مجلة السنونو (
العدد التاسع ) -
الافتتاحية
|
|
نهاد شبوع
|
|
عندما تصبح الرابطة محطة
رئيسة التحرير: نهاد شبوع
من دفتر
الذكريات.... تلك
الرسالة..!!
من قلب أوراق عتيقات
غاليات... تنسلُّ رسالةٌ لم ينطفئ لها أرجٌ, ولم يهمد لها نبض... رسالة سائلة
حائرة, عَبَرت ــ يومها ــ بحاراً, ومخرت زماناً, ووصلت إليهم.. تعاش اليوم على
شواطئ حاضرٍ واقعاً راهناً, بجواب أخضر غير حائر.. لم يعبر بحاراً... ولم يمخر
زماناً... جواب من أطلعوا على الرسالة من الجيل الرابطي الجديد... ممّن جرّبوا أن
يقرؤوها قراءة جديدة...جواب... شُبِّهَ لي ــ تفاؤلاً ــ بأنه الترجيع الدائم أو
الصوت القادم من أمداء المستقبل,الجازم أبداً: بأن الروابط بين المغتربين ووطنهم
الأم ــ منذ دبيب أول قدم لانسان في هجرة عن أرض ــ مكتوب لها أن تظل متوقّدة
بقنديل دهري وهّاج الحنين, هيهات أن ينضب له زيت.. أو يذبل له خيط فتيل.. أو تفلت
من غمرات نوره جزر قصية لنا فيها أكثر من غائب مشوق حبيب.. من دأب هذا القنديل أن
يشفَّ عن دروب بعيدة لهم.. وأن يشقَّ معابرَ غفرانٍ وإيمان أمامهم, يلجون منها إلى
المكان الأول الأغلى ــ إلى مغاني المنى والحلم والذكرى.. لائذين مشوقين.. إذ
تتقلّص أمداء.. ويقرب منزلٌ.. وتهون غربة.. ويصبح الوطن على مرمى قلب أو أدنى!! على
رشقة عين أو ألصق..!! وتبقى المسافات بينه وبينهم خرافة المكان والزمان..!!
حمولة سنونونا إليكم
يهوّم سنونونا التاسع هذا
في فضائكم طاوياً لكم بين أجنحته تلك الرسالة العتيقة وجوابها الطازج المستجيب ورقة
قدرٍ دائمة الوعد والخضرة.. فلربما هو جوابكم ــ أيضاً ــ يطوّب الرابطة, هو الآخر,
محطة أماً للقطر الذاهبة الآيبة.. وللأشواق المحتدمة المتعانقة... ولدمعة الإنسان
ــ علامته الفارقة ــ المترنحة أبداً ما بين مدٍ وجزرٍ.. لقاء وفراق..!! أو فلنقل
لتبقى الرابطة عملاً مفتوحاً على الرحب الإنسانيّ.. بدايةً دائمةً.. حضوراً مشعّاً
وكأنه المستقبل, يسمّر أهلنا في الضفاف الأخرى ــ جذوراً أم فروعاً ــ بيننا,
موجودين أبداً.. بأبهى أشكال وجودهم واغترابهم المزروع في أوطان العالم نوراً
وحضارة.. معهم نعلي نشيدَ بقائنا ولقائنا.. ترجيعاً منغّماً مسعداً..
وسنرسخ في جيلٍ
آتٍ جذراً روّاه مَنْ عبروا
مرساةً إن جـافى
شـطٌ يحضنْها شوق ينتظرُ
عندما تصبح الرابطة محطة
هو محور الرسالة المنوّه
بها, مع خطرات مبعثرة ناء بها القلب, فأُفسح لها ـ يومهاـ ما بين السطور!
كانت موجّهة إلى الشاعر
المهجري المرحوم " زكي قنصل " عقب آخر زيارة ــ(وضع عليها الموت ختمه)ــ لشقيقه
الشاعر الكاتب المرحوم " الياس قنصل " إلى الوطن, حيث التقته "الرابطة" في حمص.. في
جلسة ممتعة على ضفاف عاصيها..!! (كان ذلك صيف1979).
لقد كان تعرفي بالأديبين
الأخويين المذكورين ــ وجهاً لوجه ــ في مهجرهما (بونيس آيرس الأرجنتين) إبان
زيارة, كُتبت لي, لهذا المهجر الآهل بالأحبة الغائبين, في السبعينات, وفي
جلسات (ندوة الأدب العربي) الأربعاوية بالذات هناك.. تلك الندوة التي كانت تضم
كوكبة ممّن تبقّى من أدباء المهجر ــ أنذاك ــ من الذين ربما كانوا آخر حمولة في
مراكب الإغتراب, أذكر منهم من تسعفني به الذاكرة.. الشاعر عزيز كباس وشقيقه وشقيقته
الاعلامية الصديقة (دلال كباس) أمد الله بعمرها, المرحوم يوسف العيد, المرحوم رامز
شقرا, الدكتور عبد اللطيف اليونس (أطال الله بقاءه)..الخ
وكان زكي والياس بينهم
القلب النابض المحرك المصمم بحماسة وعناد على أن يظل يضخها بأغلى قطرات الحياة
لتبقى خصيبة, وليطول عمرها على أرض الهجرة.. وليظل صوتها المميز المضمخ بالحب
والإنسانية مالئ الدنيا.. ليظل قادماً إلينا من وراء البحار مُتَشَبِثاً بالرمق
الأخير لأدب شهير نما وزكا في الغرب بجذور شرقية ليتفجّر في الغرب والشرق إبداعاً
مفرداً واسماً مشرقاً: (أدب المهجر).
هذه الندوة.. كم هفت إلى
تحقق مشروع "رابطة أصدقاء المغتربين" في حمص ــ أم الاغتراب ــ فترة التأسيس.. لذلك
كم من أيدٍ داعمة مدّتها, وعيون رانية أرسلتها, وحروف بيّنة دبجتها, لتبرز
هذه الرابطة ولتتجسد وكنة لقاء حنون ــ في الوطن الحضن ــ لعصافير مهاجرة زمن البرد
والريح.. لا سيما وأن زارع بذرتها و الناشط الأكبر المتحمس لمشروع تأسيسها, المغترب
الحمصي المرحوم رامز شقرا, كان من بين أدبائها الوطنيين المشوقين.. كما أسلفت..
طيب الله ثرى من ذكرت ـ
أجمعين ـ.. وطوّب إلى الأبد عطرهم وذكرهم مع كل هبة نسيم..
الرسالة
التاريخ
:( ايلول 1979)
((
شاعري العزيز ..
من مدة ليست
ببعيدة يغادرنا الأستاذ الياس ، وكانت "رابطة أصدقاء المغتربين" في حمص قد استدعت
قطاره إلى محطتها، وما كان أكرمه إذ لبّى وما كانت أكبر سعادة المحطة يوم لبّى..
ويحي : أسمّي
الرابطة "محطة" ؟! ترى أليس موجعاً أن تكون " الرابطة " محطة ؟ والمحطات لاتعرف
إلا المرور العابر .. وومضات اللقاء المبتور .. وهي ليست أكثر من مواقع انتظار
يختلط فيها معنى اللقاء بمعنى الوداع .. بل ليست أكثر من ولوع سريع بقطر تمكث
قليلاً ، ثم تسافر ليمكث بعدها شوق جديد يعشش بين خرائب الفرح .. ويستوي مشروع حزن
آخر في أماكن أخرى من القلب ؟؟؟
بل اليس الأوجع أن
تكون خفقة المحطة مما لا يمتّ بصلة إلى صفاقة الحديد وقوانين الفيزياء .. وآلية
المضخات .. وتوتر الأسلاك .. بل أن تكون عكس كل ذلك : توتر قلب ينسى وهو لا يريد أن
ينسى! لجاجة فراشة معلق جناحها بدبوس على خشبة شوق ..! جديلة أعصاب وشرايين دقيقة
مرهفة .. ممزقة ؟...
ما كنت لأزعجك
بمثل هذا التساؤل الخاطر بغرابة في أرجاء روحي لو لم أعرفك أنك عرضة أيضاً لمثل هذه
التساؤلات الخاطرة .. وما كنت لأكشف النقاب عما خطر لو لم أكن على يقين بأن كلينا
مبتلى بداء الشاعرية ! بل ما كان أغناني عن فضح هذا الوجه الموجع للرابطة ـ الذي
ربما لم يتراءَ لرابطي غيري ـ لو لم أعرف أنك تحمل " وردة الحزن ما دمت تحمل وردة
الشعر .. ! " ومع ذلك لك أن تضرب بهذياني عرض الحائط إذا كان غريباً مجنوناً هذه
المرة .. فكل ما يشغل بالي ان تكون بخير .. وشعرك بخير وتسامحك معي على تقصيري بخير
، وأن تكون حمولة الأشواق والتحايا التي زججتها سراً وعلناً في حقائب الأستاذ الياس
قد وصلت معه بألف خير وخير ، رغم أنف كل الرقابات الجمركية .. وكل موازين المطارات
المحاسبة ..!....الخ
بين
قوسين:
(
إلى هنا تكون الرسالة قد أدت المرام من الموضوع المذكور, ولكنني آثرتُ ألاّ أقطع
عنكم تهويماتي, إذ السنونو بحد ذاته رسالةِ هائمة من الضفة إلى الضفة.. والرسالة
تتكتبها خلجاتٌ إنسانيةٌ طارئة, صحيح أنها وليدة ساعتها, لكنها تظل قادرةً على أن
تكون, هي الأخرى, محطات حياةٍ خالدة في كل زمانٍ ومكان تتلاقى, فيها قُطُرُ
المشاعرٍ البشرية أو تفترق على الدوام...! فاسمحوا لي إذن أن أجدف قليلاً معكم في
بحور خطراتي خارج الموضوع لأعود بكم إليه..!)
هذا الصيف بعدت’ عنك
ورقاً وحبراً .. ولم أبعد عنك فكراً وذكرا ً، وأنى لي أن أبتعد عن نجم شوقٍ وشعرٍ
يتوهج في كهف أيامنا المظلمة ؟ أنّى لي أن أبتعد عن الشعر والشعراء وأنا أحوج ما
أكون إلى رفة من أجنحتهم ..وإلى همسة من صوتهم المسكون بالحب والحياة؟!
كم أودّ لو أقطف
لك كلمات من الشجرة نفسها التي تقطف … ولكن من أين لحديقتي اليابسة شجرة الخصب
والشعر هذه ؟ من أين لسمائي الموحشة حقول الزرقة ومراقص النجم لأقطف وأقطف؟
صيفي الراحل توزّع
هذا العام بين داخل وساحل .. هناك حيث غمرتني أمواج البحر وأمواج الشمس ، وكلاهما
رفيق !! يفتحان صدرهما دون أقنعة .. وفي كنفهما يمنع اصطحاب الهموم .. والأقفاص ..
ولا يتاح الالتقاء بهما إلا بشيمة العصافير …
وفي هذا الصيف
ودعنا الارشمندريت ميصائيل حجار إلى مرقده الأبدي .. لا أعلم أيضاً لماذا يطفو
وداعه على رأس ريشتي لينصبّ على الورق المسافر إليك ؟ ربما لأن وداعه عنى في نفسي
هؤلاء الذين يموتون بشعور المظلوم الظامىء إلى شيء مسلوب يظنه من صميم حقه ! هؤلاء
الذين يرحلون بدموع عمرهم الذي هو في عقيدتهم مطعون .. مظلوم .. هؤلاء الذين يخرجون
صفرَ اليدين من معركة الدهر سواء أكان موضوع العراك معهم أو عليهم ! مات .. ولم
يخسر الحب .. ( حب حمص) .. وربحنا نحن الحزن ، وكان جرحه نصره وما أقسى ألا يتحقق
نصرنا إلا بجرحنا .
استأنفنا العمل
المدرسي في حرّ أيلولي بفكّك الدماغ ويسحق الأعصاب ، وكأن الطبيعة تدخل هي الأخرى
في حلف غير مقدس ضد المعلم لتزيد من قهره . عصير القلب تتلقفه الطالبات من جديد ..
والمكافأة لا تتعدى عقداً من ياسمين تضفره طالبة معجبة . أو كلمة حلوة حيية يختلسها
سمعنا أحياناً ـ نحن المعلمين ـ ..! وما دمت أنثر قمحي بكل هذه المجانية .. فلماذا
أخشى أن يكون موقعه الصخر .. وأي شيء نكون مهنتنا ـ نحن المعلمين ـ إن لم تكن صناعة
المستحيل واستنبات السنابل من الصخر ؟!
عدد من المغتربين لا
يزال بين ظهرانينا يملؤون الشقوق الفارغة من أيامنا الهاربة .. وقد يعودون إلى
مهاجرهم في نهايات صيفنا ، وربما لا نعدم نحن بوداعهم انتظاراً جديداً لقطر جديدة .
رجائي أن تسامح تأخري وتستأنف إطلاق فراشاتك تحط على شباكي فتؤنسني . فلقد اعتدت
عليك جدولاً تعطي بلا حساب .. لك من أشواقي ومحبتي ولمن تحب من أمانيّ وتحيتي .
اذكر اسمي مشفوعاً بألف عاطفة أمام إخوان ندوة الأدب العربي معمِّماً
ومخصصاً.
للأستاذ الياس شكرنا
وأمانينا وتهنئتنا بسلامة الوصول ، وللأخ الاستاذ عبد اللطيف اليونس من تحايانا
وتحايا الوطن وللأخ رامز ألف نسمة حمصية عابقة بكل ما يحب . و"لبوينس
آيرس"
ألف وردة ذكرى,
لا تزال تنبت في أرجاء روحي فتعطرها…!!
الرابطة تذكر اسمك
فتستضيء وتزداد شوقاً إلى معرفتك وتأمل .. فاسلم ودم .
نهاد شبوع
جواب
الرسالة ( صوت الحاضر المبشر المنوه به في البداية )
بقلم: ناجي درويش
وهل
يملك بيت المغترب إلاّ أن يكون محطة تاريخ؟
"أديبتي الكبيرة . .
أن
تكون "رابطة أصدقاء المغتربين" محطة هو خاطر اقترب من ذهنك أولاً، لكنك لا تحملين ـ
واعذريني ـ براءة اختراع هذا التساؤل الجميل ؟.
فهل
تملك هذه الرابطة " البيت العتيق " إلاّ أن تكون محطة تاريخ وميناء حضارة ؟..
أو
ليس هذا البيت.. ميناءَ ضفاف العاصي المترعة بوعود العودة واللقاء..، ومن ذا يستطيع
تعبئة العاصي في زجاجة؟..
أو
ليس هذا البيت منعطف الشموع ومحطة النور، والدليل الأقوى على كروية الأرض وتلاقي
ذرات الروح وقوافل الحنين..
أو
ليس مكان التعارف الإنساني الرفيع، وجسر الوصل بين عابد ومعبود.. مسافرو وطن..
نرجّع فيه كل يوم غناء تراتيل الحكاية.. ( حكاية الرحيل وملاحم الهجرة )..
وهذه
الجدران البيضاء المستوية ببساطة آسرة.. كم تحيط من باقات وردٍ تهنئ بسلامة الوصول
وكلماتِ وداعٍ رقيقة وأحبة لا يكادون يستقبلون عزيزاً حتى يتركوه ؟..، من تهافت
أمهاتٍ على أبناء.. وأصدقاءٍ على أصدقاء.. وتوفيقٍ يقدّم على طبق من دعاء ؟..، من
إعلانات فراقٍ وآمال لقاءٍ وهواءٍ مشبعٍ بأول إكسير الشوق ؟..، ومن صورٍ مبعثرة في
تشتت ذهنٍ عمرُه نصف قرنٍ من الزمان.. بل كلّ الزمان ؟.. من ساعاتٍ تسرعُ في
الدوران على هواها وتبطئ على هواها ؟..
دليني على محطة كهذه.. تقسو فيها الشجونُ على المشاعر وتذرف العيونُ دموع الإيمان
والأمل !..
دليني على محطة كهذه.. يبدأ فيها مسلسل الاغتراب.. ولا ينتهي !..
وهذه.. أليست أرضَ المجدِ الإنساني الرفيع، أرضَ الشرق المقدس حيث تستطيعين أن
تعثري على عيون العالم المبهورة كلِّها.. ومن ذا يشرب من زيت الشرق المقدس ولا
يرتوي ؟..
على
هذه الأرض،الرصيف، المدينة، الحنون.. ألا تلمح عيناك كل يوم:
طفلاً يجري ويلعب متجاهلاً ما يدورُ حوله، حياته خفيفة كالغبار ؟..،
أو
واقفاً مع الواقفين وجالساً مشلوحاً على مقعد انتظار ؟..
وآخر
يتنقل جيئة وذهاباً ترمق عيناه أسرابَ السنونو تحوم في سماء المدينة تبتلعها
المحبةُ حيناً وتلفظها أسبابُ الحياة حيناً آخر ؟..
على
هذا الرصيف المدينة الحنون.. ألا نرسم الخطى بأدمعنا ثم نمشيها ؟
وإليه . . أما حاول الإمبراطور (فيليب العربي) استرجاع طفولته ؟..
أجل.. في هكذا محطة فقط يصبح الرصيف حلماً حين يستقبل قطاراً يفترش نور الشمس،
دافعاً أمامه هواءً مميزاً، في ذراته دفء اللقاء وبرد الوداع..، قادماً ليسقط جبروت
صمت الجدران..، حاملاً القادمين من كل فجّ عميق والراحلين فوق سكة من سفر.. لتثبت
المحطة.
إذا
لم أكن قد أترفت في الحديث وأعتقدني تقشفت، اسمحي لي أن أُعيد إليك سؤالك الطلب:
هل
من الممكن أن تفقد آمالُ الفراشاتِ أجنحتها.. وهل يستطيع القلب إلاّ أن يكون محطة
للدم؟..
أديبتي العزيزة ..
في
الملاحم لا تجدين سوى القيل والقال، ولكن.. ماذا لو قررت محطتك كتابة مذكراتها ؟..
|
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق