مجلة السنونو (
العدد التاسع ) -
وداعا - قسم 1
|
|
نديم
قندلفت - نويل عبد الاحد - الياس لازار - يوسف الحاج وذكرى عبد المعين الملوحي
|
|
يا موت هزمتك الفنون
في إيغالنا المأساوي في زوايا (2007) الضبابية
تحاصرنا أكثر من دمعة خفية أو جهيرة يذرفها معنا (السنونو9 ) المفجوع بحبات غالية
في عقده, تساقطت تباعاً واحدة.. واحدة.. وتراودنا كلمات باكية تغص بها حنجرتنا
المجرحة المبحوحة بخسارات مُنينا بها على حين غرة كأشجار ماتت واقفة فسقطت سقوط
فارس لم يترجل..! كلمات عبثاً يستعير لها السنونو من الزهر والنجم مدداً... ومن
رفقائه الحمام بوحاً ونوحاً, عبثاً يذرفها شكاوى شوق وأسف على تلك الكوكبة من
الأهل والأصدقاء.. كتاباً.. وقراء.. مستشارين وخبراء.. رابطيين مؤمنين.. أو نصراء
داعمين.. رقدوا في التراب القريب والبعيد, تاركين على الأرض حصادهم المبعثر..
وزرعهم المطمور الواعد, وفي الجواء صدى صوتهم المدجج بالحب والحق والإنسانية, مع
وميض أقلام لمّا ينتهِ من غسل الدروب والعثرات..!!
شموع تضيئها "رابطة أصدقاء
المغتربين" على ذكرهم هيهات أن تضاهي شموعاً أضاؤوها هم لنا.. للحياة..
وللإنسان.. شموعاً كم شعّت محبة.. وذللت عقبة أمام طموح وإقدام.. كم بددت شوكاً..
وهدهدت يأساً.. وهدت إلى سداد فكر وثبات إيمان..!
ملء قلب "رابطة أصدقاء المغتربين"
مودات كثيرة.. ومحطات كفاح ونجاح.. وتوهج حروف وعبق ذكريات عن أهداف كبيرة لهم
زحزحوا إليها صخرة سيزيفَ راضين, وركضوا إليها لاهفين.. ركضهم ينتهي ـ الآن ـ من
دون أن تنتهي هي, ويرحلون عنها وآنى لها أن تموت..؟
على اسمهم ننثر ورود الشوق والذكر
ملف كلمات, إن لم تحسن وصفهم وموقعهم في قلب "رابطة أصدقاء المغتربين" اللائبة
عليهم, فقد تحسن تذكّرهم.. والبكاء عليهم.. والتمكين لهم في قلوبنا ـ نحن
الأصدقاء الذين ضاقوا وقلوا بدونهم ـ, عسانا نظل فيهم ويظلون فينا, ونبقى ـ بدفع
من حدب روحهم ـ العطاء المتألق أبداً.
(السنونو)
نهاد
الدكتور نديم نقولا قندلفت
(وإن
مات يتكلم بعد)
القس صوئيل حنا
حمص 7/6/2007
" ومات بشيبة صالحة, شيخاً شبعان أياماً, وانضم إلى قومه "
(تك:8:25)
" وهو وإن مات يتكلم بعد "
ولد من عائلة عريقة في الكنيسة الإنجيلية في حمص, وعاش أميناً
في حياته, لا يكِّل ولا يمِّل ولا يعرف للراحة مكاناً.
الكنيسة الإنجيلية المسيحية في حمص, والسينودس الإنجيلي
الوطني في سورية ولبنان, يودع اليوم شيخاً جليلاً من الشيوخ الأفاضل, لما قدمه في
حياته من خدمة مباركة.
" وهو وإن مات يتكلم بعد "
في حياته الشخصية: كان شاباً يافعاً عندما توظف في شركة
I.P.C الشركة السورية لنقل
النفط. وقد ترفع فيها إلى أن أصبح مديراً للشركة في حمص بسبب ذكائه وجدِّه
واجتهاده. ثم خدم في الجيش الإنكليزي بالأردن وأتقن بفترة وجيزة استعمال الأجهزة
اللاسلكية والمورس وفن الاتصالات.
ثم عاد ليتوظف بالشركة I.P.C
وهناك بدأ يزداد نشاطاً وتقدماً وترفيعاً, وبالإضافة إلى عمله بدأ هندسة الكهرباء
وحاز على ليسانس من جامعة لندن خلال عام واحد. واتبع ذلك بشهادة الدكتوراه في
إدارة الأعمال من بريطانيا بتقدير ممتاز.
كان يتقن بالإضافة للغة العربية, اللغة الإنكليزية حتى أصبح
مدرساً للطلاب المتخرجين من الجامعات أو الذين يريدون الدراسة في أوروبا وأميركا.
كما كان يتقن اللغة الفرنسية ويترجم عنها.
أقام عدة دورات تدريبية لإدارة الشركات لتعميمها في كل أنحاء
القطر, ألقى المحاضرات وألف عدداً من الكتب في مواضيع متنوعة منها:
1ــ التصنيع في الدول النامية وتجربة التصنيع في سورية
2ــ فلسطين الأرض المغتصبة
3ــ دحض لادعاءات الحق الإلهي المزعوم لليهود في فلسطين
4ــ التلمود وطبائع اليهود
5ــ الأصولية المسيحية في الغرب
6ــ الزواج الكنسي والزواج المدني بين المسيحيين في سورية من
وجهة نظر قانونية
7ــ المعين للعناية بالمسنين في منازلهم.
على صعيد الكنيسة بقي شيخاً على عمدتها أكثر من خمسين سنة كان
مثالاً حسناً للشيوخ المدبرين.
ــ مركز المسنين بدأ بفكره وتحقق مشروعاً مهماً لخدمة المسنين
ساعياً لحسن سيره لأفضل ما يكون بيتاً مريحاً لساكنيه كما كان لديه رؤية مستقبلية
لمشاريع عدة لا مجال لذكرها.
الشيخ نديم ارتبط بشريكة حياته السيدة الفاضلة ليندا عبده
حداد وكانا مثالاً لأفضل زواج ــ رزقهما الله ابناً هو الدكتور اللامع نيقولا,
وثلاث بنات مها ــ نجوى و سحر. رحل بعد أن نعم برؤية الأولاد والأحفاد ــ رحل دون
ألم أو وجع. بل انتقل بعد كفاح وجهاد لا مثيل له حقق عدداً من المشاريع في خدمته
بالسينودس الإنجيلي من أقصى شمال سورية إلى أقصى جنوب لبنان.
احترمه الجميع وكان موضع تقدير من كل مَنْ عرفه.
ولسان حاله يقول:
" جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان "
ويقول له الرب:
" نعماً أيها العبد الصالح والأمين كنت أميناً في القليل منها
أنا أقيمك على الكثير ادخل لفرح سيدك"
نعم: " طوبى للراقدين بالرب منذ الآن نعم يقول الروح لكي
يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم بعد "
ترأس هذه الخدمة. القس صموئيل حنا راعي الكنيسة الإنجيلية
المسيحية في حمص. نائب رئيس المجمع الأعلى للطائفة الإنجيلية في سورية ولبنان.
وشارك فيها: رؤساء الكنائس المسيحية وعدد من الكهنة وقساوسة
من السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان.
الأديب نويل عبد الأحد
في ذمة الله
يوسف عبد الأحد
أديب ومترجم من الإنكليزية إلى
العربية وبالعكس ولد في مدينة بيت لحم بتاريخ 31/1/1939 ونشأ في بيت علم وأدب
وثقافة, فوالده صموئيل عبد الأحد كان معلماً في مدارس السريان في بيت لحم والقدس,
ومراسلاً أدبياً لمجلة (الجامعة السريانية) التي كانت تصدر في بونس ايرس
بالأرجنتين لمؤسسها فريد نزها, وشقيقه يوسف عبد الأحد.
تلقى دراسته الابتدائية ــ والثانوية في كلية (تراسانطا) أي
الأرض المقدسة ونال شهادة الدبلوم عام 1956 ثم تابع دراسته الجامعية بالمراسلة في
جامعة لندن قسم الأدب الإنكليزي والترجمة ونال شهادة الثقافة العامة عام 1959.
بعد تخرجه سافر إلى دمشق وعمل في
مكتب سابا وشركاهم محاسبون قانونيون مدة خمس سنوات (1956 ــ 1960).
عاد إلى عمان ــ الأردن وأسس مكتباً تجارياً وعمل في حقل
التجارة. أحب الأدب ومال إلى الترجمة وانكبَّ على ترجمة بعض روائع شعراء الغرب
ونشر العديد من ترجماته ومقالاته في مختلف الصحف والمجلات العربية في دمشق ولبنان
والأردن والكويت منها مجلات الأديب والرسالة اللبنانية والدنيا والنقاد والإيمان
والثقافة والضاد والأسبوع الأدبي وجريدة حمص.
كان باكورة أعماله ترجمة رباعيات الخيام عن الإنكليزية للشاعر
الانكليزي إدوارد فيتزجيرالد صدر عام 1958 وقدم له شاعر الشام الكبير شفيق جبري
(1897 ــ 1980): جاء في كلمته قال:
" نعمت ساعة من الزمن بقراءَة هذه الرباعيات فتركت في نفسي
أثراً لا تتركه لو كنت صافي النفس هادئ البال مجرداً من كل اضطراب بعيداً عن كل
ارتباك. ولنشكر السيد نويل عبد الأحد الذي كلّف نفسه نقل هذه الرباعيات من اللغة
الإنكليزية فلم يظهر في نقله أثر تعقيد ولا أثر تكلف إنما هي أفكار منثورة صافية
سهلة يدركها الذهن لأول وهلة دون شيء من الجهد."
أما عمله الثاني فقد قام بترجمة ديوان قداسة
البابا يوحنا بولس الثاني وصدر عام 1981 في عمان الأردن ونشرت الأديبة جمانة طه
دراسة عن الديوان في جريدة تشرين بتاريخ 6 أيار 2001 رقم العدد 7996.
قالت: "هذه هي أشعار قداسة البابا يوحنا بولس
الثاني التي صدرت عن مشاعر نقية صادقة نبتت في فضاء ديني شعري متوحد ومتلازم.
تتركز أفكار الديوان حول ثلاثة محاور هي الإنسان والحياة والعمل فالبابا عمل في
مقلع للحجارة أثناء دراسته الثانوية لذلك نراه مؤرقا بظروف العمال وحياتهم
القاسية ومشغولاً بالفساد الذي يشتري في العالم ويخرب نفوس البشر."
أما عمله الثالث فقد ترجم كتاب النبي لجبران
بصياغة جديدة وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات في عمان عام 1993
قال جبرا ابراهيم جبرا (1920 ــ 1994) عن
الترجمة:
" نويل عبد الأحد من محبي جبران منذ سنين بعيدة
ومن المتعلقين بكتاباته بالعربية أو الإنكليزية وهذا ما يجعله مرشحاً لإعادة
النظر في النبي مجدداً.
ويخيل إليّ أن في ترجمة نويل عبد الأحد هذه من
الروح الجبرانية ما لم أجده في أية ترجمة أخرى للكتاب وما ينم عما بين رؤية
المترجم ورؤية جبران من توجد نادراً ما يتحقق على هذا النحو المميّز بين كاتب
ومترجم."
العمل الرابع قام بترجمة كتاب " كشف النقاب عن
لغز الحياة و الموت " للدكتورة سيلفي بيدو عن الإنكليزية إلى العربية وصدر عن
المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمان عام 2004
كتب المقدمة الأديب الدكتور عيسى بلاطه قال:
" إن الحياة لغز من الألغاز وتسلسل الأحداث فيها
على كيفية خاصة تختلف من فرد إلى آخر هو سر من الأسرار وقد كتب الفلاسفة
والمفكرون آلافاً مؤلفة من الكتب في هذا الموضوع منذ بداية بحث الإنسان عن غاية
وجوده. والدكتورة سيلفي بيدو واحدة من هؤلاء الفلاسفة والمفكرين لها اطلاع واسع
على علم النفس وتخصص في دراسة ما وراء الطبيعة."
وآخر ترجماته مجموعة شعرية " الرقص مع البوم"
للكاتبة والوائية الأديبة غادة السمان ترجمها إلى اللغة الإنكليزية وكتب لها
مقدمة باللغة الإنكليزية وهذه مقتطفات من المقدمة مترجمة إلى العربية:
" ليست وظيفة الشاعر أن يجرح عقل القارئ بدفق من
دغدغات الفرح والبهجة فقط بل و الأهم من ذلك أن ينقل أحاسيسه وأفكاره وتجاربه
الحياتية أو تجارب الآخرين الذين تفاعل بها...
فقد كرّست الأديبة غادة السمان جل حياتها ولا
تزال عبر كتاباتها ولاتزال عبر كتاباتها المتنوعة
وداعاً نويل
د. رغيد النحّاس
كلما
كان يأتي صباح سبت أو أحد كنت اتصل مع صديقي نويل عبد الأحد، لتلتقي سيدني مع
فينيكس فيتحدث أسترالي عربي من أصل سوري-لبناني مع عربي من أصل فلسطيني يعيش في
الولايات المتحدة. أما الحديث فيتجاوز عتبة الزمان والمكان ولا يعبأ بطغيان
التاريخ أو الجغرافيا، لأنه حديث شخصين جمعهما الفكر المنفتح الخلاّق الذي يجتاز
الحواجز ويختصر المسافات.
الأحاديث كانت تستمر لأكثر من نصف
ساعة كل مرّة، وربما تجاوزت الساعة مرّات، نتناول فيها الأوضاع العالمية ثم نركز
على شؤون الفكر والأدب خصوصاً حين كنت أصدر مجلة كلمات التي كان نويل عبد الأحد
أحد مستشاريها. ومن تواضعه رفض إرسال صورة شخصية لنستعملها في موقعنا الإلكتروني،
ما اضطرني لإيجاد رسم له بريشة الفنان المخرج السوري نبيل المالح حصلت عليه من
طريق شقيق نويل الأستاذ يوسف عبد الأحد.
لكن نويل كان لي أكثر من ذلك. حمل
نويل معي هم المجلة منذ صدورها وبذل جهداً راقياً كبيراً في الترويج لها في
الولايات المتحدة وحول العالم. وحين كنت أكلفه بمراجعة وتقييم بعض مواد المجلة
كان يستجيب مباشرة وينهي مهمته قبل الموعد النهائي، وغالباً خلال يوم أو يومين.
كان يقدم مراجعاته بموضوعية وحرفانية منتناهيتين.
قدم نويل لـ"كلمات" مساهمات كثيرة،
خصوصاً ترجماته الشعرية، كانت أولاها ترجمته الإنكليزية لقصيدة "في العلياء"
للشاعر حكمت العتيلي الذي كان يعيش في الولايات المتحدة أيضاً إلى يوم وفاته
العام الماضي. وقدم بعدها ترجمات إنكليزية أخرى للعتيلي ولشعراء آخرين مثل محي
الدين اللاذقاني، مي مظفر، كمال خير بيك، نوري الجراح، زكي الجابر، عيسى البطارسة،
شوقي مسلماني، سعدية مفرح، فدوى طوقان، غادة السمان، سلوى السعيد، ميلود لقاح،
عصام ترشحاني، أحمد فضل شبلول.
أما ترجماته إلى العربية فتناولت
أعمال شعراء مثل غليندا فوكس، كلاريبل أليغريا، جون شبرد، دنيس بيرنشتاين.
ومن مقالاته واحدة عن جبرا إبراهيم
جبرا، وأخرى عن بطرس عنداري.
أما أعماله خارج كلمات فهي أكثر من
ذلك بكثير، ودائماً يُذكر نويل بترجمته لكتاب النبي لجبران. كما تربطه صلات فكرية
ومهنية وثيقة مع بعض كبار الكتاب أمثال السيدة غادة السمان.
منذ شهرين لم أعد أحظى بالحديث مع
نويل. كلما اتصلت كان الهاتف يرّن دون جواب. كثفت محاولاتي، وأمضيت أحد الأيام
أتصل كل ساعة إلى أن جاءني صوت نويل وكانت الساعة منتصف النهار في مكان إقامته.
قال إنه حضر للتو ليلملم بعض الحوائج ويعود إلى منزل أحد أقاربه الذي يستضيفه
لفترة. علمت من حديث نويل أنه اضطر لدخول المستشفى عدة مرّات، لكنه أكد لي أن كل
شيء على ما يرام. كنت أعلم أن تواضعه وحساسيته تمنعه من تحميلي أعباء المحنة التي
يمر بها. أما أنا فما كان يهمني هو سماع صوته بخير، لذلك لم أسأله عن تفاصيل
القضية.
منذ ذلك الحين أتصل كل سبت وكل أحد،
دون أن أحظى برد نويل وسماع صوته العذب ذي التأثير المريح للإعصاب لما فيه من
أناقة وتهذيب. علمت في قرارة نفسي أن الأمر خطير لكنني ما تصورت أن هاتفي سيرن
ليقدم لي صديقي الشاعر شوقي مسلماني التعازي بوفاة نويل عبد الأحد. نويل الذي
تعاون معي على ترجمة ديوانين للشاعر مسلماني.
نويل كان مهذباً راقياً في حديثه
وفي تعليقاته ومراجعاته. كان يقبل النقد، بل يسعى إليه، ويحكم على الأمور بمنتهى
الموضوعية، مما جعله يقبل بتغيير ترجمات قام بها بمجرد أن تنجلي له مصداقية من
يقدم له النقد.
تعود إلي صباحات يومي السبت والأحد
الآن وفي القلب غصة وفي الفكر فراغ. وداعاً نويل. إن كان هناك منزل آخر، فلا أشك
أن صدر الكون سيكون لأمثالك. وإن كان سيكتب لنا لقاء آخر، فعسى أن نرتفع إلى
مرتبتك لنحظى برؤية وجهك الكريم ونسمع صوتك الرخيم.
عهدٌ بأن ندمن صوتك الأبدي
(في
ذكرى مرور عام على وفاة الأستاذ عبد المعين الملوحي)
نهاد شبوع
من دورة شمس... وذات ربيع صقيع ترك
الدنيا من غير أن تتركه الدنيا.. ورحل بكل هذا الرضا.. وبكل هذا التسليم والإذعان
لمشيئة الله.. وبكل هذا الارتفاع عن الآن.. والاستقرار الراسخ في الزمان.. وكأنه
يتذكر كلام (جان دومرسون) "من أردَ الحياة فمحتَّمٌ عليه أن يرضى بالموت".. أو
كأنه يضحك, بطيبته المعتادة, مما فاتنا من هذه المقولة.. لدرجة انسياقِنا الطفلِ
مع وهمٍ ساذجٍ: أن الشاعر لا يموت..!! وبالتالي أن عبد المعين الملوحي لا
يموت..!!
باطلاً لعب الوهم.. وعبثاً أجَّلنا اللحظة إلى
زمن ظنناه لا ينتهي..!! وهيهات... فالملوحي مات ذات ربيع.. ذات دهشة رعب.. من
ساعتها أدركنا كم ربيعٍ لم يكن ربيعاً, وكم من موت أرّخَ لربيع حياةٍ جديدة, وكم
ضدٍّ وُلد من ضدِّه, وكم انقلب موتُ مواليدِ النور حياةَ مواسمَ تستيقظُ
إيناعاً.. وتتدفَّقُ ينبوعاً.. تتحلَّق الإنسانية حولها في ولائم لازمةٍ, تملأُ
سلالَها ودنانَها, تمسحُ على جراحاتها, وترمِّمُ خساراتِها وانكساراتِها,
تتذاكرُ.. وتذكُرُ, تتساقى وتدلُّ وتنهلُ..!
ولعلَّ هذا اللقاءَ الحميمَ, حول هذه المائدةِ
الثرَّةِ, الذي أقامته (مديرية الثقافة في حمص) على اسمه المضيءِ مشكورةً,..
لعلَّه.. بعضُ احتواءٍ لهذا الفيض الكنز, إن لم يكن علامةَ معاييرَ لا تزالُ ـ
والحمد لله ـ معافاةً سالمةُ من سطوة الخلل الطارئ علينا هذه الأيامَ الخائرة
الحائرةَ.. ومن داءِ إدارةِ الظهور والجحودِ والتنكر للكاتب وللكتّاب للمعطي
وللعطاء..!!
أجل حلوٌ على قلب "حمص" المطرزةِ أرضُها وسماؤُها
بأكثرَ من لونٍ وطيرٍ بريشةِ "عبد المعين الملوحي" وحبِّه.. الحاضنة بحدبٍ
ذكرياته و"قصر يلدزه" يلوذُ إلى دفئه في رحلتينِ.. حمصَ الطفولةِ والضميرِ
والشريان ومغنى الأماني.. المفجوعة بأكثرَ من عبقريٍّ صديقٍ قبله.. حلوٌ على
قلبِها أن ينطلقَ خطابُها لفارسها المترجِّلِ, من هذا المكان بالذات: "المركز
الثقافي".. حيث للفارسِ أجزاءٌ من روحٍ وقلبٍ وساعدٍ كانت لهذه المؤسسةِ مداميكَ
وسلالمَ, وحيث له صولاتٌ وجولاتٌ أنبتتْ للثقافة وللمثقفين أجنحةً, ورسمت أمامهم
معالم طرق وفضاءات إلى العمالقة الذين ملؤوا دنيانا قيماً وشُعلاً.. معارفَ
وقدوةً.! وحجارةُ البنيانِ من نجومِ السماءِ تُقطف..!!
أجل حلوٌ على قلبها أن تستقبلَ البانيَ اليوم في
عقر داره ليتكرَّمَ وليتكرَّسَ له مكانٌ في الزمان.. كي يظل لنا زمانٌ يحترمُ
المكان..!!
بل تفريجٌ ـ أيُّ تفريجٍ ـ لكربةِ هذه المدينةِ,
التي فقدها عبد المعين وفقدته, أن تريقَ دمعتَها جهراً على أمنيتها الخائبةِ
المحروقةِ: لو أن عمرَ علمِها طالَ على الأرض وطال..!! لو أنه استطاع أن يعتذر عن
كل مواعيدِ الموت ليبقى لها حياةَ الحياةِ لا حياةَ المماتِ.. وهيهات..!!
الموتُ..!! ما أقسى قلبَهُ.. وأشدَّ كَرَبَهُ..
كم هزَّ عمرَ "عبد المعين الملوحي" وكواه..!!
الموتُ.. كم يستلب أشياءنا الحبيبةَ التي ربما لا
يُتاح لنا أن نبكي من أجلها بما فيه الكفاية, إذ أمام تكاليف الحياة نُلزَمُ بأن
نتباخل بدموعنا وصدقنا لنموت ـ نحن أيضاً, وبشكلٍ آخرـ.. على رغمنا..!!
الموت.. ما أكثر أشكالَه في الحياة! وإن كان
أفجعه غيابُ الأحبةِ من قبلِ أن يحصدوا مواسمهم المبرعَمَة..!! وأسألكم من ذا
الذي حصد براعمه قبل الموت؟ من ذا الذي رحل ـ ولو بعد مديدٍ من العمرـ وليس في
قلبه حاجاتٌ عريضة لم تقضَ.. وأمانٍ ظامئة لم تُسْقَ..!!؟
بموت الشاعر ـ خاصة ـ وأسفاه.. تنسدّ دروبٌ..
تتعطّلُ مضخةُ حبٍ.. يصوّحُ ربيعٌ.. إذ وحدَها أيدي الشعراءِ الحقيقيين تصافحُ
مهنئةً بصدقٍ بعد كلِّ جولةٍ نصل بها من غير أن نسقط.. وحدها صداقة الشعراء جسرٌ,
طَرَفُهُ ليس خيط عنكبوتٍ واهناً ينقطع ويهوي عند كل ريحِ مصلحةٍ أو حسد.. وحدَهم
الشعراءُ لا يجعلوننا نموت في اليوم مراتٍ.. وحدَهم الشعراء لا يعرى معهم القلب
لأنهم يدثِّرونه أبداً بدُثُر الإله والحق والرَّجاء والجمال.. يجدلون له حبالَ
الآمال مستهزئين بكلِّ إنذارات الألم والموت لتُعاشَ سعادة اللحظة..!!
ولكنني ـ سادتي ـ ما جئت بخطابي ـ والله ـ لأبكيَ
أو لأرخيَ العنانَ لنزيفِ جروحٍ لأمتُها على ملحٍ وشوك.. وإنما جئت لألاقيه..
لألاقي وجه الإنسان الأبِ... والقلبَ الكبيرَ أقتبس منهما دفعاً وعزماً
جديدين..!!
فهل يروق لكم سادتي أن أستبدل بدمعتي ولوعتي شوقي
وتحيتي؟
شوقي وتحيتي للذي حياته لا تعرف الذبول..
شوقي وتحيتي للذي غيابه انغراسٌ ورحيله حضور..
شوقي وتحيتي لمن هو حيٌّ في الموتِ, لأنه جيلٌ
ومستقبلٌ وبذرة..!!
شوقي وتحيتي للقلم البركان: البحاثة.. المؤلِّف..
المترجم.. الشاعر.. المشرعِ قلبهُ للشرق والغرب للجنوب والشمال, كي يتقنَ جيداً
انتسابَه إلى الفضاء الإنسانيِّ صقراً لا يهادن ولا يموت..!
شوقي وتحيتي لمن أبى المساومة.. وعاف المداورة..
وخاطب بالنبرة المرَّةِ النّاقِدَةِ كلَّ مناظرِ الألم والظلم والظَّلام..!!
والقهر..!
شوقي وتحيتي لمن اكتملت له موهبة القيادةِ
الإنسانيةِ بسيفٍ قلمٍ عزَّز الحبرَ فصارَ لها "ذهباً.. ولباناً ومرَّاً "
وتوَّجَها بثلاثةٍ: "اللهِ والإنسانِ والحريّةِ".. ثلاثةٍ في واحد: هو الوطن..
شوقي وتحيتي لأستاذيَّته وتلمَذَتي على يديه
التي لم ينقطع لها نياطٌ وإنَّما امتدّت وشائجها إلى "رابطة أصدقاء المغتربين
(بيت المغترب)" حيث للاغتراب حُظوةٌ من اهتمامٍ وعطفٍ وحنين, لأنه جذورنا وأنصافُ
قلوبِنا في العالم.. وحيث من شجرته اليانعة وأشواقه المزمنة انطلقت نشرتُها "سنونواً
" ليصير "عبد المعين" عرابه ومحرِّرَه.. خوافيَه وقوادمَه.. صوتَه الصادحَ بأغاني
الرُّجوعِ ومنقاره الكاسح يباس القشور.. كما كان يفسِّره مؤلَّفُه الأثيرُ:
"موسوعة الحمام والطير"..
أشواقٌ وأشواقٌ.. تحايا وذكريات.. أنثرُها عروقَ
ريحانٍ وخُزامى على قبركَ الحمصيِّ القريب: خيارِكَ الأغلى ـ يا معلم ـ وعهدُ
بنوَّةٍ وصدقٍ أردّده من جديدٍ في عالم ظلالِكَ: بأن ندمنَ صوتَكَ الأبويَّ
الهادرَ بضيائِكَ وجمرِكَ.. وَأن نظلَّ فرعاً طيِّباً من جذعِ داليتكَ, نؤمن
بألقِ الماضي وأصالتهِ, ونتفاعل مع تطورِ الحاضر ونضارتهِ مجتهدين ـ مثلك ـ بألا
تنحنيَ لنا قامةٌ أو تنكسرَ لنا إرادةٌ, أو تنشلَّ على شفاهنا كلمةٌ ترسم لنا
أبعادَ وجودِنا الإنسانيِّ وقرارَنا القوميَّ, وتغسلُ عن أرواحنا الحَسَكَ
والوجعَ, علَّنا بذلك نصنعُ انعتاقَنا إلى الحضارةِ والنور وبالتالي إلى نصرنا
العربي المؤكَّد... آمين
الأديب الياس لازار
في ذمة الله
بسام حلواني
خسرت حمص رجلاً من كرام رجالاتها في الأدب والوفاء والأخلاق
ونعني به الأديب القاص
الياس لازار توفاه الله يوم السبت 28 تموز 2007 إثر مرض أقعده
فترة وجيزة في البيت فقضى مأسوفاً عليه.
ولد في حمص 1937, درس في اعدادية القديس يوسف وفي الثانوية
الغسانية.
أحب المسرح تلقائياً.
وساهم في المسرح الحمصي تأليفاً وتمثيلاً وإخراجاً وقد عمل في
الفرقة الكشفية /14/ وقد أخرج ومثَّل في ثمانية مسرحيات على الأقل.
وهو يتجسد في قصصه بتلك النفثات الانسانية التي تفيض بانتصار
الخير والواجب في بساطة متألقة بالمشاعر الحميمة التي تضفي الجمال والتألق على
قصصه.
وأسرة السنونو التي عرفت الفقيد صديقاً وأديباً يرفدها بنتاجه
الخصب.
المها المصاب الجلل ولايسعها إلا أن تتقدم بأرق مشاعر التعازي
القلبية طالبة للفقيد الرحمة والرضوان ولأسرته العزاء والسلوان
|
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق