستاذ المشرف فقد عبّر عن إعجابه بالدرس أيما
إعجاب، وأكبر الظن أن إعجابه بالأداء والأسلوب والتقنيات أكثر من إعجابه بالمضمون،
لأن انتماءه الإيديولوجي يجعله يصنف هذا النوع من القصص مع الأدب البرجوازي أو
الطوباوي الذي يخدّر المشاعر ويحول بينها وبين الثورة كأداة للتغيير وحيدة!
لقد
سبقنا هذا الأستاذ إلى طور آخر من أطوار وجودنا قابضاً بكلتا يديه على اليقين الذي
نفتقر إليه!! فليرحمه الله.
* * *
لم
يكن السنونو مثالاً للتضحية والإيثار فحسب بل كان مثالاً للذكاء والخفة والرشاقة،
وأذكر أنني في عام 1975 وفي مقال لي عن الشاعر زكي قنصل وسمت قلم نهاد شبوع النقدي
بهذا الوسم فقلت " وستجد، في كلمتها، النقد مكتوباً بغير لغته المعهودة بل بلغة
شعرية، هي من صنع كيمياء عواطفها وأعصابها واحساساتها المرهفة، وقد يُخيل إليك
أنَّك بازاء طائر يحوم فوق شاطئ البحر لينقض على فريسته بسرعة ومهارة، ولكنَّ
طائرنا، ههنا، ما إن يقترب من فريسته، فيلمسها حتى يبتعد ليناور بذكاء وخفة وكأنه
لا يريد الصيد وإنَّما يدلُّ غيره عليه!! ".
* * *
أمَّا وقد صار
السنونو اسماً لمجلة غير دورية تلتزم بالحفاظ على جسر المودة بين وطن مقيم وأركان
الاغتراب لتبقى الأغصان والفروع.. على صلة بالجذور الدافئة المعطاء، فقد استكمل هذا
السنونو كمالاته! كلَّ صفاته الحميدة الرائعة.
فهنيئاً لكَ يا سنونو!
وراجياً أن
يكون لكل تمثال في بلادي سنو نو واحد. وهذا كسب ليس باليسير!!.
*
* *
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق