الأحد، 29 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد التاسع ) - دراسات الظاهرة الجبرانية ( بقلم: وديع فلسطين )

مجلة السنونو ( العدد التاسع ) - دراسات
الظاهرة الجبرانية ( بقلم: وديع فلسطين )

الظاهرة الجبرانية
بقلم: وديع فلسطين
 
((الظاهرة الجبرانية ظاهرة محيرة, لأن الذين زاملوه من أدباء المهجر, وسبقوه إلى دراسات جامعية نظامية, وخرجوا على الناس بأساليب وآراء فيها من التجديد ما نلقى مثله عند جبران, لم تظفرهم الحياة بمنزلة عالمية منزلة جبران, ولا بلغت شهرتهم سعة كالتي بلغتها شهرة "جبران على النطاق العالمي" وأنا شخصياً اوثر ميخائيل نعيمة على جبران, واراه أشرق منه ديباجة  واصح لغة وأنضج آراء وأدق منهجية واسلم منطقاً, ثم هو لا يقل عنه اتقانا للغة الإنكليزية وكتابة بها, ومع ذلك فإن جبران أصاب من الحظوظ أكثر بكثير من رفيقه نعيمة الذي لم يبلغ مبلغه على الصعيد الفكري العالمي, مع أن الله مد في عمره إلى ما يقرب من ضعفي عمر جبران.
            ولكن جبران ظاهرة, والظواهر لا تخضع دائماً لتعليل منطقي, لأن هناك عوامل كثيرة تدخل في تكوين الظواهر ويؤدي اجتماعها إلى بروز ظاهرة. وسنحاول في هذا الفصل أن نرصد أسباب هذه الظاهرة الجبرانية التي حملت أكبر هيئة علمية في العالم, وهي منظمة اليونسكو, على دعوة الدول من أعضائها إلى تمجيد ذكرى جبران خليل جبران في عام 1983 تقديراً منها لهذا الأديب الفذ المحسوب أميركياً لأنه عاش أخصب عمره ومات في أميركا, والمنسوب إلى لبنان حيث ولد ودفن, وحيث يذكر اسمه بالاجلال إن لم يكن بالقداسة.
            فمن عوامل الظاهرة الجبرانية أن جبران خليل جبران  زاوج بين الفن والأدب والروح, وجعل من هذا المزيج "اكسيراً" للحياة. فهو إذ يكتب عن الحياة المثلى, يخوض في سبحات روحية, ويتملى معاني الأدب وأساليبه, ويضيف إلى هذا لمسة من فنه الذي له بدوره خصائصه الجبرانية المتميزة.
            فقراءة جبران هي جولة ذهنية وروحية ووجدانية في معارض من المطارف الأدبية التي تستهدف قيماً عليا, ومن حسن الحظ أن أمثال هذه الكتابات تحتفظ بحيويتها الجمالية عند ترجمتها إلى اللغات الأجنبية, على النقيض من الشعر الذي تفقده الترجمة القدر الأكبر من جوانبه الجمالية والبلاغية والموسيقية, وتحيله إلى جسد بلا روح, وطعم بلا مذاق, وهكذا استطاع جبران أن يغزو عقول قرائه في الغرب, وإن يتسلل إلى قلوبهم, وأن يستثير فيهم نوازع الجمال والسمو.
            ومن أسباب الظاهرة الجبرانية أن جبران قد استوعب أولاً فلسفة "نيتشة" وهي أعقد فلسفات الغرب, وتذوق فن "بليك" و "رودان" وتعمق في الدراسات الدينية, فتكون لديه ذهن غربي السمات, دون أن يفصل عن منابته العربية. فجاءت كتاباته مستهوية للغرب وللعرب في آن واحد, فلا هو قد صار غربياً مئة في المئة, وإنما استطاع أن يوفق بين الجوين و التراثين والاتجاهين والاسلوبين في معادلة فكرية جميلة اخاذة فما زال "سحر الشرق" يستهوي الغرب, ومازالت الدنيا جميعاً تدين للشرق بكل القيم الانسانية والروحية والدينية. ولهذا استطاع جبران بمعادلته الذكية ــ دون افتعال ــ أن يظفر بإعجاب القراء في كل أرض.
           
وثمة سبب آخر لهذه الظاهرة الجبرانية هو أن جبران انشغل في المقام الأول بأمور الانسان, حياته ومشكلاته واهتماماته وعواطفه ودنياه وأخرته وهي موضوعات لا تبلي جدتها كما أنها عالمية في جوهرها ومن هنا كتب لأدبه أن يعيش إلى الأبد, وأن يجد الناس في كل أرض وفي كل جيل جديداً في أدب جبران, فيقرأونه ويستعيدونه, ولا يملون صحبته. ودع عنك أن بعض ذوي الأطوار الغريبة يقرأون أدب جبران ضمن شعائر شبه دينية اعتقاداً منهم بأن جبران كان من طراز "السوبر مان" أو الإنسان المستعلي على البشر.
            ومن مقومات الظاهرة الجبرانية أن جبران كان في أدبه معتداً بذاته اعتداد الواثق من نفسه, ولو عارضته الدنيا جميعا. فعندما عيب عليه اسلوبه الجبراني الذي يتساهل في تركيباته ويتبنى له قوالب غير عربية, قال لناقديه: " لكم لغتكم ولي لغتي "!
            وكأنما أراد أن يقول لهم أن اللغة كائن
حي متطور, فان لم تأذنوا لي بالتجديد فيها, فابقوا على جهودكم, واتركوني انطلق بلغتي على هواي.
            ومن هذا القبيل أيضاً قوله لمواطنيه عندما انتقدوا بعض آرائه الجريئة: " لكم لبنانكم ولي لبناني ". وهنا أيضاً أراد أن يقول لأبناء جلدته ما معناه أن لبنان أن ضاق بآرائي و منطلقاتي. رجل اعتداده بنفسه, لا يستغرب منه أن يفتن العالم من حوله والعالم البعيد عنه. والغريب أن لبنان الذي استهجن آراء جبران المبثوثة في بعض كتبه وصادرها في حينها, قد أصبح اليوم ناشراً لكتب جبران ومنتفعاً من دخلها الوفير.
            ولأن جبران كان مفكراً حراً, وليس كاتباً يؤجر ويشتري وتسام ذمته في أسوق النخاسة, فقد اكتسب احترام لبنان حتى وهو يهاجم بعض ما لم يعجبه من نواميسه وتقاليده وموضوعاته.
            ثم أن جبران آثر أن يسلك في أسلوبه وفي آرائه وفي مذاهبه مسلكاً منفرداً غير متكرر, فأكسبته هذه الأصالة خلوداً لا يتأنى للمقلدين والمحاكين..
            فان وصف أسلوبه " بالاسلوب الجبراني " وعباراته " بالجمل والعبارات الجبرانية " فما ذلك إلا لأنه اختار الإبداع على الإتباع و التجديد على التقليد, فلا وجد قبل جبران شبيه به, ولا نجح بعده من اجتهدوا في تقليد اسلوبه. وظل هو مستأثراً بهذه المنزلة الرفيعة.
            و الغريب في جبران أن كتاب سيرته ــ ومنهم ميخائيل نعيمة نفسه ــ حاولو أن يجعلوا من جبران رجلاً عادياً, وساقوا من حوله حكايات وقصصاً عن غرامياته وارتباطاته النسائية عساهم بذلك ــ وأن لم يقصدوا ــ ينزلون جبران من منزلته الأدبية والروحية. ولكن هذه الكتابات لم تزد جبران إلا ارتفاعاً لأن الناس ارتأوا أن جبران, برغم ضعفه البشري, إنسان عظيم ومفكر مرموق وصاحب رسالة روحية سامية. ولم يزعم جبران أبداً أنه تجرد من انسانيته أو أنه معصوم من الخطأ, بل أن رسائل جبران التي نشرت, ما كان منها موجهاً الي الأديبة مي زيادة أو إلى سواها, حتى وإن قيل أنها رسائل حب, إلا أنها قد صيغت كلها باسلوب عفيف مترفع يدل على أن الحب عند جبران عاطفة تتأبى على الابتذال , حتى وأن جرت الرسائل همساً بين اثنين.
            ومن مجموع هذه العوامل وسواها تكونت الظاهرة الجبرانية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في القارات الستة, حتى أن لبنان أصدر طوابع بريد تذكارية تحمل رسم جبران, حتى أن صوره

ورسومه موزعة في متاحف الدنيا, وحتى أن اليونسكو أثبتت في محطاتها الرسمية أن جبران هو المؤلف العربي الذي يتصدر قائمة الأدباء الذين ترجمت آثارهم في معظم دول العالم.
            ولا يسع المرء إلا أن يسأل سؤالاً يعن للخاطر: ترى لو بقي جبران في لبنان ولم ينزح مع أسرته إلى العالم الجديد, افكان يصيب في حياته من أسباب المجد ما هو ناعم به في مماته بعد أكثر من خمسين سنة من وفاته, أم أنه كان يعيش ويموت مغموراً, ولو أدرك أيامنا هذه لمات تحت انقاض العمائر المتهاوية منسياً مهملاً؟. ومع أن هذا السؤال يستند إلى رجم بالغيب, أو إلى افتراض لا تعرف نتيجته الصحيحة, إلا أنه من المؤكد أن شخصية جبران الفريدة قد تكونت من احتكاك الحضارتين والثقافتين والبيئتين, وهو احتكاك حققته له الهجرة إلى اميركا ثم الرحلة إلى فرنسا. فالظاهرة الجبرانية هي ثمرة تلاقح فكري ذكي بين الشرق والغرب وبين الروح والمادة.
            وثمة سؤال آخر يعرض للذهن, مادامت الظاهرة الجبرانية هي ثمرة تلاقح بين الشرق والغرب فكيف لا تطالعنا في كل يوم ظواهر أخرى جديدة, والاحتكاك والتلاقح متصلان بين الشرق والغرب بفضل الهجرة المتصلة إلى يومنا هذا؟. وهو سؤال تفرض وجاهته نفسها على المفكر, ولكن الرد عليه يكون بايراد نماذج ناجحة في يومنا المعاصر للتلاقح الفكري, فهناك الدكتور فاروق الباز المصري الاميركي الذي يدير برامج ريادة الفضاء في الولايات المتحدة. وهناك الدكتور مجدي يعقوب المصري الانكليزي الذي يعد أكبر أطباء القلب بالعالم, وهناك جرير عبد المسيح حداد السوري الأميركي الذي يعد من كبار مخترعي أجهزة الكومبيوتر في العالم, وغيرهم وغيرهم. وهؤلاء وأمثالهم يعتبرون بدورهم ظواهر فريدة في عصرنا.
            ومادامت الامم المتحدة ممثلة في وكالتها الثقافية المتخصصة وهي منظمة اليونسكو قد شملت ببركاتها الذكرى الجبرانية, وجعلت منها مناسبة للاحتفالات العالمية, فخليق بالعرب أن يكونوا اسبق في الحفاوة بهذه المناسبة من بلاد الهند والسند, وخليق بلبنان الملطخ بدماء أبنائه أن يتدبر الرسالة الروحية لجبران, وأن يعمل على انقاذ أرواح القتلى المتساقطين كل يوم, فقد يكون بينهم عشرات من أمثال جبران, وبل من يفوقون جبران, لولا أن بكر اليهم الموت بالصواريخ والعنقوديات!
            وثمة حقيقة مؤكدة لا بد من ايرادها في هذا المقام, وهي أن السر الأول في "تفجر" عبقرية جبران وبلوغه هذه المرتبة العالمية هو الحرية الطليقة التي نعم بها في مهجره, فهيأت له أن يتطور فكرياً وفلسفياً وروحياً, ووطأت له أن يحلق في سماء المجد ناشراً ضوءه الساطع على الدنيا بأسرها. فلو كان هناك قريب يبطش بما يكتبه جبران حذفاً وهلهلة, بل اضافة, كما يفعل سواد الرقباء, ولو كانت هناك قيود مفروضة على حريته وعلى تفكيره, لانتهى قبل أن يولد هذه الولادة الفكرية العبقرية, ولصار في أمعات الناس مجهولاً غبياً. فلنعتبر بالظاهرة الجبرانية التي هي في حقيقتها نقلة عربية إلى أبهاء الخلود العالمية
****
 
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق