السبت، 7 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد السادس ) - فصل من رواية نعيمة : قصة أمي الطويلة ( إديث شاهين ) - ( قسم 1 - عربي )

مجلة السنونو ( العدد السادس ) - فصل من رواية
نعيمة : قصة أمي الطويلة ( إديث شاهين - ترجمة : رفعت عطفة )
نعيــمة،

Nahima

قصة أمي الطويلــة

La larga historia de mi madre

إديث شاهين

EDITH CHAHÍN

   ترجمة: رفعت عطفة

Traducido por:  Rifaat Atfé      
 
     وُلدت إديث شاهين في سانتياغو تشيلي، وهي ابنه لمهاجرين سوريين. درست في دار المعلمين والتعليم والعلوم الدينية في الجامعة الكاثوليكية في سانتياغو تشيلي وميونيخ في ألمانيا. اضطرّت بعد انقلاب بينوتشيت العسكري إلى مغادرة بلادها في عام 1973 لتقيم منذ ذلك الوقت في مدريد. كتبت السيناريو الإذاعي تحت اسم إديث كاسانييدا المستعار.
     تعتبر رواية نعيمة، قصّة امي الطويلة ثمرة جهدٍ هائل ومكثّف لاستعادة ذكريات ماضٍ يكاد يكون تلاشى بعد مئة عام.
     وها نحن نقدّم الفصل الأوّل من رواية: نعيمة، قصّة أمّي الطويلة، التي نقوم الآن بترجمتها بمعرفة الروائية لنقدِّمها قريباً إلى القرّاء العرب.
*  *  *
 
 
الفصل الأوّل
نعيــمة
إذا كنتَ تتذكّرها، فذّكر بها الآخرين.

                               لويس ِثرِنودا

     كانت في الخامسة عشر من عمرها يوم نادتها أمّها بتلك النبرة الرصينة الخاصّة بها، الودّية جدّاً والصارمة في آن معاً، أي تلك النبرة التي يستخدمها أولئك الذين يعرفون أنّهم سيُطاعون على الفور، فلا تقبل جواباً ولا معارضة، وتكاد تُنهي الحديث حتى قبل أن يبدأ...
     - يا فدوى، حضّري القهوة وإتي بها للزوار.
     كانت جملة بسيطة، أمراً، شبيهاً بأوامر كلّ الأيّام، لكن لا فدوى ولا نعيمة ولا الأم التي نطقت بتلك الكلمات حدست الخطورة التي كانت تنطوي عليها؛ حتى نعيمة التي تميزت دائماً بملكيتها لقوّة عقلية تتخطّى الحدس الأنثوي البسيط، لم تُخمّن الخلل الذي كان سيحدثه هذا الأمر الخارج من شفتي أمّها في حياتهنّ وحياة كامل العائلة.
     لم تستطع فدوى أن تكتم اختلاجاتها. نظرت إلى أخواتها بعيني غزالة مذعورة فوجدت نظراتهنّ مغروزة فيها ـ عشر زبرجدات سوداء نفذت إلى روحها ـ مليئة بالقلق والخبث، حرفتها صاحباتُها في اللحظة ليثبتنها على أشغالهنّ. وحدها نعيمة تمكنت من بقائها ثابتة على فدوى فبقيت الأختان تنظر الواحدة إلى الأخرى، وتحيطها بصمتٍ علماً بالأفكار العديدة التي ما كانتا تجرأن على التعبير عنها بالكلمات.
     جميعهنّ كنّ يعرفن معنى تلك الزيارة وتلك القهوة، لكنّهنّ لم يجرأن على التكلّم عنه: كان موضوعاً محرّماً، من إختصاص الوالدين حصراً.
     وبينما كانت الأخريات يغطين على ضحكاتهنّ، بمزيج من الارتباك والخجل، شعرت نعيمة بالدم يغلي في صدرها حين فهمت نظرة أختها، ابنة التاسعة عشر عاماً تقريباً، التي تكبرها بأربع سنوات، متوسّلة إليها أن تُساعدها عندما تأكّدت من عجزها أمام الوضع الذي عليها أن تواجهه؛ كانت على وشك أن تعرف الرجلَ، الذي جاء يطلبُ في تلك اللحظة من أبويها يدَها للزواج، قبل أن يكون قد رآها، وهو لن يعرفها إلاّ عندما ستُقدِّم إليه القهوة.
     كانت نعيمة تنظر إلى فدوى بملامح مبهمة، بفضول وسخرية، وهي تُفكّر في داخلها بالوضع: فدوى، الضامرة، الخجولة، المُتردِّدة، المُطيعة والمذعنة، لم ترها ولم تسمعها قط تُعارض أو تردّ على أمّها، وأقل من ذلك على أبيها، ذلك أنّ هذا كان ينقل أوامره من خلال الزوجة... ما الذي ستفعله في تلك الحالة بوجهها البريء وعينيها المذعورتين؟ هل ستُطيعُ أمر أمّها بشكل أعمى بالمثول أمام الزائر وتقديم القهوة إليه؟ ثمّ... هل ستقبل ذلك الرجل زوجاً، هكذا ولله بالله، لمجرّد أنّ والديها يأمرانها بذلك...؟
     كانت الأختان ما تزالان تنظرُ الواحدةُ منهما إلى الأخرى، في طقس أبدي من تناقل الأفكار.. دون أن تتكلّما.. دون أن تتنفسا تقريباً، ودون أن تشي أيّة حركة بالقلق الشديد في رأسيهما الصغيرين... كما لو أنّ أدنى إيماءة يمكن أن تُثير نهاية مشؤومة، لدغة أفعى، انهيار جبل جليدي، كانت نعيمة أوّل من فكَّ السحر. هزَّت كتفيها نافضة المسؤوليات التي يمكن أن ينطوي عليها القرار، متنصّلة منه، لكنها لم تسطع أن تتخلّص من النظرة التي أبقتها أختها ثابتة على نظرتها.
     كان باستطاعتهنّ أن يتكلّمن في مناسبات أخرى، معلقات فيما بينهنّ، بل وينتقدن بعض العادات القديمة التي تؤثّر عليهن ويرغبن بتبديلها، لكنهنّ ما كنَّ ليتجرّأنَ أبداً أن يفعلن ذلك بحضور أبويهنّ، ولا حتى بحضور أخواتهنّ الصغيرات. بالتحديد كانت الحالة تستحقّ في تلك اللحظة التعليقَ والنقد. ستجدُ فدوى نفسها مجبرة من قبل أبويها على الزواج من رجلٍ مجهول، دون استشارة مسبقة، وهذا الذي يحدث اليوم للكبرى سيحدث للبقية. كما لن يسألنها عما إذا كانت ترغب بالزواج، أو عمّا كانت تقبل، هن طيب خاطر، هذا إذا لم يكن بحماس، الرجل الذي يطلب يدها، أو ما إذا كانت ترفضه لأنّه أكبر منها مرّتين، أو لأنّه بدين، أو شاربيه مريعان، أو ببساطة لأنّها لا تُحبه...
     الحب! من كانت ستجرؤ على لفظ هذه الكلمة؟ الكلمة الجميلة التي لم تستطع شفاههنّ الطرية والفتية أن تتجرأ على النطق بها، لكنّهن يُدغدغنها بأفكارهنّ منذ أن تعلمن القراءة في كتاب النصوص الأوّل: الكتاب المقدّس. مبشِّرات الكنيسة، اللواتي كنّ يلجأن إليهن، بدأن تعليمهنّ القراءة والكتابَ المقدّس، فاتحات عالمهنّ على الثقافة والإيمان المسيحي في آن معاً. علّمنهنَ القراءة في أسفار العهد القديم: سفر التكوين، سفر الخروج وأخرى غيرها، وكذلك أسفار العهد الجديد، الأناجيل والرسائل، بل وحتى سفر الرؤيا، متجاوزات باستهتار تلك الكتب التي يمكن أن تطرح عليهن أسئلة صعبة، أو توقظ عندهنّ بعض المشاعر الممنوعة، مثل نشيد الأناشيد، الذي اكتشفته الأختان يوم تعلمتاه، خلسةً، عن ظهر قلب، كي تذكراه حين تكونان وحيدتين وتأرقان ليلاً، سائلة الواحدة الأخرى عن معاني: "قومي، يا حبيبتي، يا جميلتي وتعالي!"... ثدياك كَخَشفتي ظبية توأمَين يرعيان بين السوسن..."... " أنا لحبيبي وحبيبي لي". وكان الكتاب المقدّس يحتوي على كتابات مملّة جدّاً، أو غير مفهومة، لكنّه يحتوي أيضاً على كتابات رائعة، بل وحتى مثيرة. لماذا كان ممنوعاً الكلام عن هذه الأشياء، بل وحتى ذكرها، إذا كانت كلمات موحاة من الرب إلى مُختاريه؟ هل كان أبواهنّ مُخطئين؟ لا، لم يكن الذنب ذنب أبويهنّ، فهذا التصلب جاء من الماضي، من قرون سابقة، وبالتأكيد سيدوم قروناً أخرى... لن يرين هنّ التغييرات ولن يكنّ قادرات على الدفع بها، كيف سيجرأن على التقدم خطوة نحو التحرّر، إذا كان كلّما ظهرت امرأة تنوي الخروج على القمع والتحرّر من نيره، يُعاقبُها أبواها بالحبس والعزل، حين يتعلّق الأمر بفتاة عازبة، وإذا كانت مُتزوِّجة، فإنّ زوجَها يذّلها ويشكوها للسلطات؟ كم من النساء متن مرجومات أو مجلودات لمحاولتهنّ التحررّ؟ لم تعرف نعيمة أيّاً منهنّ، لكنّ عماتها وأمّها حكين لها ذلك. كانت تفكرُ أحياناً أنّهنّ يفعلن ذلك لمجرّد إخافتهنّ والإبقاء عليهن تحت المراقبة. ووصل الأمر بهنّ إلى القول بأنّ بعض النساء اللواتي لم يبغين إطاعة آبائهنّ أو أزواجهنّ سُلِّمن إلى الأتراك، الذين كانوا يجعلوهنّ يقطعن الصحراء حافيات ليسلموهنَّ لقائدهم، المتلهّف دائماً لزيادة عدد جواري حريمه.
     ومن جديد سُمِع صوت الأم:
     ـ يا فدوى، هل سمعتِ؟ حضّري القهوة.
     تمسّكت فدوى بعصبية بيدي نعيمة.
     ـ هل تريدينني أن أقدّم أنا القهــوة؟
 ـ سألت الصغيرة عفيفة، التي لم تكد تبلغ السابعة.
     ـ لا تحشري أنت نفسك في هـــذا ـ وبّختها كريمة، موقفة إيّاها من ذراعها.
     ـ أريدُ أن أرى الزائر ـ ألحّت عفيفة بِغِنج.
     ـ يا للأشياء التي تخطر لهذه الصغيرة! ـ زمجرت يولا ـ ألا تعرفين أنه ممنوع علينا أن نطلّ على الصالون حين يكون هناك زوّار؟
     ـ إذن ليأتوا إلى هنا كي نراهــم... ـ كانت الصغيرة تستنفد كلّ احتياطياتها في سبيل أن تحقّق نزواتها.
     تدخّلت كريمة مصالحة هذه المرّة.
     ـ أنتِ تعرفين أنّ الزوّار لا يستطيعون أن يدخلوا إلى هنا؛ هذا ممنوع أيضاً.
     ـ لكن إذار أراد أبونا... ـ يدٌ صغيرةٌ أيضاً، أغلقت فمها.
     ـ قلنا لك أخرسي وخلّصينا ـ قالت هدباء هامسة تقريباً في أذن الصغيرة، بينما راحت تحاول هذه التخلّص منها، خامشةً يدها.
     كانت عادة قديمة جدّاً عند بعض الطبقات أن تبقى البنات داخل البيوت دون أن يُطللن ولا حتى عندما يأتي زوّار إلى المنزل. وحدهنّ الصديقات أو القريبات اللواتي كنّ يذهبن مع أزواجهنّ للسلام على الوالدين، يستطيعون أن يدخلوا للتعرف على البنات في مكانٍ داخل البيت، حيث يقمن دائماً بعمل ما، لكنّ الرجال لم يكونوا يتمتعون بهذا الامتياز. لم يكن مسموحاً لهم الاقتراب من مكان تواجد بنات صاحب البيت، ولا هنّ يستطعن أن يذهبن إلى الصالون الذ ي يُدخن فيه هؤلاء ويتبادلون الأحاديث "التي لا تصلح كي تلامس مسامع النساء". الاستثناء الوحيد كان حين يحضر طالبُ يد بهدف الزواج من إحدى البنات، لكنّه لم يكن يملك الحق باختيار الأحلى أو الأذكى؛ فالشيء الوحيد الذي يستطيع اختياره هو العائلة، وكان يفعل ذلك مُفكراً بمستواها الثقافي، والاجتماعي، والديني والاقتصادي. وما إن يتمّ الاحتكاك الأوّل حتى يُقرّر الأبوان مَنْ سيُقدِّمان من بناتهما لطالب اليد، حيث يقع الاختيار دائماً على الأكبر سنّاً وطريقة تقديمها كانت بالضبط باستدعائها لتقديم القهوة للزائر ومرافقه، وهو عادة قسّ الكنيسة التي تنتمي إليها عائلة خطيبة المستقبل. لكن كلا الطرفين يطالب حذراً بكلّ أنواع التفاصيل، بهدف التمكّن من اتخاذ القرار، حيث كان القسّ يلعب دوراً حاسماً، آخر التفاصيل التي تتبقى لاتخاذ القرار هو أن يعرف طالبُ اليد الخطيبةَ، ليس كي يقبل، إذ عليه ألاّ يرفضها، أو أن يُلطّخ شرف العائلة، بل ليُتمّ الصفقة بعد أن يجرّب القهوة التي تُقدّمها هي إليه. تلك كانت الخطوة الأخيرة في طلب يد صبيّة في مدينة حمص، وكل ما عدا ذلك يتمّ الاتفاقُ عليه مسبقاً: فصاحب المصلحة يقدّم نفسه لأبوي العائلة، حتى دون أن يكون قد عرفهما من قبل، ويعرفُ فقط، من خلال الأخبار التي يُقدّمها له أصدقاؤه وأقاربه، أنّ الأمر يتعلّق بعائلة كريمة، وضعها الاقتصادي جيّد ومستواها الثقافي عالٍ، وأنّ لديها ثمانية أولاد، سبع بنات وأبناً واحداً وأنّ كلّ البنات يعرفن القراءة والكتابة، الطهيّ والخياطة والتطريز والحياكة والقيام بأعمال المنزل. بعدها يقدّم له الأبوان بعض التفاصيل الحميمة عن الفتاة المختارة: صحّتها، مزاجها، ذكاؤها، انتظام العادة الشهرية عندها ـ هذه المسألة في غاية الأهمية بالنسبة للذّرية ـ وأشياء أخرى مثل الصداق الذي ستتلقاه هذه وكلّ ما يبدو للمُتقدّم مهماً أن يعرفه. وفي الوقت ذاته يُعرّف هو بنفسه، وعائلته، باسمه ومكان ولادته، عمله وعمره، ورأس المال الذي يملكه، والمكان الذي سيقيم فيه؛ كما يجب أن يكون مستعداً للإجابة على كلّ الأسئلة التي يرغب والد الخطيبة المستقبلية أن يطرحاها.
     في هذه الأثناء كانت فدوى ما تزال تنظر إلى أخواتها اللواتي عدن ليحنين رؤوسهنّ فوق أشغال الإبرة. كنّ يُشكِّلن لوحةً جميلة من الفتيات، بشعرهنّ الأسود، شبه الأحمر تحت خيوط شمس مساء الشرق، بأثوابهن الطويلة، مختلفة الألوان، محاطات بنباتات ذلك الرواق، الشاهد على الكثير من الضحكات والزفرات والأسرار والأسئلة التي لا جواب لها.
     كانت السرائر السميكة التي تفصل الرواق عن بقيّة المنزل تهتزّ إلى هذا الجانب وذاك تحت ضغط يدٍ قويّة. الاتعشت فدوى حين رأت أمَّها وخفضت عينيها. نظرت الأخوات إلى الأمّ حين قالت بصوتٍ بدا صارماً:
     ـ فدوى! ناديتك كي تُحضّري القهوة لزوّارنا، ألم تسمعيني؟
     قالت ذلك وراقبت ابنتها، التي ارتبكت وسقطت منها كبب الحرير التي انفكّت على الأرض. شعرت بالاعتزاز بها حين رأتها بتلك الرقة والخجل والجمال والحلاوة، كما يجب أن تكون الفتيات المهذّبات في منزل كريم وصارم. لقد عملت سنوات طويلة في إعداد بناتها من أجل الخطوة التي ستقوم بها الكبرى الآن، وهي لن تسمح لأيّ شيء أن يعيق سير حفلة طلب اليد.
     كانت الإبنةُ الكبرى تعارك بين النحيب وجواب لا تجرؤ على إعطائه لأمّها، أو بالأحرى سؤال لا تجرؤ على صياغته. كانت تعلم تماماً أنّ عليها ألا تصوغه، ما من صبيّةٍ تملك الحق بطرح أسئلة عن الرجل الذي يطلب يدها، ولا حتى عن اسمه.
     ـ لكن، بُنَيَّتي... فدوى... ماذا بك؟ هل يعني أنّك لن تُطيعيني. هذا شيء مهم بالنسبةِ إليك وللأسرة كلّها...
     لا أستطيع.. لآ أستطيع!... ـ قالت منتحبة، مغطيةً وجهها بيديها.
     ـ هيّا، يا بُنيَّتي، تعالي إلى هنا، أجلسي لحظة، وقولي لي، ألا تريدين أن تتزوَّجي، تكوّني أسرة، يصبح لك بيتك الخاص، أولادك، زوجك، حياتك الخاصّة؟
     ـ أنا أتزوّج؟ يكون لي بيتي الخاصّ،... يكون لي زوج.. أولاد ـ كررّت فدوى، مطلقةً مع كلّ وقفة نحيباً واهناً، تمطّه عمداً، آملة أن تتمّ أمّها الجملَ بمزيدٍ من التفاصيل، لكنّها لم تتمكّن ـ ما زلتُ صغيرة جدّاً... ـ دافعت عن نفسها.
     ـ صغيرة؟، قريباً ستتمّين التاسعة عشر، ما عدت صغيرة. فالبنات يجب أن يتزوّجن في الرابعة عشر أو الخامسة عشر من أعمارهنّ؛ وبعد هذا السن يبدأ الناس يُفكّرون أنّ بها عيباً ما أو أنّها عاقر، أو على كلّ الأحوال تبقى منبوذة. هل هذا ما تريدينه؟
     بقيت فدوى ترتعش ونظرها مرفوعاً بخوف إلى أمّها، تكتم آلافَ الأسئلة الممنوعة، مئات الاحتجاجات، الرغبات العبثية بمعرفة ما ترغب بمعرفته كلّ الصبايا في مثل عمرها. بدا أنّ الأمّ تفهّمت وضعَ ابنتها، أخذتها من يدها الرقيقة، نظرت إليها بعمق. إلى تينك العينين السوداوين اللتين بدتا ذهبيتين تحت انعكاس الشمس، اللتين رأت فيهما ـ كما لو في مرآة ـ وجهها ذاته، وجه المرأة التي ما تزال شابة، على الرغم من سنواتها الأربعين وقالت لها بصوت خافت:
     ـ هل تريدين أن تبقي عانساً للأبد هنا في البيت، ترعين والديك وتقومين بالأعمال المنزلية؟
     ـ نعم، يا أمّي، أريد أن أبقى معكـم! ـ قاطعتها بحدّةٍ وحماسٍ حقيقيّ. لقد وجدت فدوى مَهْرَباً.
     ـ ألا تريدين أن تستغلي هذه الفرصة كي تتزوّجي؟ من المحتمل ألاّ تُتاح لك فرصة أخرى مثل هذه. لا تهزّي رأسكِ وتقولي لا. وضّحي لي لماذا لا تريدين.
     ـ أنا خائفة، خائفة جدّاً...
     ضحكت الأمّ، موحيةً بأنّ هذه حماقة، على الرغم من أنّها تتذكّر في داخلها أنّها هي نفسها لم تخف وحسب بل ارتعبت حين قرّر والدها تزويجها. صار ذلك مثل حلم بعيد، يكاد لا يُصدَّق... أن تكون قد شعرت بالخوف أمام حالةٍ بسيطةٍ بساطةَ العرس، أمام رجل وديع وعطوف كزوجها. لكنّ ردّ فعلها السريع وشخصيتها القويّة ساعداها على أن تصبح شيئاً فشيئاً وفي سنوات قليلة المرأة الناضجة، الزوجةَ المُحبّة، والقويّة والمسيطرة في آن معاً، الأمَّ المتفانية وإن كانت متصلبة وصارمة، مديرة أملاك الأسرة والمرأة الثانية ـ الأولى كانت أمّها نفسها ـ في حمص التي تدير شركة الأسرة، صناعة الحرير. كلّ شيء راح يتأكّد ببطء والآن.. عادت إلى الواقع حين سمعت ابنتها تُردِّدُ:
     ـ أنا خائفة جدّاً.
     ـ خائفة؟ يا ابنتي، يا نور روحي، صرت امرأة وما عاد عليك أن تخافي من شيء. الحياة تقدم لك فرصة: رجلاً جدّياً وشاباً، ناضجاً وغنياً، رجع لبلده فقط ليبحث عن خطيبة. من أجلِ هذا جاء من مكانٍ بعيد جدّاً واختارك أنت، شيء رائع. أبوك تحادث معه، بحضوري، وبدا له رجلاً جيّداً، مهماً، سافر كثيراً إلى بلاد مختلفة ويعرف كيف يحكي الروائع. هو الآن مع والدك ينتظر القهوة. هيّا، شدّي حيلك وسأساعدك على تحضيرها، لكن عليك أنتِ أن تُقدّميها له. حضّري تلك الصينية.
     أطاعت فدوى أمّها كأنّها رجل آلي، وهي ترى كيف راحت أمّها تحضّر القهوة بمهارة وحين جهزت...
     ـ لا أستطيع، لا أستطيع... أموت من الخجل...
     فقدت الأم هذه المرّة عذوبتها، نظرت بصرامة إلى ابنتها وقالت لها:
     ـ ليس عليّ أن أتحمّل هذا. عليك أن تُطيعي أوامر أبيك. هو قَبلَهُ صهراً مستقبلياً، وقال له إنّه سيراك حين تحملين القهوة. دعي خوفك وخجلك جانباً؛ ما عدتِ طفلة. أخريات، بعمرك، متزوجات وعندهن ولد أو اثنان... ما عليك فعله هو أن تُطيعي الآن بالذات، قبل أن ينفد صبر أبيك.
     ارتمت فدوى على المساند باكية، وتوسّلت مجهشة:
     ـ من فضلك، انتظري قليلاً. أذهبي إليهم، يا أمي، دعيني أرتاحُ قليلاً. يداي ترتجفان، سيسقط كلّ شيء منهما. حين أهدأ، أروح.
     ـ حسناً، لكن لا تتأخّري. سأقدّم لهم في هذه الأثناء النرجيلة. لا تنسي صينية البقلاوة والمناديل.
     من الرواق سُمعت خطواتُ الأم وهي تبتعد. وما إن اختفى وقعُها حتى سارعت نعيمة بحذر، تبعتها هدباء إلى خارج الرواق واقتربت من الستئر السميكة التي تسدّ مدخل الصالة. بقيت فدوى في الروق معانقة الصغرى كي تسندها. بقيت الأختان جامدتين، صامتتين، كاتمتين نفسيهما ومحاولتين أن تسكتا خفقات قلبيهما خوفاً من أن يسمعهما أبواهما والزائرُ الغامض، تضع كلّ منهما يداً على فمها وأخرى على قلبها. مرّت لحظةٌ لم يكن فيها غير الصمت. كانت الأمّ تشرح لزوجها الأمرَ هامسةً في أذنه، فبدأ متفهَّماً ومُنزعجاً في آن معاً: ثم وبعد أن تبدّلت قسماته توجّه إلى طالِب يدِ ابنتهِ:
     ـ عذراً لأنّ ابنتنا لم تحضر في الحال. تقول زوجتي إنّها خائفة ومستحيية كثيراً. في الحقيقة كان هذا مفاجئاً لنا وأخذنا جميعاً على حين غرّة. نأمل ألاّ يتناقض هذا مع مقاصدك ومشاريعك. أرجوك أن تنتظر القهوة برهة أخرى. في هذه الأثناء نستطيع أن نُدخن النرجيلة. التي جاءتنا بها زوجتي.
     ـ لا تهتمّ. على العكس، صدّقني إنّ هذا يُفرحني. لهذا بالتحديد جئتُ من ذلك البلد البعيد لأخطب من بلدي. أريدُ امرأةً حيية، بسيطة ومطيعة. أنا سأساعدها على أن تنضج وتصبح جريئة، قوية العزيمة ونبيهة. أنا بحاجة لأن تكون زوجتي امرأة كاملة.
     وبينما كان الرجل يتكلّم، تبادلت الأختان النظرات بعيونهما المعبِّرة التي توسّعت حدقاتها، بينما ارتجفت أصابعهما وهي تضغط على شفاههما. كانتا تشعران بخفق قلبيهما كأنّهما يريدان أن يخرجا من صدريهما.
     ـ له صوت فرحٌ ورنّان ـ همست هدباء.
     ـ صوت فولاذي ـ قرّرت نعيمة ثمّ حرّكت بدافع لا يمكن ضبطه طرفَ الستارة بنعومة وتأملت لثوانٍ المشهدَ الذي كان يدور في الصالون، وحين توقّفت نظرتها على طالب اليد، أمسكت أنفاسها... شيء غريب كان يدور في داخلها لم تستطع التحكم به فتركت الستارة تسقط بحذرٍ شديد وعادت إلى الرواق على رؤوس أصابعها، مضطربة مثل أختها هدباء، التي كانت تتبع خطواتها.
     هناك وجدوا فدوى أكثر هدوءاً، لامعة العينين، محمّرة الخدين، منكوشة الشعر، وهو ما جعلها من الجمال بحيث أن نعيمة فكّرت: لماذا يقولون إنّني أجمل من فدوى، إذا كانت هي بهذا الجمال؟
     ـ يا فدوى، قولي لنعيمة أن تحكي لك، فقد رأت كلّ شيء ـ قالت هدباء بعصبية.
     ـ وهل دخلت؟ كيف هو، بدين، نحيل، عجوز، شاب؟ ـ سألن جميعاً.
     ـ لم أدخل إلى الصالون، لأنّ أبي سيُعاقِبُني.
     ـ أحكي لنا ما رأيــت وخلّصينــا ـ ألححن جميعاً.
     اقتربت فدوى بوجهها شبه المتبدّل من نعيمة برقّةٍ وقالت لها ممسكة بيدها:
     ـ هل صحيح أنّك رأيته؟ كيف هو، كيف يتكلّم، كيف يبتسم، كيف....؟
     ـ إنّه عجوز ـ قاطعتها نعيمة التي بدا أنّها لا تريد أن تتكلّم أكثر من اللازم ـ مثل العمّ حنّا.
     ـ لكن عمر العمّ حنا خمس وعشرون سنة...
     ـ هذا هو، يبدو في الخامسة والعشرين من عمره. ليس بديناً ولا نحيلاً، لا طويلاً ولا قصيراً...
     ـ كيف هو وجهه؟ ـ سألت فدوى.
     ـ وجهه عريض عند الجبهة، لكنّه يدقّ في الأسفل. له شارب مفتول إلى الأعلى، شديد السواد، مثل شعره....
     ـ وعيناه؟
     ـ جميلتان، داكنتان ومعبرتان. وجهه كلّه معبّر ولطيف، لكنّه لا يبتسم. صوته فولاذيّ ويتكلّم بهدوء كبير. قال: يشرّفني جدّاً أن تدعوني لتناول فنجان من القهوة في بيتك الكريم الذي أتمنى من الله أن يباركه في كلّ لحظة،. ويسعدني أن أدخّن النرجيلة ريثما ننتظر... القهوة ـ أنهت نعيمة مُقلّدة إيّاه.
     ـ كم تحسنين تقليده ـ قالت هدباء وضحكت الأخريات.
     ـ هذا يعني أنّه صار عليّ أن أحمل إليهم الصينية ـ قالت فدوى وهي تعتصر يديها المرتجفتين. لا أدري ما إذا كنت أستطيع تقديم القهوة إليهم.
     ـ عليك أن تفعلي، وإلاّ فستسببين الإهانة لبابا ـ قالت واحدة منهنّ.
     ـ والزائر سيذهب مهاناً ـ قالت أخرى.
     ـ ولن تجدي خطيباً بعدها أبداً ـ قالت ثالثة.
     ـ لكن، يا إلهي، ماذا باستطاعتي أن أفعل!
     ـ لماذا لا تقولين لي ما هي مشكلتُكِ؟ لا أظنّ أنّك خائفة ولا مستحيية. قلتِ هذا كي تُؤثري على ماما. ـ علّقت نعيمة.
     ـ صحيح. على الرغم من أنك تصغرينني بأربع سنوات، كنت دائماً أذكى وأكثر حزماً مني. أظنّ أنّ باستطاعتك أن تفهميني.. أنا أحب أن أتزوّج من رجلٍ يكبرنّي بسنة أو سنتين... يختارني وأختاره، لأنّنا نشعر بأنفسنا مشدودين الواحد إلى الآخر، لأننا نحبّ بعضنا بعضاً، وليس لأن آباءنا يُجبروننا على ذلك..
     كانت الأخوات يصغين إليها بصمتٍ مُطلق، وعيونٍ، كبيرة بحدّ ذاتها، تتفتح أكثر في كلّ مرّة تُعبّر فيها فدوى عن أوهامها.
     ـ بودي أن يحكي لي هذا الرجل أشياء عن نفسه، وأحكي له أنا أشياء كثيرة عن نفسي، ما أحبُّه، ما آمل به من الحياة... وبعد زمنٍ من تعارفنا، نتزوّج إذا اتفقنا... ـ أنهت فدوى جامعةً في عينيها كلَّ الحب الموجود في داخلها.
     ـ لكن، يا فدوى، هل تعرفين ما تقولين؟ ـ استطاعت نعيمة أن تقول أخيراً ـ أتفهَّمك جيّداً، لكنّ هذا مستحيل... تعرفين ما علّمنا إيّاه أبوانا. وتعلمين أيضاً أن الخطيبة في السابق كانت لا تعرف العريس فقط ليلة الدخلة. على الأقل أنت ستعرفينه قبل ذلك... الآن بالضبط، حين ستأخذين له القهوة.
     كانت الأخواتُ الأخريات ينظرن إليهما فاغرات الفم. لم يخطر ببالهن قط أنهننّ سيسمعن مثل هذا الحوار داخل جدران ذلك المنزل، أكرم بيوت المدينة كلّها، كما كانت تقول أمهّنّ.
     ـ آه، يا نعيمة! ظننتُ أنّك فهمتنــي! ـ أنتْ فدوى ـ لا أستطيع ولا أريد أن آخذ القهوة. لن أظهر في الصالون، سأمرض، سأقومُ بأي عمل، سأكسر الأواني، أطفىء الشموع، أتظاهر بنوبة كيلا أذهب إلى الصالــون. ألا تفهميـــن؟ لا أستطيع...
     ـ لا تستطيعين ولا تريدين... حسنـاً ـ شجّعتها نعيمة بشهامة ـ لا تهتمّي. إذا كنتِ لا تستطيعين فأنا سأفعل ذلك.
     ـ صحيح؟ هل ستفعلين هذا من أجلي؟ هل تعرفين كيف سيكون ردّ فعل أبينا، سيشعر بالإهانة وسيعاقِبُنا. وسيذهب ضيفنا مهاناً، سيتكلم عنّا وسيعلم كلّ الناس بذلك...
     ـ لكن ماذا تقولين، يا أختي العزيزة؟ لن يُهان أبوانا. وزائرنا لن يذهب مهاناً، كما لن يتكلّموا عنّا ـ ردّت نعيمة بغموض متحفّظ.
     ـ لا أفهم عليك. قلتِ لي إنّك ستأخذين القهوة بدلاً عنّي. قلت ذلك، أليس صحيحاً؟ أن أنّك صرت تخافين الآن؟
     ـ طبعاً سآخذ القهوة إلى الصالون، وسأقدّمها لهم. أنا لا أخاف ولا أخجل. أكرِّرُ، يا عزيزتي فدوى، سأقدِّم القهوة، أعدك بذلك. لكنك أنت من سيتزوَّج منه.
     وأخذت الصينيتين ببراعة، بعد أن جمعت جدائلها في أعلى رأسها، وتوجّهت بخطوات سريعة إلى الصالون ورشاقة غزالة، تتبعها نظرات أخواتها الخمس غير المصدقة والخائفة، وعلى الرغم من العصبية إلاّ أنّهن لم يستطعن إلا أن يُعجبن بقامة نعيمة الممشوقة وخصرها الرقيق وملاحة وركيها.
*    *    *
     توفّيت أمي، نعيمة، يوم الثاني عشر من نيسان من عام 1989، في سانتياغو تشيلي وهي بطلة "ذكرياتي عن الزمن القديم"، لأنّها ملأت وتملأ ـ طفولتي، ومراهقتي ومرحلة نضوجي كلّها. لم تملأ شبابي لأنّني ابتعدتُ عنها متبعة أوهامي، التي لم أعثر عليها قط. والآن وأنا أصل إلى عمر النضج تستمرّ بجانبي؛ على الرغم من غيابها في الماوراء، أشعر بها، أقرؤها في الرسائل التي ما أزال أحتفظ بها، وأستمع إليها في الأشرطة التي سجَّلتْها في تشيلي كي تُرسلها إليّ إلى مدريد منذ أن وصلتُ إلى هذه المدينة في عام 1973 وتكرّر عليَّ، فيها جميعاً، قصصَ حياتها الطويلة ذاتها، التي امتدت مئة عام. لأنّ نعيمة أتمت يوم الثاني عشر من أيلول من عام 1996 المئة عام.
     قبل مئة عام، في الثاني عشر من أيلول من عام 1896 وفي مدينة سورية جميلة تسمى حمص، وُلدت أمّي نعيمة خوري، زوجة والدي يوسف مطانيوس، الذي لم أعرفه، لأنّه تُوفّي وعمري لم يتجاوز أشهراً قليلة، لذلك لم أملك أخوة أصغر مني، لكنني أملك ثلاثة عشر أخاً أكبر منّي. أي أنّنا كنّا سبعَ بنات وسبعة ذكور، ولولا أنّ أمّي ورثت عن جدّاتها بعض الضعف تجاه تربية الذكور، وفقدت الجميع تقريباً عند ولادتهم أو بعدها بقليل، ولم يعش منهم غير واحد إلى جانب سبع بنات، يكرّرن في حياتهنّ ذاتها تجربة أمهّنَ من حيث عدد الأولاد الأحياء
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق