الأحد، 29 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد التاسع ) - دراسات رائدتان في الصحافة النسوية ( ميشيل جحا - بيروت )

مجلة السنونو ( العدد التاسع ) - دراسات
رائدتان في الصحافة النسوية ( ميشيل جحا - بيروت )

 

رائدتان في الصحافة النَسَوية

ماري عجمي سيّدة "العروس" القوية الشكيمة

  ماري يني عطا الله سيّدة "منيرفا" نصيرة الحقيقـة.

 
          ميشيل جحا (بيروت)
ولدت ماري عجمي في دمشق في الرابع عشر من شهر أيار (مايو) سنة1888. وهي أبنة عبده يوسف العجمي، أنتقل جدها من حماه إلى دمشق في القرن الثامن عشر، وبما إنه كان يرحل إلى بلاد العجم للمتاجرة بالحلي سمّي بالعجمي.
          دخلت ماري المدرسة الايرلندية في دمشق وهي ابنة خمس سنوات ثم انتقلت إلى المدرسة الروسية، كما درست التمريض في الجامعة الأميركية في بيروت سنة 1906 ولأسباب صحيّة لم تكمل دراستها الأخيرة. ثم مارست التعليم في زحلة وبور سعيد والإسكندرية ودرّست في المدرسة الروسية في دمشق وعلّمت كذلك في فلسطين والعراق.
          ولكن ماري عجمي عرفت كأديبة وشاعرة وصحافية أنشأت مجلة "العروس" سنة 1910 فكانت أول مجلة نسائية في سورية. كما مارست الكتابة في الكثير من الصحف والمجلات. وكان لها نشاط بارز في الحقل الاجتماعي والنضال الوطني.
          عاشت في فترة عصيبة في عهد الطغيان العثماني وما خلّفه من ظلم وجور واستبداد. وفي عهد الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان. لم تكتف بنشاطها في حقل التعليم والصحافة والكتابة ونظم الشعر بل دأبت على غرس الحس الوطني الصحيح في صدور الطالبات وتوجيههن نحو التقدم والتحرّر، فأسست الجمعيات والنوادي النسائية للقيام بتلك المهمة.
          في مسيرتها النضالية التقت بالمناضل بترو باولي الذي كانت تسميه "الباثر" وتواعدا على الزواج بعدما جمعت بينهما روح النضال والكفاح ومحاربة الظلم والاستبداد العثماني. ولكن حظها كان سيئاً لأن خطيبها قبض عليه الأتراك وسجن ثم أعدم وكان أحد الشهداء الأبرار الذين شنقهم جمال باشا السفّاح. ولم تستطع إنقاذه من حبل المشنقة على رغم تحديها الجنود الأتراك وزيارته في سجنه في دمشق ونقل الرسائل إليه وتشجيعه والوقوف إلى جانبه في محنته.
          وهي ظلت تذكر حبيبها الذي ذهب ضحية الغدر والظلم واستمرت في نضالها ضد الأتراك والدفاع عن حرية شعبها وحثه على مقاومة الاستبداد. ولم تتزوج. وكانت الصحافية الوحيدة التي تسنّى لها أن تدخل السجون في دمشق زمن الحكم العثماني والإطلاع على ما فيها من فساد وقهر واحتقار للكرامة الإنسانية.
          وحول موضوع السجون زمن الحكم التركي كتبت مقالات عدة تصف فيها ما شاهدته في زياراتها لتلك السجون.
          " كنت أزور بعض أصدقائي الأدباء في سجن القلعة، الذين زجوا مع المجرمين بتهم بحث عنها المجلس العرفي فلم يجدها، كنت انحدر أربع درجات إلى الباب الحديدي ويصعدون لمواجهتي على ثمان درجات إلى الباب حيث نلتقي والمنديل على انفي لا اجرؤ على انتزاعه بسبب الروائح النتنة المنبعثة من جوف ذلك السرداب. فكنت اختصر ما أمكن من الكلام لأنجو بنفسي سريعاً إلى الهواء الطلق، غير رائية للدموع تترقرق من العيون الحمر المقرّحة الأجفان المنهلّة على خدود شاحبة هزيلة. فإذا توسّلوا  إليّ بالبقاء وقتاً أطول عصصت على المنديل وأنا أكاد اختنق متذرّعة بانهماكي في أعمال أخرى.
          كان وصفها الواقعي هذا للسجون في عهد الأتراك يثير النقمة في النفوس ويحفّز على الثورة، والانتفاضة ضد الظلم ويشحن الناس بدافع من الحميّة للتحرر.
          وهي لم تواجه الظلم العثماني وحسب، بل واجهت الاستعمار الفرنسي الذي نكّل بالشعب السوري الثائر في وجهه سنة 1925. وعلى رغم محاولة رشوتها واستمالتها لمهادنة فرنسا ـ كما تروي ـ رفضت كل الاغراءات وواجهتها بشجاعة مع إنها كانت بحاجة إلى المال وإلى الورق لإصدار مجلتها "العروس".
          وكتبت في مجلتها حول ذلك تقول:
          " بعد أيام قليلة انقضت على استيلاء فرنسا على دمشق جاءني شرطي برقعة، يدعوني فيها رئيس الوزارة الجديد إلى اجتماع أراد عقده. فكتبت عليها كلمة "تبلّغت" وأبيت أن ألبّي الدعوة... وبعد انعقاد الاجتماع، سألت عن القصد منه، فقيل لي إن مدير إدارة المطبوعات الفرنسية خطب في الحضور، وهم من الكتّاب، وعلّمهم كيف يكتبون، ووزّع عليهم ورقاً بلا ثمن، ووعدهم بالمساعدة.
          ولم يمر ردح طويل على ذلك، حتى طفق أحد معارفي يتردد كل مساء محاولاً إقناعي بأنني إذا هتفت لفرنسا وأنشأت الفصول، معددة الإصلاحات التي تقصد علينا الانتداب من أجلها، فزت بأجر شهري ضخم من الذهب الوهّاج. وفاجأته يوماً بقولي: ما هي تلك الإصلاحات التي تريد أن أكتب عنها؟ قال: على أن أتيك بقائمتها مرة بعد أخرى. وعليك إقناع القوم بها شفهياً وخطابة وكتابة. قلت: لتنجز فرنسا أولاً ما تعدنا به من الإصلاحات. فأقوم بذكرها مجاناً... وكان جوابي له آخر عهدي به".
          كانت ماري عجمي رائدة في ميدان النثر والشعر كما في ميدان الصحافة. إذ أصدرت مجلة "العروس" التي تعد من المجلات المهمة في زمن الطغيان والاستبداد والتسلّط حيث كانت تنشر مقالاتها النارية التي كانت ثورة على الظلم والطغاة. وقد أجمع الذين كتبوا عنها أنها كانت تقف إلى جانب الحق ولا تعرف غير الصراحة تدافع عن حق المرأة وتعاضدها في نيل حقوقها وتعمل على إعلاء شأنها.
          تقول عنها وداد سكاكيني وقد عرفتها عن كثب: " لم يعرف الأدب النسوي في قديمه وحديثه كاتبة زهدت بزينة الحياة والأنثى كما كانت ماري عجمي منذ صباها. فقد ظهرت على سجيتها وشكلها متأبية على كل تمويه وزيف، والبساطة في كل شأن من شؤونها كانت لها شعاراً، فهي متجلية في سيرتها ولبوسها، وفي معيشتها وسمتها. وما رآها الناس حتى في أيام شبابها وتألق أدبها في زينة أو زخرف، على عادة أكثر النساء. إذ كانت ماري تدرك بعقلها وشعورها أن وسيلة الأديبة إلى الرجل أدبها ومواهبها لا زينتها ودلالها. وحديثها الفيّاض بروحها وقلبها لا في غرورها ومآدبها. وهذا مصداق ما آثر عن ماري عجمي، فقد جمعها إلى نخبة من وجوه المجتمع النسائي نصير للمرأة، ليلقين كاتباً أجنبياً جاء البلاد العربية متطلعاً شؤون المرأة فيها وأطوار وعيها ونهضتها. فلمّا اقبلن عليه بالتحية وكنّ في أحسن زي وأغنى مظهر نظر إليهنّ طويلاً متأملاً ممتحناً، وكان نصير المرأة العربي يقدم النسوة بأسمائهن مقرونة بالأديبة والصحافية والشاعرة والمجاهدة، وحين وصل دور الآنسة ماري عجمي وكانت في بساطتها المعهودة بالرداء والطلعة واللقاء تبسّم الأجنبي الأديب وقال لنصير المرأة: يبدو أن هذه المرأة هي الأديبة الحقيقية".
          وعن أدبها يقول أمين نخلة:
          " لا أعرف في الأقلام النسويّة قلماً كالذي تحمله ماري عجمي. فهو شديد شدة أقلام الرجال، لطيف لطف أقلام النساء، في آن معاً. ولعمرك، هيهات أن يجتمع النساء والرجال على شيمة واحدة اجتماعهم في أدب ماري عجمي".
وكان الأديب والشاعر أمين نخلة قد جعلها خاتمة كتابه "الأستاذة في النثر العربي" الذي صدر سنة 1993.
          وأما خليل مردم بك فيقول عنها:
         
"جمعت ماري بين الصناعتين النثر والنظم، فلها المقالات والخطب والقصائد، وعالجت الترجمة كما عالجت الإنشاء".
          ثم يقول: " لا أحب من غواية المرأة ألا غوايتها في الأدب، وأكثر ما يعجبني من أدب المرأة هو سحر الحياء. وهذان المعنيان ماثلان في الآنسة ماري عجمي وفي أدبها".
          يقول عيسى فتوح، وكان ألتقاها في أواخر حياتها وزارها في منزلها، يصف لنا هذا المنزل الدمشقي:
          " هذا المنزل الأثري الذي كنت أتمنى أن يصبح في يوم من الأيام متحفاً يضم تراث ماري عجمي وأشياءها. وهو دار دمشقية واسعة، في صحنها بركة ماء، وأشجار، وأزاهير شتى، ومرايا. وكانت هي في الدور الثاني تنشر بعض ثياب غسلتها بنفسها. وكان من عادتها، أواخر أيامها، أن تزاول أعمالها وأمورها الخاصة بنفسها، ولا تترك حتى لأختها، مجالاً لذلك. هذا البيت الذي يقع في الحارة الجوانية من زقاق "طالع الفضة". ثم يصف لنا شخصيّتها فيقول:
          كانت صاحبة نكتة فريدة وسخرية لاذعة. ولا يكاد يخلو عدد من أعداد مجلتها "العروس" من بعض النكات التي تنقلها لقرّائها ممن برعوا بهذا الفن أمثال مارك توين، وجورج برنادشو، حتى أنها كانت تتندّر على نفسها لتضحك الحضور كما كان يفعل الجاحظ في زمانه.
          توفيت ماري عجمي في دمشق في 25 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1965 عن 77 عاماً بعدما عاشت شيخوختها في عزلة وبؤس وانقطاع عن الناس بسبب المرض. وعندما توفيت لم يشارك في جنازتها سوى نفر من المخلصين لها مشوا وراءها إلى مثواها الأخير في مقبرة الباب الشرقي للروم الأرثوذكس في دمشق.
          ويذكر عيسى فتوح أن ماري عجمي ماتت من دون ضجيج أو جلبة. حتى أنه لم يرافقها إلى المقبرة سوى 16 شخصاً من أقربائها ليس بينهم أديب سوى فؤاد الشايب.
  
§       ماري يني صاحبة مجلة "منيرفا"
 
   يعود نسبها إلى أسرة يونانية الأصل قدم جدها يني بابا دوبولس ـ الذي أبقى على أسمه الأول (يني)، وتعني باليونانية (حنا)، وأسقط أسم عائلته (بابا دوبولس) التي تعني باليونانية (أبن خوري أو كاهن) في أوائل القرن التاسع عشر ونزل في أحد أديرة دمشق. وهي شقيقة قسطنطين عبــدو ينـي
(1885ـ1947) الصحافي والأديب والمناضل المعروف.
ولدت ماري يني عطاالله في بيروت سنة 1895 ودرست في مدرسة زهرة الإحسان على الشيخ إبراهيم المنذر (1875ـ1950) ثم مارست التعليم كما أسست مجلة منيرفا" ـ وهي رمز الحكمة عند الأغريق ـ التي ظهرت أسبوعية خطية أول الأمر عام 1916 ثم أعادت إصدارها في 15 نيسان (ابيريل) سنة 1923 مجلة تعنى بالأدب والفن والأجتماع. كرّست حياتها لمجلتها التي كانت تقول عنها: " ستظل منيرفا أنا وأنا منيرفا فليس لدي من عوالم الحياة ما هو أسمى منها مطلباً وأعزّ شأناً ".
تزوجت ماري يني سنة 1926 من إبراهيم عطاالله في حمص وسافرت معه إلى تشيلي حيث كان مقر تجارته. وظلت مواظبة على إصدار مجلتها يساعدها شقيقها قسطنطين إلى أن توقفت عن الصدور سنة 1930.
          وعلى رغم توقف مجلتها لم تتوقف عن الكتابة فكتبت في مجلة "الفجر" لصاحبتها نجلا أبي اللمع وكذلك كتبت في جريدة "الأحرار" لصاحبها جبران التويني، وفي مجلة "المكشوف" لصاحبها فؤاد حبيش.
وتعتبر مجلة "منيرفا" ثاني مجلة نسائية تصدر في لبنان بعد " فتاة لبنان" لصاحبتها سليمة أبو راشد التي تأسست عام 1914. وهي مجلة رائدها الصدق والكشف عن الحقيقة. ناضلت في سبيل حرية الرأي وخدمة المرأة والمجتمع. ودأبت على نشر المقالات الأدبية لكبار الأدباء والشعراء، ومعالجة القضايا الفكرية والاجتماعية ونشر القصص المترجمة والمكتوبة بالعربية. وقد أفسحت المجلة للكتاب والأدباء في المجال لنشر أفكارهم من دون تحفّظ مما أعطاها صفة من التنوّع يحلو للقراء أن يجدوها في المجلة التي تعكس أحداث العصر.
مارست ماري يني التدريس في حمص فعلّمت في المدرسة الروسية اللغة الفرنسية وتولت إدارة مدرسة "المخلص" في بيروت، كما مارست مهنة الصحافة فكتبت مقالات نشرتها، إضافة إلى مجلتها "منيرفا "، في مجلات: الفتاة، والفجر، والمرأة الجديدة، والخدر، وسركيس، والمعارف، والكرمة، وجرائد: لسان الحال والبرق والحقيقة والنصير والشعب والأحرار والسلام والبريد والميزان والسائح وسواها من صحف بيروت والشام ومصر وسان باولو ونيويورك.
كما ألقت خطباً ومحاضرات في كثير من المدن مثل: بيروت وحمص ودمشق وصيدا وطرابلس وزحلة وبكفيا والشوير والشويفات.
وأشتهرت ماري يني في الخطابة كشهرتها في الكتابة وعاشرت الأديبات والأدباء واستقبلتهم في منزلها جاعلة منه "صالون" أدب لأهل الأدب على اختلاف مذاهبهم. واستطاعت مجلة "منيرفا" أن تستقطب كبار الكتاب والشعراء للمساهمة في الكتابة فيها أمثال: أمين الريحاني وأمين نخلة والشيخ فؤاد الخطيب وسلمى صائغ وفوزي المعلوف وجبران خليل جبران، والشيخ إبراهيم المنذر وشفيق المعلوف وبدوي الجبل وماري عجمي والشاعر القروي وشبلي الملاّط وجبران التويني وعيسى اسكندر المعلوف ومعروف الرصافي. وهذا دليل كاف على أهميتها والدور الذي لعبته في حقل الصحافة النسائية.
ولم تهتم مجلة "منيرفا" بشؤون المرأة فقط بل تناولت موضوعات شتى تهم القراء مثل موضوع شهداء 6 أيار 1915، الذين شنقهم السفّاح جمال باشا إذ حرصت كل عام على أن تتحدث عن هذا الموضوع جاعلة منه مناسبة وطنية يجب التذكير بها واستخلاص العبر منها.
كما حاربت الابتذال في الصحافة السطحية التي تعتمد الأغراء وتعمدت الأسلوب الأدبي الرفيع والثقافة العميقة التي تفيد القرّاء. ولم تسع إلى إثارة الضجيج من حولها ونشر الدعاية لها وللعاملين فيها.
وأما أسلوب ماري يني في الكتابة فيتسم بالواقعية وبما تسبغه من احاسيسها التي تعبّر عن نبضات قلبها وومضات فكرها وخلجات وجدانها فيأتي سهلاً وواضحاً فيدخل قلوب القرّاء من دون استئذان.
 كانت مجلة "منيرفا" غنية بالمواضيع المتصلة اتصالاً وثيقاً بالحياة الإنسانية، فاهتمت بنشر مقالات تتناول حضارة الشعوب وثقافاتها وعاداتها وأخلاقها والتي تعنى بالتوجيه التربوي والتعليم والمدارس، وكذلك بالفن على اختلافه ومن بين أبواب المجلة النقد الأدبي، يضاف إلى ذلك كله شؤون المرأة، وما له علاقة بتحريرها والأخذ بيدها وانتشالها من الجهل والخنوع.
           وكانت تقف في وجه التعصّب الطائفي وتدعو بجرأة إلى الثورة والتمرّد. وأما باب "قصة العدد" فكان يمتاز بالقصص القصيرة ذات المغزى الاجتماعي تهدف إلى توجيه النصح، بعضها مترجم وبعضها الآخر مستمد من واقع المجتمع. وفي المجلة نجد الظرف والفكاهة. وأما في المقال الافتتاحي فكانت تعالج موضوع الساعة. وفي ذكرى الشهداء في السادس من أيار (مايو) من كل سنة كانت المجلة تتناول هذا الموضوع الوطني المهم.
كانت ماري يني أول بيروتية تصدر مجلة شاءت لها معالجة مواضيع تهم المرأة بالدرجة الأولى عبر مقالات وأبحاث تتناول الأدب والشعر والثقافة والحضارة والتربية والتعليم وما إلى ذلك. وعملت بحسب إرشاد أمين نخلة الذي كتب لها في إحدى رسائله يقول: " أؤثر المجلة النسائية العربية أن تكون على ظرف "الزهور" وفائدة "المقتطف" وتنوّع أبحاث "الهلال". هذه هي المجلة التي تظنينها لك وما هي بالعسراء على إحدى نابهات القطر، وحاملات لواء الأدب الصميم فيه".
وكانت المجلة تقدم كتاباً هدية للمشتركين لتشجيعهم على شرائها والاشتراك فيها. وهي قد فهمت الصحافة على أنها: "فكر يجول في دماغ مفكر نابه، فيصبح حقيقة ثابتة تتمشى عليها الشعوب، ووحي عاطفة عميقة هادئة، تثور لاهتزازها جوانب الأقطار، هي همس يختلج بين شفاه فرد واحد، فيتحول صداه إلى صوت هائل يدوّي بين ألوف الجماهير، كما تقول في تقديم مجلتها في الجزء الأول.
وعملت في حقل التعليم قبل أن تمارس الصحافة واشتهرت بالخطابة وكان منزلها مثابة صالة أدبية يجتمع فيها الأدباء والشعراء ورجالات الفكر. وحتى بعد سفرها مع زوجها إلى سانتياغو عاصمة تشيلي أنشأت هناك "الندوة الأدبية" على غرار "الرابطة القلمية" في أميركا الشمالية التي تأسست سنة 1920 و"العصبة الأندلسية"  التي تأسست في البرازيل سنة 1933.
ومجلة "منيرفا" كان رائدها الصدق والكشف عن الحقيقة في ما تنشره من آراء وأخبار. حملت مشعل الحرية في إبداء الرأي وأفسحت في المجال لنشر المقالات النقدية ووضعت خدمة الإنسان في أولويات اهتماماتها. كما دعت إلى التجديد ونبذ التقليد في المواضيع الأدبية وإلى توعية القراء وحثّهم على الترقي.
كما كان لها اليد الطولى في معالجة القضايا الاجتماعية بنشر القصص الاجتماعية. كما كانت تنشر القصائد والقصص الأجنبية المترجمة.
وباختصار تناولت "منيرفا" المواضيع الأدبية من قديمة ومعاصرة وأخضعتها للنقد والتحليل وظلت سائرة بحسب الخطة التي رسمتها لها صاحبتها مستوحية آراء أدباء عصرها في هذا المجال ضمن باب "منيرفا وقرّاؤها" إلى جانب نزعة التجديد التي اختلجت في صدرها وملأت نفسها الكبيرة فاقتنعت بوجوب العمل على زعزعة الجذور القديمة من عاداتنا وعيوبنا التي فتكت سمومها بكياننا الاجتماعي وآمنت أن تقدم المرأة مقياس للتقدم الحضاري لأمة من الأمم وإن المجتمع العربي يفتك فيه داءان عضالان تخلف حضاري واضطهاد المرأة. وبالتالي فإنه يتوجّب على الصحافة التي هي رسالة قبل أن تكون حرفة أو صناعة أن تدعو إلى حرية الفكر وصراحة الرأي من أجل التصدي لهذا الواقع الأليم.
تقول عنها عنبرة سلام الخالدي في كتابها "جولة في الذكريات بين لبنــان وفلسطيــن"  (ص168) : "هناك صحفيات بينهن صديقات كنت على اتصال حميم بهنّ، مثل ماري يني صاحبة مجلة "منيرفا " وهي رمز الحكمة عند الإغريق"، وأعتقد أن اختيارها لهذا الاسم كان لاتصال نسبها باليونان، وقد عكفت على مجلتها تغذيها من روحها وأدبها وتخرجها إلى الناس بحلّة شيقة تجمع الذوق والأدب الجمّ، فتمثل صاحبتها أجمل تمثيل، فهي الأديبة الرقيقة الناعمة التي تسير في هذا الكون بلطف جذاب وسعي دؤوب، وتخطط لغاياتها، من غير عنف وتبدي آراءها من دون إصرار أو تسلط، ولم تدم مجلتها طويلاً بل أخذت صاحبتها أمواج الغربة إلى خارج لبنان، فتوقف العمل، وولجت هي باباً آخر، هو باب تأسيس عائلة جديدة لا شك في إنها أعطتها كل السعادة بما لديها من عطف وحنان وكفاءة".
          تقول ماري يني في إحدى افتتاحيات مجلتها بما ينم عن نفسيتها وأخلاقها: "في حياة الناس لذة غير السعي وراء المادة، وفي النفوس أمنية غير كسب المال وحشده. وللمرء حياتان، حياة خاصة وحياة عامة وعليه واجبان، واجبه نحو أخيه، وواجبه نحو نفسه. فبتلك الحياة المزدوجة اليوم أتحرّك وبذيّاك الواجب المضاعف أسير تقودني هاتيك اللذة الخفية التي تتصل بحياتي الخاصة وهي سر بيني وبين الأقدار بل واجب نفسي نحو نفسي، وأندفع بتلك الظاهرة التي تربطني بحياة الأكوان وترغمني راضية للعمل من أجل الواجب العام فرض الإنسانية عليّ وشرط أبنائها على نفسي.   
          إلى أن تقول: "وإني لباذلة جهدي في سبيل إرضاء المجموع. رائدي الإخلاص وقائدي المبدأ القويم. فإذا ما اكتنفتني بواعث الخذلان لجأت إلى ما في صدور المحيطين بي من دفائن الإخلاص واستعنت بها للسعي في إصلاح الخلل، جهد المستطاع، حتى أقف وأمامي القوم في مستوى واحد أرضي به نفسي ويرضي به عني أبناء قومي". ثم تلخص الهدف من إصدار مجلتها والدور الذي اختارته لها فتتابع قائلة: "هذه هي "منيرفا" التي أخرجها إلى سوق الأدب، وملء فمها عظة الأديبات الرائع، آملة أن تكون مع أخواتها العامل في الوصول إلى الغاية التي ينشدها الناس في بدء التطور الاجتماعي، وهي منذ الآن ملك خالص للقارئين أوصيهم بها خيراً وهو حق صريح على المالكين".
          في سنة 1975 توفيت ماري يني ـ وليس كما أوردت خطأ ناديا الجردي نويهض في كتابها "نساء من بلادي" حيــث  تقـول
 (ص274) إنها توفيت سنة 1967 ـ فكانت نموذجاً فذاً للمرأة المناضلة في سبيل خدمة أمتها.     
 
                                     عن جريدة الحياة
 
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق