مجلة السنونو (
العدد السادس ) -
حمصيات عتيقة
|
قلب أبو
جاسم ( معتصم دالاتي )
|
قلب أبو جاسـم
معتصم دالاتي
كان أبو جاسم يعمل حمالاً أو عتّالاً
كما يدعونه في حمص. رجل في الخامسة والأربعين من عمره، كما اعترف بذلك. وإن كانت
هيئته تدل على أنه أكبر من ذلك بكثير. ذلك أن مأساة تفصح عن نفسها تسكن ملامح وجهه
القاسي، وهو رجل قوي البنية يستطيع أن يرفع من الأحمال ما لا يقدر عليه اثنان أو
ثلاثة حمالين مجتمعين.
تراه
يجلس ساهماً شارد الذهن على أحد الأرصفة في سوق الفيصل بحمص، وهذا هو مركز عمله أو
مكان تواجده. يطلب أحياناً كوباً من الشاي من بائع الشاي المتجول، أو يقدمها له
أحدهم ضيافة فيتقبلها بامتنان صامت. قليلاً ما يتباسط مع أحدٍ في الحديث، مع أن أهل
السوق يعرفون قصته التي كان يروي أجزاء منها باقتضاب لهذا أو ذاك دون أن يسردها
كاملة لأحد. إلاّ أن أجزاء القصة اكتملت لديهم حين تعاونوا على جمع تلك الأجزاء.
في
زمن أبو جاسم لم تكن وسائل النقل الحالية معروفة لأهل المدينة، وكان بعض الحمالين
يستعملون الحمار أو (الطنبر) وهو عربة خشبية يجرها حمار أو بغل. وبعضهم كان يعتمد
على قوة جسمه وعضلاته، وكان أبو جاسم واحداً من هؤلاء. وحين يأتيه الزبون ليتفق معه
على الحمل والمكان المراد إيصاله إليه يستمع أبو جاسم بهدوء ثم يطلب المبلغ الذي
يراه مناسباً. كانت المساومة على المبلغ حالة مألوفة لدى الجميع. وغالباً ما كان
أبو جاسم يقبل بأي مبلغ يعرض عليه، كأنه لم يكن لديه فُضلة من (خُلق) للمساومة. في
تلك الأيام كانت الفرنكات وأجزاء الليرة السورية هي المبلغ السائد لتلك الخدمات.
يأخذ
أبو جاسم وضعية القرفصاء، حيث يعطي ظهره للحمل إذا كان ثقيلاً ثم يتناول الحبل الذي
على كتفه ليمسك طرفيه بيديه الاثنتين ثم يشده بقوة، بعدها يربط طرفيه ببعضهما
ويسنده على جبهته ويهب واقفاً ليبدأ مسيرته.
إليكم
قصة أبو جاسم أيها السادة الأفاضل الذين تستمتعون بقصص الناس، ويسركم كشف أسرارها.
لم
يفت أبو جاسم يوم واحد دون أن يزور أخته التي دخلت المشفى الحكومي لإجراء عملية
جراحية، حيث تعرَّف على مريضة شابة ترقد على سرير مجاور لسرير أخته المريضة. كانت
تلك الفتاة تعاني من مرض عضال، وكان يبدو على ملامحها أثر جمال غطَّاه المرض
المزمن. وبما يحمل أبو جاسم في قلبه من إنسانية عالية فقد بدأ اهتمامه بها يبدو
واضحاً. فمرة يحمل لها العصير، ومرة الفواكة أو ما يشتهي لها من طعام. ثم اكتشف أن
بعض الأدوية التي تحتاجها غير متوفرة في المشفى، فكان يأخذ الوصفة الطبية ليحضر لها
الدواء. وكانت هذه المرأة كما فهم من بعض الممرضات أنها بحاجة إلى زمن طويل من
العلاج، وأنها مقطوعة من شجرة، لا أهل لها ولا أصدقاء.
لم
ينقطع أبو جاسم عن زيارة مريضته بعد أن غادرت شقيقته المشفى. ذلك أنه شيئاً فشيئاً
أخذ يشعر بمسؤوليته تجاهها. ولعل عواطفه كان لها علاقة بالموضوع. ولأن بقاءها في
المشفى ليس مجدياً، بل أن الأدوية التي يأتيها بها هي الوسيلة التي ربما يكون لها
دور في الشفاء بالإضافة إلى الغذاء الجيد، لا طعام المستشفيات.
فاتحها أبو جاسم بالموضوع. وقد رأى أن يعقد عليها قرانه لتستطيع أن تسكن معه.. ولأن
الامتنان يحمل شيئاً من المشاعر فقد وافقته وتم الأمر كما أراد.
أشهر
قليلة، أخذت صحة المرأة تتماثل للشفاء، وبدأت النضارة تعود إليها ليعود معها جمال
كان المرض قد غيَّبه. ولعل أبو جاسم آنذاك لم يكن ليحسد شاه إيران أو إمبراطور
الحبشة. فالسعادة كانت ترفرف عليه مع زوجة رائعة بكل المواصفات.
زمن
مرَّ على أبو جاسم حين أخذ يلاحظ تغيراً يصاحبه بعض النفور من قبل زوجته الجميلة
التي أصبحت مستاءة من شكل ومهنة زوجها العتَّال، إلى أن ضبطها مرة متلبسة مع شاب من
الجوار. فما كان منه إلاَّ أن غادر المنزل هائماً على وجهه لا يلوي على شيء.
سأله
أحدهم بعد سنوات تسع من تركه المنزل، إن كان مستعداً للتضحية ثانية لو التقى بامرأة
أخرى؟ ودون تردد أجاب نعم. ولعله كان يود أن يقول بأن القلب الكبير المفعم بالحب،
والمشرعة نوافذه على العالم لا تستطيع امرأة أن تغلق أبوابه بوجه كائن من كان.
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق