مجلة السنونو (
العدد التاسع ) -
بحث مهجري
|
|
الاغتراب
في أميركا اللاتينية ( د. رفلة كردوس )
|
|
الاغتراب في أميركا اللاتينية
د. رفلة كردوس
تعتبر الهجرة ظاهرة طبيعية, لأن الحركة والانتقال
هما أساس النظام الكوني في الحياة, فالكائنات الحية تنتقل إلى حيث يمكن التلاؤم مع
البيئة: النبات ينثر بذوره وينتقل على أجنحة الريح والحشرات, وهجرة الحيوانات
البرية والطيور موسمية غريزية, تخضع لظروف المناخ والغذاء والأمان, كما أنها نابعة
من غريزة البقاء وناموس الجذب الحياتي: طيور السنونو...
بالنسبة للإنسان, تعتبر الهجرة ظاهرة اجتماعية,
ويسميها المفكر توينبي: هجرة تحدي وهي هادفة, تسعى كلياً للرزق أو الحرية أو
الأمان, وقد ساهمت الهجرة في إعمار الأرض, وارتياد مجالها, وهي وسيلة لنشر الحضارات
والثقافة وتبدل الخارطة الديموغرافية في العالم. لقد ظل الوطن العربي يرفد العالم
بالموجات الحضارية, بدءاً من إفريقيا إلى أوروبا عبر الأندلس وصولاً إلى أمريكا
التي اكتشفها الفينيقيون قبل كولومبوس بقرون عديدة. وقد انطلق الفينيقيون من إرواد
وصور وصيدا,ى في مطلع القرن الثاني الهجري, عبر عبد الرحمن الغافقي جبال البرينيه
وفتح البلاد الأوروبية حتى مدينة براتييه حيث استشهد هناك, وقد حمل العرب معهم إلى
البلدان التي فتحوها ثقافتهم وحضارتهم وعاداتهم, وكانوا أرحم الفاتحين الذين عرفهم
التاريخ.
إذا عدنا إلى الهجرة العربية إلى قارة أمريكا, لا
بد من طرح السؤال التالي: من اكتشف أمريكا؟ إبان الحكم الأندلسي, خرج مغامرون تسعة
في سفينة عبر الأطلسي, انطلقوا من مرفأ في البرتغال ولم يعودوا.
تروي بعض الكتب التاريخية بأن الفينيقيين الذين
كانوا سادة البحار أوهموا العالم آنذاك بأن مضيق جبل طارق هو حدود الدنيا, وقد
أبحروا عبر الأطلسي ووصلوا إلى مقاطعة باربيا البرازيلية عام /33/ ق.م ولم تزل
منقوشة بارابيبا باللغة الفينيقية موجودة في متحف ريودي جانيرو, وقد ترجمها العالم
البرازيلي نيتو.
في عام /1922/ ظهر كتاب العالم اللغوي في جامعة
هارفارد, ليو وينر, بعنوان "إفريقيا واكتشاف أمريكا" وقد درس وينر الكلمات التي
توجد في لغات هنود أمريكا, فوجد أن أقدم تلك الكلمات لها أصول عربية, وقد وجدت في
لغات الهنود عام /1290/ أي قبل كولومبوس بقرنين.
في عام /1956/ أعلن عالم الأجناس الأمريكي الدكتور
جيفرز أنه يؤيد الفكرة القائلة بأن العرب اكتشفوا أمريكا قبل كولومبوس, استناداً
إلى ما توصل إليه في بحثه حول أصل نبات الذرة وانتشاره في العالم.
في عام /1966/ أصدرت دار نشر سوفياتيه كتاباً يحتوي
على صورة المخطط الذي كتبه الملاح شهاب الدين ابن ماجد الملقب أسد البحر, وقد تحدث
ابن ماجد عن رحلة قاد فيها فاسكودي جاما حول رأس الرجاء الصالح ثم إلى جزر الهند
الغربية.
من كل ما سبق, ندرك أن الهجرة العربية إلى العالم
الجديد لها جذور عميقة في التاريخ. وقبل الحديث عن الجذور الحديثة لا بد من الإشارة
إلى ما يلي:
في عام /1878/ قام امبراطور البرازيل دون بيدرو
الثاني بزيارة إلى سورية ولبنان, وقد أعجب بمدينة دمشق وسماها في أحد رسائله
اسمرالدا الشرق, وفور عودته إلى البرازيل بدأ بتعلم اللغة العربية على يد العالم
اللغوي إبراهيم اليازجي, وعندا أهداه هذا الأخير كتاباً بالعربية, كتب الإمبراطور
عليه بعض السطور باللغة العربية, ولايزال الكتاب محفوظاً حتى اليوم في متحف
بيتروبوليس بالبرازيل.
ازدادت وتائر الهجرة بعد الزيارة, مثلما ازدادت إلى
فنزويلا في عهد الرئيس ماركو في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
أما أسباب الهجرة, فهي تعود إلى عوامل اقتصادية أو
سياسية أو فكرية, يضاف إليها الطموح وحب المغامرة لدى السوريين واللبنانيين بشكل
خاص. كما أن نجاح المغتربين الأوائل لا يستهان به كأحد الدوافع للهجرة والاغتراب,
يجب ألا ننسى أجواء القهر الفكري في العهود الاستعمارية والذي أدى إلى هجرة الأدباء
وأصحاب القلم المبدع كالشاعر القروي إيليا أبو ماضي والمعلوف وغيرهم.
تحقق الحلم الأندلسي من جديد في دول أميركا
اللاتينية, ودخل المغتربون بجوازات سفر تركية فأطلق على المغترب لقب توركو, وحمل
معه صفات العربي مثل الكرم والوفاء والإقدام والصبر والمثابرة وقوة التحمل
والأمانة. وبالرغم من الصعوبات التي لاقيها المغترب بدء من مرافئ الشرق ومروراً
بالموانئ الأوروبية وصلاً إلى سواحل الأطلسي الغربية, فقد صمد وبرهن أنه إنسان غير
عادي في شجاعته وقوة تحمله. وصل إلى موانئ أمريكية جنوبية جيوبه شبه خاوية, لا يعرف
كلمة واحدة من لغة سكان بلد الاغتراب, نام أحياناً في الحدائق وعلى مقاعد الاستراحة
في الساحات العامة, بدأ من الصفر, يعمل ماسكاتي بالكشة, وحمل البضائع إلى كل بقاع
الغابات الأمازونية وبعد أعوام صار تاجراً كبيراً ومؤثراً في حياة البلد
الاقتصادية, ولا نبالغ أبداً إذ أطلقنا على الرواد الأوائل من أجيال المغتربين صفة
الأبطال, لأنهم كانوا أبطالاً حقيقيين واندمجوا بالمجتمع اللاتيني الأمريكي.
ما دمنا نتحدث عن الجانب الاغترابي الاقتصادي,
سأورد مثالاً بسيطاً عن إمكانية المغتربين السوريين واللبنانيين في مدينة سان
باولوا وضواحيها.
في عام /1974/ وبموجب احصائية رقمية دققة, كان
المغتربون يملكون مايلي:
* 400
مزرعة للمغتربين العرب من أصل 800 مزرعة في ولاية سان باولو.
* 6 معامل
قمصان من أصل 10 معامل.
* 22
معملاً للجوارب من أصل 96 معملاً.
* 14
معملاً للألبسة من أصل 48 معملاً.
* 3 معامل
للقبعات للعرب وحدهم.
في الستينات من القرن الماضي, كانت نسبة 60% من معامل الحديد والفولاذ
في كل أنحاء البرازيل لآل يافت من حمص, كما يملكون شركة ملاحة ومصرفاً خاصاً بهم.
أحد المزارعين اللبنانيين يملك 5000 كم2 من الأراضي
الزراعية, أي ما يعادل 2/1 مساحة لبنان تقريباً.
في الجانب السياسي, عشرات بل مئات النواب
الفيدراليين والمحليين هم من أصل عربي, عشرات من حكام الولايات من أصل عربي, ولا
ننسى أنهم وصلوا إلى سدة رئاسة الجمهورية في أكثر من بلد أمريكي جنوبي.
في الجانب الثقافي, بعض الشعراء الذين ذاعت شهرتهم
خارج حدود بلد الاغتراب, أذكر منهم: جورج مدور, والأديب منصور حداد.
في الجانب الاجتماعي, أقام المغتربون عشرات المنشآت
كالنوادي و المشافي في دور الأيتام والعجزة والمدارس والجامعات وهي تستقبل أبناء
بلد الاغتراب الأصليين مثلما تستقبل أبناء الجالية, أذكر على سبيل المثال:
المشفى السوري اللبناني, مشفى أمراض القلب السوري,
نادي حمص, الناجي السوري, نادي حلب, النادي الأنطاكي, نادي جبل البنان, بيت الأيتام
السوري. وهنا لابد من التنويه إلى وزير الصحة سابقاً البروفيسور أديب جعيتاني حيث
يقولون في البرازيل: قلوب البرازيليين بين يدي الدكتور جعيتاني, كما أذكر الطبيب
النبكي: سلمون الشايب, مدابن صافيتا, الدكتور ميشيل عواد وغيرهم كثيرون.
في الحقيقة, نحتاج إلى مجلدات للإحاطة بما حققته
الجالية العربية في بلدان الاغتراب, والمغترب يعيش في قلب الوطن مثلما يعيش الوطن
في قلبه.
أيـهـا
الســادة:
في بلد الاغتراب, ومنذ الأيام الأولى لوصولهم
لوطنهم الثاني, أدركوا أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك وباشروا بالعمل والكد
وتذييل الصعاب, تعلموا لغة أهل موطنهم الجديد وتعرفوا وتأقلموا مع مجتمعات ومناخات
أطلسية أمازونية جديدة عليهم وتاجروا وسافروا إلى بقاع لم تصلها أقدام التجار في
السابق وشيئاً فشيئاً صاروا رسل حضارة وتحسن وضعهم من تجار شنطة إلى تجار محلات
وانتقلوا للصناعات النسيجية والمعدنية…الخ
جاء أولادهم فطرقوا أبواب الجامعات والمجالس
المحلية والبرلمانات والوزارات ووصلوا في بعض البلدان إلى سدة الرئاسة.
وهكذا أثبت هؤلاء المغتربون العمالقة للعالم كله أن
الإنسان العربي قادر على صنع المعجزات حين تتوفر له البيئة المناسبة والاستقرار.
إن الإنجازات التي صنعتها الجالية العربية عامة
والسورية خاصة في جميع بلاد أميركا الجنوبية وخاصة البرازيل التي يعيش فيها حسب
الإحصائيات الأخيرة حوالي /8/ ملايين سوري هذه النجاحات والإنجازات تحتاج إلى
مجلدات للحديث عنها.
وبعد زيارة الرئيس البرازيلي لسورية عام /2003/
والاستقبال الحافل الذي لاقاه من الشعب العربي السوري, كل ذلك يبشر بتطور العلاقات
بين سورية وكافة بلاد الاغتراب وخاصة البرازيل التي تحتضن أكبر جالية عربية في
العالم, نأمل أن تزداد الاستثمارات البرازيلية في سورية, وكلما اتجهنا إلى تعميق
الصلة بين المغترب والوطن الأم كلما ساهمنا في خدمة الوطن وبلدان الاغتراب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق