مجلة السنونو (
العدد التاسع ) -
بين قوسين
|
|
المنفى
المتدرج ( محمود درويش )
|
|
المنفى المتدرج
محمود
درويش
لم تنته الطرق لأقول, مجازاً, إن الرحلة ابتدأت.
فقد تُفضي بي نهايةُ الطريق إلى بداية طريق آخر. وهكذا تبقى ثُنائيّة الخروج
والدخول مفتوحةً على المجهول.
كنت في
السادسة من عمري حين خرجتُ إلى ما لا أعرف, حين انتصر جيشٌ حديث على طفولة لم يكن
يأتيها من جهة الغرب إلا رائحة البحر المالحة, وغروب شمس الذهب على حقول القمح
والذرة. لم تتحول السيوف إلى محاريث إلاّ في وصايا الأنبياء. وانكسرت محاريثنا في
الدفاع عن طمأنينة العلاقة الأبدية بين ريفيّين طيّبين وأرضٍ لم يعرفوا غيرها ولم
يولدوا خارجها, أمام حرب الغرباء المدججين بطائرات ودبابات وفَّرت لرواية حنينهم
البعيد إلى "أرض الميعاد" شرعيّة القوة. كان الكتاب يتغذى من القوة, وكانت القوة
بحاجة إلى كتاب.
منذ
البداية, صاحب الصراع على الأرض صراعٌ على الماضي والموز. ومنذ البدابة, كانت
صورة داود هي التي ترتدي دروع جوليات, وكانت صورة جوليات هي التي تحمل حجر داود.
ولكن ابن
السادسة لم يكن في حاجة إلى من يُؤَرِّخ له, ليعرف طريق المصائر الغامضة التي
يفتحها هذا الليل الواسع الممتد من قرية على أحد تلال الجليل, إلى شمالٍ يضيئه
قمر بدويّ مُعَلَّق فوق الجبال: كان شعب بأسره يُقتلع من خبزه الساخن, ومن حاضره
الطازج ليُزجَّ به في ماضٍ قادمٍ. هناك... في جنوب لبنان, نصبت خيام سريعة العطب
لنا. ومنذ الآن, ستتغيَّر أسماؤنا. منذ الآن سَنَصيرُ شيئاً واحداً, بلا فروق.
منذ الآن, سَنُدْمغ بختم جمركي واحد: لاجئون.
ــ ما
اللاجئ يا أبي؟
* لا شيء,
لاشيء, لن تفهم.
ــ ما
اللاجئ يا جدي, أريد أن أفهم.
ڤ أن لا
تكون طفلاً منذ الآن!
لم أعد
طفلاً, منذ قليل. منذ صرت أميِّز بين الواقع والخيال, بين ما أنا فيه الآن وما
كان قبل ساعات. فهل ينكسر الزمان كالزجاج؟ لم أعد طفلاً منذ أدركت أنّ مخيمات
لبنان هي الواقع وأن فلسطين هي الخيال. لم أعد طفلاً منذ مَسَّني نايُ الحنين.
فكُلَّما كبر القمر على أغصان الشجر حضرت فيَّ رسائل مبهمة إلى دار مُرَبَّعة
الشكل, تتوسطها تُوتةٌ عالية, وحصان متوتر, وبرج حمام, وبئر. على سياجها قفيرُ
نحل يجرحني مذاقُ عسله, وطريقان معشوشبان إلى مدرسة وكنيسة, واسترسال يفيض عن
لغتي...
هل سيطول
هذا الأمر ياجدي؟
إنها رحلة
قصيرة. وعمّا قليل نعود.
لم أعرف
كلمة "المنفى" إلاّ عندما ازدادت مفرداتي. كانت كلمة "العودة" هي خبزنا اللغوي
الجاف. العودة إلى المكان, العودة إلى الزمان, العودة من المؤقت إلى الدائم,
العودة من الحاضر إلى الماضي والغد معاً, العودة من الشاذ إلى الطبيعي, العودة من
علب الصفيح إلى بيت من حجر. وهكذا صارت فلسطين هي عكس ما عداها. وصارت هي الفردوس
المفقود إلى حين...
حين
تسلّلنا, عبر الحدود, لم نجد شيئاً من آثارنا وعالمنا السابق. كانت الجرافات
الإسرائيلية قد أعادت تشكيل المكان, بما يُوحي بأن وجودنا كان جزءاً من آثار
رومانية, لا يُسمح لنا بزيارتها. وهكذا لم يجد العائد الصغير إلى "الفردوس
المفقود" غير ما يشير إلى أدوات الغياب الصلبة, والطريق المفتوحة إلى باب الجحيم.
لم أكن في
حاجة إلى من يؤرِّخني, أنا الحاضر الغائب. ولكن المخرجة السينمائية سيمون بيطون
ستذهب بعد خمسين عاماً إلى مسقط رأسي لتصوير بئري الأولى وماء لغتي الأول,
وستصطدم بمقاومة من سكان المكان الجدد, وتسجِّل هذا الحوار مع المسؤول عن
المستوطنة الإسرائيلية:
ــ لقد
وُلد الشاعر هنا.
ڤ وأنا
أيضاً. حين وصل أبي إلى هنا لم يلق سوى الأطلال. أعطونا خياماً ثم أكواخاً.
أنفقتُ عشرين عاماً في بناء بيت لي, وتريدينني أن أعطيه إياه؟
ــ ما
أريده هو أن أصوِّر هذه الأطلال, أطلال ما تبقى من بيته. إنه في عمر والدك, ألا
تخجل؟
ڤ لا تكوني
ساذجة, إنهم يريدون حقّ العودة.
ــ أتخاف
من أن يحصلوا عليه؟
ڤ نعم
ــ وأن
يطردوك كما طردناهم؟
ڤ أنا لم
أطرد أحداً. أنزلونا من الشاحنات وقالوا لنا: ههنا تدبروا أمركم. لكن من هو درويش
هذا؟
ــ إنه
يكتب عن هذا المكان, عن شجرات الصبّار هذه. عن هذه الأشجار, وعن البئر.
ڤ أية بئر.
هناك ثماني آبار. كم كان عمره؟
ــ ستّ
سنوات.
ڤ وعن
الكنيسة؟ هل يكتب عن الكنيسة!؟
كانت هناك
كنيسة لكنها دُمِّرت. أبقوا على المدرسة من أجل البقرات الحلوبات والعجول.
ــ حوَّلتم
المدرسة إلى إسطبل؟
ڤ لِمَ لا؟
ــ صحيح,
لِمَ لا بالنهاية؟ هم كان عندهم حصان. هل مازال هناك بعض أشجار الفاكهة؟
ڤ طبعاً,
حين كنا لا نزال أولاداً اعتشنا على ثمارها: تين و توت وكل ما خلق الله. إنها كل
طفولتي تلك الأشجار.
ــ وطفولته
أيضاً.
لم تكن
صحراء إذاً, ولا خالية من السكان. يولد طفل في سرير طفل آخر. يشرب حليبه. يأكل
توته وتينه, ويواصل عمره, بدلاً منه, خائفاً من عودته, وخالياً أيضاً من الإحساس
بالإثم, لأن الجريمة من صُنع أيدٍ أخرى ومن صناعة القدر. فهل يتسع المكان الواحد
لحياة مشتركة؟ وهل يقْوى حلمان على الحركة الحرة تحت سماء واحدة, أم أن على الطفل
الأول أن يكبر بعيداً وحيداً بلا وطن وبلا منفى, لا هو هنا ولا هو هناك.
سيموت جدي
كمداً, وهو يطل على حياته التي يعيشها الآخرون, وعلى أرضه التي سقاها بدموع جلده
ليورثها لأبنائه. ستقتله رائحة الجغرافيا المنكسرة على أطلال الزمان, لأنَّ حق
العودة من رصيف الشارع إلى الرصيف الآخر, لا يتحقق إلاّ مع مرور ألفي عام على
غياب يكفي لتطابق الخرافة مع الحداثة.
أما أنا,
فسأبحث عن "أخوّة الشعوب", في حوار لا ينتهي, عبر باب الزنزانة, مع سجان لا يكفُّ
عن الإيمان بأني غائب.
ــ مَنْ
تحرس إذاً؟
ڤ نفسي
القلقة.
ــ مم أنت
قلق يا سيدي؟
ڤ من شبحٍ
يطاردني. كلما انتصرت عليه ازداد ظهوراً.
ــ ربما
لأن الشبح هو أثر الضحية على الأرض؟
ڤ لا ضحيّة
سواي. أنا الضحية.
ــ ولكنك
القويُّ. القادرُ, السجّان, فلماذا تنازع الضحية على مكانتها؟
ــ لأبرِّر
أفعالي, لأكون على حق دائماً, لأصل إلى مرتبة القداسة, ولأنجو من داء الندم.
ڤ ولماذا
تحتجزني هنا. هل تظنني شبحاً؟
ــ ليس
تماماً. بيد أنك تحفظ اسم الشبح.
لعل الشعر
هو حافظ الاسم بجنوحه الدائم إلى تسمية العناصر والأشياء الأولى في لعبة لا تبدو
بريئة لمن يُسَيِّجُ وجوده بالاستحواذ المطلق على المكان وذاكرته, على التاريخي
والغيبي معاً. لعلَّ لا يكذب ولا يقول الحقيقة أيضاً شأنه شأن الحلم. ولكن تجربة
الاعتقال المتكررة أضاءت لي الوعي بجمالية الشعر وجدواه أو فاعليته. لا, يكن
الشعر لعبة بريئة مادام يدلُّ على كائن كان ينبغي له ألاّ يكون.
لكن المنفى
ينبت مرة أخرى كالحشائش البرية تحت ظلال الزيتون. وعلى الطائر وحده أن يوَفِّر
للسماء البعيدة نقطة العلاقة بأرض أُخرجت من خصالها السماوية.
لا تتمتع
جغرافيات كثيرة بوفرة التعدد الجمالي الذي تمتاز به أرضنا العاجزة عن إجراء
الانفصال الضروري عليها بين الواقع والأسطورة. كل حجر هنا يروي, وكل شجرة تحكي عن
الصراع بين المكان و الزمان. كلما ازدادت وطأة الجمال ازداد إحساسي بخفَّة
الغريب: أنا حاضر وغائب وسجين. نصف مواطن ولاجئٌ كاملُ الحرمان. أذرع شوارع حيفا,
على سفح الكرمل الموزع بين البحر والبرّ, وبي عطش إلى توسيع رقعة الأرض بحريّة لا
أجدها إلاّ في قصيدة تأخذني إلى الزنزانة. منذ عشر سنين لا يؤذن لي بالخروج من
حيفا. ومنذ اتسعت دائرة الاحتلال الإسرائيلي عام 67 ضاقت مساحة إقامتي: لا يؤذن
لي بمغادرة غرفتي منذ غروب الشمس حتى شروقها. وعليَّ أيضاً أن أثبت وجودي في مركز
الشرطة في الساعة الرابعة من بعد ظهر كل يوم. أما ليلي الخاص, ليلي الشخصي فلم
يعد لي: من حق رجال الأمن أن يطرقوا بابي في أية ساعة شاءوا, للتأكد من أنني
موجود!
لم أكن
موجوداً. كنت أرغم على العودة إلى المنفى التدريجي تدريجياً, منذ اختلطت حدود
الوطن والمنفى في ضباب المعنى. وكنتُ أحدس بأن في وسع اللغة أن ترمِّم ما انكسر,
وأن توحِّد ما تشتت. ولعل "هُنا" يَ الشعرية, المتحولة من أفق إلى قيد, كانت في
حاجة إلى توسيع منطق البعيد.
لكن
المسافة بين المنفى الداخلي والخارجي لم تكن مرئية تماماً. كانت مجازية مادامت
هذه البلاد, معنىً, أكبر من مكانها. وفي المنفى الخارجي أدركتُ كم أنا قريب من
بعيد معاكس, كم أنَّ هناك كانت هنا, لم يعد أيُّ شيء شخصياً من فرط ما يُحيل إلى
العام. ولم يعد أي شيء عاماً من فرط ما يمسُّ الشخصي. ستطول الرحلة على أكثر من
طريقٍ غالباً ما يُحْمَلُ على الكتفين. ستتأزم هوية مُحَرَّمة تُسْتَعْصَى على
التلخيص بــ: هجرة وعودة. ولا نعرف أيّنا هو المهاجر: نحن, أم الوطن. والوطن فينا
بتفاصيل مشهده الطبيعي, تتطور صورته بمفهوم نقيضه. وسيُفسَّرُ كل شيء بضده. سينمو
كثير من النرجس الجريح على أرض الهامش المؤقتة. ستحلُّ اللغة محلَّ الواقع, وتبحث
القصيدة عن أسطورتها في مجمل التجربة الإنسانية, وسيصير المنفى أدباً, أو جزءاً
من أدب الضياع الإنساني, لا لتبرد نار التراجيديا الخاصة بل لتدخل في تاريخها
البشري العام. لكن الإسرائيليين سيطاردون هذه المكانة. سيقولون إنهم هم المنفيون.
هم المنفيُّون الذين عادوا إلى العيش في مجالهم
العربي! ستجرَّد الضحية مرة أخرى من اسمها. فكما أن من حق الضحية الخاصة أن تخلق
ضحيتها, كذلك من حقِّ المنفيّ الخاص أن يخلق منفيَّه!
سيُتاح لي,
بعد ما يزيد على ربع قرن, أن أرى جزءاً من بلادي, غزة التي لم أرها من قبل إلاّ
في قصائد شاعرها الراحل معين بسيسو الذي جعلها جنَّته الخاصة. الطريق إليها عبر
صحراء سيناء موحش, يُسامره نبت صحراوي هنا وهناك, نخيل حار ودبابة تذكارية, وبحر
على الشمال. أما مشاعري فقد كانت مُرتَّبة بعقلانية باردة حيناً, ونهباً لخبرة من
يعرف الفارق بين الطريق والهدف حيناً آخر. تكاثر النخيل فجأة في العريش. ها أنذا
أقترب من المجهول الذي تمنيت لو يطول. ولكن سلطة الوعي على القلب تتراخى
تدريجياً: هيّا بنا قبل أن يهبط المساء. انتظر, قال لي صاحبي وزير الثقافة,
فالوطن في متناول اليد. والوطن هو ما تحسّ به الآن. هو هذا التوجُّس وهذا
الاضطراب. قلت: لعله هو هذا المساء الذي يتأهب فيه الحلم ليصبح أكثر واقعية.
لا أحلم
الآن بشيء. من هنا تبدأ فلسطين الجديدة: من هذا الحاجز الإسرائيلي. سيارة جيب
عسكرية, علم, وجنديّ يسأل المرافق بعربية رخوة: شُو معك؟ فيقول له: معي وزير,
وشاعر. أتحاشى النظر إلى كاميرات المصورين الباحثة عن فرح العائدين إلى الجنة.
وتلسعني أضواء المستوطنات وحواجز الجيش الإسرائيلي على جانبي الطريق. ولعلَّ أول
ما يفاجئني هو انكسار القوام الجغرافي وتشُّوه الخريطة. ولكن للمفاجأة جوابها
الجاهز: هذه هي البداية. غزة وأريحا أولاً, فنحن في أول الطريق, في أول الأمل.
لم أتمكن
من الوصول إلى أريحا. فكيف أصل إلى الجليل, وطني الشخصي؟ كان ذلك مشروطاً بشروط
قال لي إميل حبيبي أنه يخجل من نقلها. لكنه لم يعرف أنه سيرحل بعد عامين, وأن
جنازته ستوفِّر لي فرصة حزينة لأفرح بعودة قصيرة إلى الجليل, إذ حصلت على تصريح
لمدة ثلاثة أيام للمشاركة في تأبين إميل حبيبي ولزيارة بيت أمي. وهناك احترقت
بلهفة العودة, فمن هنا خرجت وإلى هنا أعود. ورأيتُ كيف يستطيع المرء أن يولد من
جديد: كان المكان قصيدتي.
لم ينقصني
شيء لأحقِّق موتي المشتهى في ذروة هذه الولادة. بيد أني, وأنا أحرم من اكتمال
الدائرة, كنتُ أدرك أن انسلاخ الأسطورة عن الواقع مازال في حاجة إلى مزيد من
الماضي, وأن تحرُّر الواقع من الأسطورة مازال في حاجة إلى مزيد من المستقبل. وأما
الحاضر, فلم يكن أكثر من زيارة يعود الزائر بعدها إلى توازنه الصعب بين منفى لا
بدَّ منه و بين وطن لا بُدَّ منه. فلا يُعرَّفُ هذا بعكس ذاك, ولا ذاك بنقيض هذا.
ففي كل وطن منفى, وفي كل منفى بيت من شِعْر.
ولم أعد
بعد. لم تنته الطريق لأقول مجازاً إن الرحلة ابتدأت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قيم نخشى الكلمات
إن تكن أشواكها بالأمس يوماً جرحتنا
فلقد لفت ذراعيها على أعناقنا
وأراقت عطرها الحلو على أشواقنا
إن تكن أحرقها قد وخزتنا
ولوت أعناقنا عنا ولم تعطف علينا
فلكم أبغت وعوداً في يدينا
وغداً تغمرنا عطراً وورداً وحياة
آه فاملأ كأستينا كلمات"
نازك الملائكة
|
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق