الأحد، 29 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد التاسع ) - من دفتر الذكريات أسماء لن تنسى ( ماري خاشوق )

مجلة السنونو ( العدد التاسع ) - من  دفتر الذكريات
أسماء لن تنسى ( ماري خاشوق )

أسماء لن تنسى
ماري خاشوق
            جميل أن يقام للإنسان نصب تذكاري يخلّده... وتسمى مدارس وشوارع باسمه... ولكن الأجمل من كل هذا... أن نقدم له "وردة" تحمل بين وريقاتها الخجولة عطر الإعتراف بالجميل والتقدير.. يستلمها بيده.. يشتمّ عطرها.. يزين بها صدره.. تثلج قلبه.. لا أن توضع على قبره بعد مماته...
            ووردتي اليوم.. سأقدمها لإنسانة تربطني بها قرابة واهية إذا ما قيست بالصداقة التي جمعتنا وأتعبت السنين وألسنة الناس الذين طالما تساءلوا: أإلى الآن لا زلتما صديقتين؟!.. كيف لم تتخاصما ولن تختلفا؟..
            صداقة عمرها أربعون سنة.. حفرت طريقها بهدوء وبطء.. كما تحفر الساقية مجراها في قلب الصخور والجبال.. كوما يتغلغل الدم في الشرايين والأوردة..
            تعودني صورتها أول مرة التقيت بها ــ يوم تمّ الاستيلاء على المدارس الخاصة عام 1967ــ كنت معلمةً في نفس المدرسة ــ بعد أن نلت شهادة الكفاءة ــ رأيتها إنسانة تتدفق حيوية ونشاطاً.. مقبلة على العمل والعطاء.. بإدارة لا تعرف اليأس ولا الملل..
***
في مدرسةٍ صغيرة منسية.. في حي الحميدية الفرعي.. مدرسة عبارة عن بيت عربي قديم.. لكنه حمل بين جدرانه الطينية وسقوفه الخشبية.. وباحته الصغيرة المملوءة بأشجار الأكاسيا والتي كانت موطناً لأسراب العصافير واليمام.. حمل حب البيت القديم وتآلفه وعطاءه.. وجو الأسرة الحميم الدافئ.. حمل حب الأم لأولادها.. وحب الشجرة للماء.. وحب الطيور للحرية..
مدرسة.. قد تعبر الشارع دون أتلفت نظرك ببساطتها وصغرها.. تطلّ نوافذها على معمل (عبد الصمد) ويتراءى لك سطحها القرميدي الأحمر.. ودخان مدافئها (مدافئ الحطب) ولكنها لم تبقَ مدرسة منسية...
عملت جاهدةً لرفع مستوى المدرسة مادياً ومعنوياً.. ومضموناً وشكلاً.. وتساءلت كيف ترفعها من الحضيض إلى القمة؟ ومن عالم النسيان إلى الشهرة؟ لم تكن موظفة عادية.. همها ساعات الدوام فقط وقبض الراتب آخر كل شهر بل أحست المدرسة بيتها.. وهؤلاء الأطفال هم أولادها وفلذات كبدها.. وما عليها أن تضمن لها إقامة سعيدة وموفقة في هذا المكان...
لايمكن لك أن تتصور مدى سعادتها وهي تعمل كانت:
ــ كما يذوب الثلج النقي الأبيض من أعالي قمم الجبال حين تلامسه أشعة الشمس الحنونة ويتدفق جداولاً وأنهاراً متناسياً أنه يتلاشى همه الوحيد ــ العطاء ــ
ــ وكما تسرع النهر العذبة لتصب في خضم النهر الواسع متناسية الضياع..
ــ وكما تسرع النحلة لصنع العسل والشمع ــ هكذا كانت  وهي تعمل.. شيء غريب يدفعها لهذا كانت تقوم لعدة أعمال وكأن هذه المدرسة ملكها.. دائماً تريد أن توفر من النفقات لتكون الواردات أكثر.. لا يهمها إن ذابت الشمعة والفتيل.. المهم أن يضيء النور كثيراً...
            وراح الناس يتهامسون: (ما سر هذا العمل الدؤوب.. وكم هو مكسبها وربحها؟) ــ في زمن لا يعمل الانسان فيه دون مقابل! ولا يعطي العشرة إن لم ترد له مئة أو أكثر ــ كلهم أدركوا فيما بعد.. أنّ السمعة الطيبة التي كسبتها أغنى من كل الأرباح ــ فهناك أشياء لا تشترى ولا تباع ولا تقدّر بأموال الدنيا ــ
***
أرادت الأحسن للمدرسة فكان لها (حسب نياتكم ترزقون) وكأن الظروف الجيدة كانت إلى جانبها.. مساعدة الأولياء بكل رحابة صدر لدعم البناء وزيادة عدد الغرف والصفوف لتكون المرحلة الابتدائية كاملة يتخرج منها الطلاب إلى مرحلة جديدة ـ علماً أن الصفوف كانت إلى الصف الرابع فقط ـ
طلاب يتخرجون لايحمل العلم فقط.. بل حملوا أشياء أغلى (الأخلاق الحميدة والعادات الحسنة وحب الآخرين والعطاء والتضحية) لم تكن مديرة لهم بل (أماً) تتنافس فيها الشدة مع اللين... والنظام الشديد مع الابتسامة الصادقة.. والمحاسبة على كل صغيرة وكبيرة إلى جانب العطاء الدافق اللامتناهي... وكانت آراء الناس متضاربة حولها (فهذا يمدحها وآخر يذمها) (قاسية  حنونة ـ ظالمة عادلة ـ غاضبة راضية) لكنهم يستسلمون دائماً قائلين: (لا يوجد أفضل من مدرستها)
مشاهد متناقضة.. صمت مخيف.. وهدوء مفاجئ يسود على الطلاب فيقطعون لعبهم ويجمدون.. ماذا حدث؟ المديرة في الباحة! وبعد قليل ترى الأطفال أنفسهم يداعبون ويجلسون في حضنها.. تضاحكهم.. وتلاطفهم وتمتلئ جيوبهم وأفواههم بالسكاكر والحلوى..
***
وكم من مرة قالت لي: إن هذا النجاح الكبير لم يكن سيكتب لها لولا عون ودعم الجهاز التربوي التعليمي الذي كان السند الأكبر لها وساعدها لأن تصل إلى أعلى الدرجات.. هذا الجهاز لم يتخذ مهنة التعليم للكسب فقط.. بل كانت هوايته وراح يعمل ساعياً جاهداً معها لا يعرف متى يبدأ الدوام أو ينتهي.. واليوم دور من؟ أو مناوبة تلك ( ) محبة من نوع غريب.. وعطاء لا خد له.. وتضحية إلى أبعد الحدود (فحين يوجد الحب يختصر كل المسافات ويمحو كل الخلافات ويحطم كل السدود) لهذا استطاعت مدرستها التي عرفت باسمها ( ) أن تحتل المكانة الأولى من حيث العلم والتربية والثقافة ورواد الطلائع ونالت مراكز مرموقة وميداليات كثيرة.. ولاسيما في مجال الموسيقا ــ غذاء الروح ــ وهؤلاء الطلاب عصافير صغيرة تنتشر في باحة المدرسة وتحت ظلال أشجارها الحنونة يتدربون بأصابعهم الصغيرة على لحن أو أغنية..
هؤلاء الطلاب وصلوا إلى أعلى المراتب الطب.. الهندسة.. الصيدلة وهم يحملون بين أفئدتهم ــ الصغيرة الكبيرة ــ أحلى ذكريات لأيام قضوها في ربوع هذه المدرسة.. ذكريات لا يمكن أن تنسى.. أو تمحوها يد الأيام.. ذكريات كانت لهم السند والدافع القوي ليخوضوا غمار الحياة الجديدة.
وكما يقولون: (لبّس العود بيجود) هكذا كان حال المدرسة...
كلّ سنةٍ إصلاح وتجديد قدر المستطاع.. الكل يعمل.. الكل يساعد ويدعم..
ــ ما أحلاهم أسرة واحدة! معلمات وطلاب وأولياء..
ــ ما أجمل التعاون والمحبة! وكأنّ هذه المدرسة طفلتهم الوحيدة المدللة وانتقل اسم المدرسة (القدس) من عالم النسيان إلى عالم الشهرة والصيت الذائع وأخذ الناس يتحدثون عنها ويتسارعون لتسجيل أولادهم ــ رغم النظام الشديد لكنهم فيما بعد ــ يشكرون الله ــ لأن أولادهم من طلاب هذه المدرسة.. وليس هذا غريباً أو مبالغاً فيه..
ــ فأولياء الطلاب أحبوا المدرسة قبل أولادهم وعاشوا النظام وتعودوا عليه فأرضعوه لأولادهم وكانوا عوناً وسنداً كبيراً للمدرسة..
ــ أولياء وضعوا كل ثقتهم بالمدرسة وكأنها (بيت الجد) ما من رحلةٍ يعلن عنها.. أو نشاط أو معسكر طلائعي إلا وأولادهم أول المشتركين وكيف لا؟... والصدر الحنون معهم... والقلب الدافق... والعين الساهرة... فمم يخافون؟!...
***
            وكما يتعب البنّاء ليكون الأساس متيناً صلباً يتحمل الصدمات والزلازل... هكذا كانت مدرستها... (روضة القدس) اسم على مسمى.. ينعم فيها الأطفال بكل جميل... أليست الطفولة هي الجنة؟ ملائكة صغار يرفرفون بثيابهم المدرسية (الحمراء والخضراء) (نفس التفصيلية.. والأزرار.. والقبة.. والبنطال الكحلي.. الحذاء الأسود شتاء.. والأبيض صيفاً)
            ثمّ مرحلة ابتدائية (بثيابهم المدرسية الزرقاء) صفوف لتعلم حب الآخرين والتضحية من أجلهم قبل حفظ (جدول الضرب وأقسام جسم الإنسان)
ــ صفوف أحبت النظام والنظافة وغرست بين جدرانها حب التفوق وروح المنافسة الشريفة قبل كل شيء..
ــ صفوف تعلمت الصدق والأمانة وقول الحق قبل معرفة الأرقام والحروف
ــ وخطوط خضراء مرسومة على الأرض يسير عليها الطلاب بكل نظام كقطارٍ لايحيد عن سكته.. هذه الخطوط توصلهم إلى باب المدرسة حيث تجمع الأهل لاستلام أولادهم وهم يتشوقون لرؤيتهم.. وتشرئب الأعناق وتمتد الأيدي وتخفق القلوب.. ما أروع هذا المنظر اليومي الذي كانت تكثر فيه الشكاوي من شدة النظام وحلاوته بنفس الوقت..
***
            والأروع من كل هذا... حين يتسارع إليها ابناؤها (طلابها) بكل حب وفخر للسلام عليها أو يريدون أن يعرّفوا أبناءهم على مديرتهم تشعر بسعادة فائقة لا توصف وتنسى كل تعبها ــ فهي تراهم بقلبها قبل عينيها ــ وتفرح أن زرعها أعطى ثمراً جيداً لأنه سقط في تربةٍ خصبة.. وأن حصادها كان وفيراً.. وتنسى أنها لم تنجب وتقول ممازحة: للأم ولد أو أكثر.. وأنا؟ كل هؤلاء أولادي فما أسعدني!.. وتطبع على خدهم قبلتها المنتظرة.. الموعودة..
***
وردتي هذه.. (وإن لم تكن صادرةً عن جهةٍ رسمية أو نقابية) وللأسف الشديد المؤلم: ــ لأنه نادر ما يكرّم الإنسان المعطاء في يومنا هذا ــ لكنها صادرة عن قلوب لاتعرف الكذب والمراءاة.. قلوب أحبت فأعطت صادرة عن قلوب الأطفال والطلاب الذين رتبهم وصاروا سباباً وآباء وأمهات قلوب لا تعرف المجاملة.. وهذه أكبر وأثمن هدية؟!
            ولكن هناك شيئاً يغريني: رغم عدم تكريم المعطاء وتقديره... لازالت هناك قلوب تعطي... وعيون تبتسم... وأيدٍ تعمل و بإخلاص... لهذا:
ــ وردتي.. أهديها إلى كل قلب امتلأ حباً بعمله فراح يضحي ويعطي دون مقابل كعطاء الساقية والبلبل...
ــ وردتي.. أهديها إلى كل عينٍ ساهرة.. قلقة.. مرتقبة لا يهمها السهر وإن تقرحت الجفون واحمرّت...
ــ وردتي.. أهديها إلى كل يدٍ عاملة.. فنانة.. مبدعة ليظلَّ علم العطاء عالياً خفاقاً مرفرفاً رغم سُحب المصالح الشخصية والمنافع المشتركة المتبادلة...
***
            وردتي هذه أهديها أخيراً لمن أعطت وبلا حدود لأن الذي يعطي ويضحي لا ينتظر جزاء ولا شكوراً لأن لذته في العطاء وسعادنه في التضحية ــ وكأنَّ الله خلقه لتلك التضحيات الخرس ــ ولأن القلوب الكبيرة لا تُسعد أبداً لأنه ينقصها سعادة الآخرين..
***
            وردتي أهديها لمن قدمت ــ حتى اسمها لمدرستها ــ (مدرسة اسعاف)
 واسمها الكامل // اسعاف سمعان حصني //

***
 
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق