مجلة السنونو (
العدد التاسع ) -
ادب وفن
|
|
مصطفى
الحلاج - أيقونة في الحفر العربي المعاصر ( عبدالله أبو راشد )
|
|
مصطفى الحلاج
أيقونة فن الحفر العربي المعاصر
عبدالله
أبو راشد
الدخول في
عوالم الفنان التشكيلي العربي الفلسطيني (مصطفى الحلاج) الفنية الابتكارية, يعني
الابحار في مساحة واسعة من العطاء الدؤوب والمستمر في فضاء الفن التشكيلي العربي
عموماً والحفري (الغرافيكي) الفلسطيني على وجه الخصوص, لها من العمر ما يزيد عن
خمسة عقود من الزمن. لم يعرف فيها الفنان الكلل والملل من سيل معينه الابتكاري,
وتجاربه متنوعة الخصائص والتقنيات مبتكراً لذاته خطوطاً ترسيمية وحفرية (غرافيكية )
غير مسبوقة أمست مرجعية بصرية وتقنية لرواده ومعجبيه في الفن التشكيلي العربي
المعاصر. أمسى مدرسة واتجاهاً وظاهرة فنية, وعلماً من أعلام الحفر (الغرافيك)
العربي المعاصر الذي امتدت قنوات ابتكاره لجهات الدنيا الأربع, وقامة فنية متطاولة
في حصاد الجوائز العربية والدولية, وأصبح أيقونة الحفر العربي المعاصر بلا منازع
بامتياز فكري وتعبيري وتقني.
منحاز في
مجموع مخيلته ومدركاته وأدواته وبنات أفكاره وخبراته الميدانية المعملية في استنباط
طرائق جديدة لإنتاج اللوحة الحفرية في إيقاعات عربية عامرة بذاكرة المكان العربي
بكل محمولاته الدلالية (السيميولوجية) مغادرة بطبيعة الحال النزعات المركزية
الأوروبية الغربية. سواء من حيث بنائية اللوحة ومعمارية التكوين واختيار العناصر
والمفردات التشكيلية القائمة على متواليات البعدين (الطول والعرض) من حيث الفكرة
التعبيرية والمحتوى الموضوعي لرسالته الفنية المنحازة جملة وتفصيلاً لفضائه العربي
بكل تاريخه وإنسانيته, وأحقابه الوجودية منذ ما قبل تدوين التاريخ مروراً موفقاً في
حضارات بلاد مابين النهرين والشام ووادي النيل هذا العناق الوجودي العاكس لهويّة
وانتماء وانحياز للذات الوجودية الإنسانية في تشكيل فسيفساء المجتمع الإنساني المحب
لإنسانية الإنسان دون تبعية واحتواء وقهر وانزياح عن مكارم الأخلاق.
لوحات (الحلاج) لا تُفارق مكانها وصيرورة زمانها في التعبير عن الذات الفردية
المتماهية مع الذات الجمعية للإنسان العربي المقاوم في أشكال مقاومة من نوع آخر,
سلاحه فيها ذاكرة متوقدة ويد ماهرة تُحسن فعلها في خامات ومواد صناعية تجد في صفائح
الخشب (المازونيت) كبداية و (م. د. ف) كمرحلة آنية, توزيعاً عارفاً لقدرات الخامة
ومساحة التخيل في وضع المؤثرات الحفرية مابين الغائر والنافر موسيقى التوازن مابين
سطحين متناقضين. اختماراً لمشروعه الريادي غير المسبوق في لوحة العمر المديد التي
تحمل اسم (إرتجالات الحياة) من انهماكه منذ أكثر من ثلاثة أعوام في صوغ مشروعة
الحلم (اللوحة البانورامية). هذه اللوحة التي تكرس كل خبراته وتجاربه مقدمة ذاته
الابتكارية في سياق تقني حافلة بكل الرموز والدلالات, بالتاريخ والجغرافيا والمجتمع
والإنسان, إنسان (الحلاج) الذي يصوغه من داخل نسيجه العربي تجد في لوحته
البانورامية كل الوجوه العربية والحلقات الوجودية ما قبل الأسطورة, مُندمجاً مع
حقائق الواقع العربي والفلسطيني المعايش. بالأسود والأبيض خطوطاً وأخاديد فنية
تشكيلية محققة لعملية الابتكار ما بين فكرة وشكلانية في تقديم اللوحة الحفرية
العربية المعاصرة بكل جودة الصياغة والتأليف والتوليف لمجموعة هائلة من الأحداث
والرموز وكأنه بها بُقدم ألف ليلة وليلة. ليالي (الحلاج) التي لا تنتهي في حيز
الواقع وحدود الذاكرة حفرية ــ ترسيمية من لون جديد تبقيه ظاهرة ومرجعية لكل باحث
ومثقف وفنان. وهذه البانوراما هي موضوع الـ(CD)
الذي يوزع مع السنونو التاسع.
ارتجالات
الحياة هي اللوحة الحفرية (الجرافيكية) الأكثر إبهاراً وإيثاراً للدهشة في ذات
المتلقي وبصيرته وبصره, والتقاطاً لمساحة بصرية تأملية في تفاصيل الحكاية (الحلاجية)
التي أبتدعها كجزء من نتاج وحصاد فني تشكيلي مُعمق بالخبرة والجلد في اكتشاف الذات
والآخر. كرّس الفنان (مصطفى الحلاج) عبر لوحته الجدارية (ارتجالات الحياة) وبما
يملكه من أدوات بحث إبداعية وخبرة في ميادين اختصاصه التقنية والفكرية أن يكون حديث
الفن الحفري في مكان إقامته دمشق, ليُشكل علامة فنية فارقة ومميزة تقنياً وفكرياً,
في الحركة الفنية التشكيلية الفلسطينية والعربية والدولية, و لوحته (البانورامية)
الحالمة في تشكيل اللوحة (المشروع) والحلم الذي يداعب مخيلته منذ سنوات وجد ضالته
المنشودة عبر توليفات النص البصري خطوات متلاحقة لرحلة الحياة والنضال والبحث الجاد
عن موطئ قدم يكون فيه استقراره الأبدي كفلسطيني مهاجر على الدوام. وحلمه المتحقق في
لوحاته ومخيله يبقيه متفائلاً وصاحب مشروعية في الوجود. لوحته الجرافيكية عبارة عن
قطعة مؤلفة من مجموعة من القطع تشكل جدارية ملحمية (حلاجية) من نوع مميز تُفصح عن
هويتها الجمالية والتقنية والفكرية منذ اللحظة الأولى كاستمرار راسخ لذات مبدعة في
رحلة العمر وتقع اللوحة بطول بلغ نحو مائة وستين متراً وعرض نصف المتر تحكي قصة
«الحلاج» المروية بالخط المحفور, وسفينته المبحرة في عوالم التأليف والتوليف التقني
الجرافيكي محتضنة ثنائيات التناقض اللوني (الأسود ــ الأبيض) كنوع ترميزي دلالي
لاستمرارية الحياة ومابداخلها من تناقضات جوهرية وارتجلات.
واللوحة (المشروع) بما تعنيها من قيم فنية وفكرية وجمالية وأسلوب معالجة تقنية
تستحضر الفنان في ثنياتها كظاهرة فنية لها خصوصيتها المميزة في عوالم الفن التشكيلي
الجرافيكي على وجه التحديد. وتؤكد على هويته العربية الواضحة البصمات كمدرسة فنية
قائمة بذاتها تمهد الطريق للعابرين. والحالمين ومُحبي هذا اللون من الفنون
التشكيلية, وتشكل مرجعية ثقافية وبصرية وخبروية هادية في ميادين فن الحفر المطبوع
على خامات بسيطة مثل المازونيت و (M.D.F)
والاستفادة الماتعة من إبداع الحلاج في هذا الميدان منذ عدة سنوات.
(ارتجالات
الحياة) لوحة يدخل فيها الفنان عبر بوابة التاريخ ومورثات الحضارة العربية وتجليات
المكان وشموخ الأسطورة. استحضاراً مجازياً لرموزها وعناصرها وشخوصها ومكوناتها
الشكلانية. تأخذ من القص الأسطوري المتخيل في الذاكرة الشعبية العربية المغرقة
بالقدم نماذج قصدية مع شخوصها الحاضرة في الزمن المعاصر. تحكي قصة رجل يبني عالمه
الابتكاري في توصيف المواقف المشهدية بطقوس مسرحية متكاملة النصوص والمشاهد,
مستلهمة من قصص الأولين, القادة, عظماء التاريخ, الآلهة, يستعيرها دلالات رمزية في
صياغات تعبيرية إبحاراً جديداً في سفينة الحياة التي بشر بها «نوح» عليه السلام في
غابر الأزمان بقصة الطوفان, وسفينة «الحلاج» هي نوع آخر, تجمع ما بين جنباتها كل
مكونات الحياة الإنسانية الآدمية والحيوانية والنباتية تتجاوز رقمية المزدوج في
دلالة نبض الحياة إلى تعددية الرموز وتماثلية التشكيل الفني في صياغته الخطية
المحتضنة لمساحات الكتل ومجاميع الشخوص والعناصر الترسيمية التي يتوخى الفنان
إبرازها بقصدية الباحث عن تفاصيل حكايته مع الحياة ارتجالاً نابعاً من إيمانه
المطلق بما تفعله يداه وتسعفه ذاكرته البصرية والثقافية في توليد الأشكال والأفكار
خطواً متداعية في كل الاتجاهات محددة هيكلية التكوين ومحدداته التوصيفية. يلعبها
«الحلاج» بحرفية المبدع التقني والمفكر على خامات بسيطة هي (M.D.F)
يُعمل بأدواته حفراً وكشطاً وزخرفة تزينية, تزيل مساحات وتُبقي أخرى في توافقية
الصياغة الإيقاعية لملونات التناقض الأزلي للأبيض (الفراغ الدائم المزال) والأسود
(الثبات الوجودي) عزلاً جرافيكياً مابين لونين ومساحتين بخطوط جريئة ومدروسة تعزف
أنامل (الحلاج) أغنية طقسية عامر بالحكاية الكنعانية العربية بكل أبعادها الترميزية
والدلالية والإنسانية وما يتخللها من سمات وخصائص الفنون العربية القديمة
والإسلامية في معاصرة تأليفية للزخرف والتوليف الخطي بعيداً عن مؤثرات النزعة
المركزية الأوروبية ومدارسها الحداثية, لا يلتزم قواعدها المنظورية, ونسبها الذهبية
والتشريحية, وإنما يبتدع رؤيته الفنية المتمكنة مع تأليف فكرته الفنية المتمكنة
وشخوصه ومكونات عناصره في عموم لوحته قائمة على الخط في بنائية كتلية تفيض حيوية
وتُفسح مجالاً لآلية التكرار القصدية لتوزع الكتل مابين عناصر الأنسنة (النسوة)
خصوصاً, وذاته الشخصية المتواجدة في عموم لوحته كقربان يقدمه على أعتاب قصصه
تعبيراً تواصلياً مع الواقع الآني المشهود, ويكوّن الحلاج كترسيمات خطية في تفاصيل
اللوحة دلالة رمزية بأنه الشاهد والضحية. وكثافة العناصر الحيوانية من أحصنة
ترميزية عن واقع الحال العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً والتي تأخذ في بعض المواقف
المشهدية معنى الثورة المحبطة, والمكبلة والمحاصرة, وفرسانها المعلقين على أعواد
المشانق في توافق ذهني وتأليف شكلاني مابين حالتين تستهدف عبرة ما من ورائها
والثيران, والقطط, والثعابين, الذئاب, الكلاب, الماعز, الطواويس, التنين, الديك,
الحوت, الأبقار, وغيرها من الدلالات الترميزية الحاشدة في وعي مناقب الأسطورة
والحكاية الشعبية في الموروث الشعبي الفلسطيني والعربي, والمتآلفة في كل ومجموعات
شكلانية متوازنة تحكي كل منها موقفاً مشهدياً محدداً من تفاصيل الحكاية ارتجالاً
قصدياً لتعبيرات الموصوفْ. يربط فيما بينها بخيوط الواقع والمتخيل, مابين الكهولة
والطفولة, أجيالاً سابحة في فضاء الوجود, وأقاصيص اللهو والعبث الطفولي, والحساب
والعقاب وتقديم القرابين والضحايا للآلهة المتموضعة والقابعة في كراسيها العالية
تجسيداً لقدرية المصير مابين تناقضين (الحياة ــ الموت). وليشكل توليفة الكتلة
التعبيرية في مجملها قصصاً من التاريخ وما الديك والقمر إلا دلالة واضحة على صرخة
الحلاج المدوية لإيقاظ الناس النيام والغافلين عن استيعاب اللحظات التاريخية
الفاصلة, وضرورة التأمل البصري والذهني في دينامية الحياة وموروثها الحضاري ومشكلة
الصراع الدائرة ما بين تناقضين الخير والشر وما بينهما. في كل الأحوال بدأ الفنان
(مصطفى الحلاج) من خلال لوحته (ارتجالات الحياة) مقولته الحلم في إنجاز مشروعه
كخطوة أساسية في متابعة بقية الخطى مرتبطة بأنفاس الذات المبدعة والمرتبطة بالآخر
ثقافة عربية شاملة لجماليات المكان والإنسان وجموحه التعبيري لواقعية المواقف
المشهدية.
في
رثاء مصطفى الحلاج
مصطفى الحلاج محترقاً
هي
تراجيديا الفن, ربما... هكذا غاب مصطفى الحلاج الفنان الفلسطيني الشريد, غاب في
دمشق محترقا بعد أن انقضت النيران على أعماله من لوحات ومنحوتات داخل مرسمه, وأكلت
ما أكلت, أراد إنقاذها بما يستطيع من قوة واندفاع, دخل هذا العاشق الطريد لانتشال
ما تبقى منها من تحت ألسنة اللهب, التي كانت لجسده الناحل بالمرصاد, فالتهمته مع
لوحاته, ليشكلا معا لوحة أخرى من التراجيديا الفلسطينية في حريق لم ينطفئ بعد,
وبرمزية مجنونة, كتلك الطريق التي قادت هذا الفنان والشاعر والكاتب والناقد إلى
نهاية لا يغيب وقعها عن نهاية حلاجين كثر سبقوه, لكنها نهاية اختلفت عن نهايات
حلاجية أولئك في سعة الفضاء الذي احتمله جهة الألم والعذاب الطويلين والمديدين,
وجهة وطن يرسمه من بعيد, تحمله العذابات على ظهرها كمئذنة كسرت قطعتين
غازي الذيبة
مصطفى الحلاج... إرتجالات وتحليجات لم تكتمل
لم يكن
التشكيلي الفلسطيني الراحل مصطفى الحلاج يظن أنه يوماً من الأيام سيكون له نصيب
مأساوي من الممات كالذي حصل له. فأن يموت مشرداً وبعيداً عن وطنه فذلك أمر وارد.
وأن يموت فقيراً دون مال ورغيف, هو أمر غير بعيد, حاله حال المشردين في الأرض. لكن
أن يموت محترقا بنار تأخذه وجزءا من أعماله الفنية معها, فذلك ما لم يكن في حسبانه
ولا في حسبان محبيه ورفاقه.
ربما تكون
ضريبة التشابه الاسمي بينه وبين الحسين بن منصور الحلاج بأن يكون رحيل كلا الاثنين
مأساويا. فالحلاج الأول استشهد مصلوباً تأكل من قلبه الطير, وهو يصبغ وجهه ويديه
بالدم في هيئة المتوضئ, وحينما سُئل ماذا تفعل, أجاب سائليه "ركعتان في العشق لا
يصح وضوءهما إلا بالدم", مرتحلا نحو الملكوت بمأساة صوفية وإنسانية مطلقة. وكذا
الحلاج الثاني, احترق لتكتمل رحلة الفناء, الفناء في ذات "المحبوب", ليتوحد مع ذاته
وأعماله ومطلقه, مكملا بذلك أسطورته التي ابتدأها, لأن "الأسطورة لاتنجز في عمر, أو
في فترة محددة, هي تكتمل بالموت" على حدِ قوله.
مصطفى
الحلاج, رغم حياته المليئة بالصعلكة, وبالشطحات الصوفية والسريالية, ورغم كثير من
الترحال بين عواصم عربية متنوعة, كان آخرها "دمشق", ورغم انتمائه لجيل "الثورة
الفلسطينية" وماحمله هذا الجيل في وجدانه من حلم "العودة ", و"التحرير", وما ارتسم
بداخله من نكسات وهزائم بعد هذا العمر, رغم كل ذلك استطاع أن يكون "شيخ التشكيليين"
الفلسطينيين" بامتياز, بوصفه أحد أهم من اشتغل على فن الغرافيك في الوطن العربي,
ورائدا من رواده الكبار.
حسن المصطفى
|
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق