مجلة السنونو (
العدد السادس ) -
قصة قصيرة
|
غربة
بوسطن ( خليل الشيخة )
|
غربة بوسطن
خليل الشيخة
عندما هبطتُ الشارع استقبلني ليلٌ قاسٍ من ليالي بوسطن. وقفت على الرصيف
برهة، وبلا وعي رجعت أدراجي إلى الغرفة لأرتطم مرَّة أخرى بجدرانها المظلمة.
واكتشفت أن ظلمة الغرفة أشرس من ليل الشارع. فعندما تتضخم الغربة في النفس تصبح مع
ولوج الليل كسكين في الرقبة، تجثم على الروح كالوحش، لا تتزحزح. ويأتي سؤال كالجمرة
في اليد:
ـ لماذا أتيت إلى هنا. يتعثَّر الجواب ويفنى.
أقرر بشكل عفوي أن أذهب إلى مقهىً ليليٍّ يكثر فيه الأرق. تقودني قدماي
بسرعة إلى مكان معتاد. أجلس إلى نفس الطاولة، تتقدم إليَّ عجوز أتجنَّب النظر في
وجهها لدمامته. تضع القهوة أمامي وتغادر. أرسل بنظري خلف الزجاج لأرى الليل تنتشر
رهبته في الشوارع. تبّاً لهذه المدينة، فإنها كسمك القرش تلتهم إلى جوفها كلَّ
ضعيف. ويأتي السؤال مرة أخرى:
ـ لماذا أنت هنا؟
أترك المقهى وأهيم في الأزقَّة أنشد اللاشيء. الإنسان في بوسطن تمثال
متحرك والحياة معلَّبة بأناقة تسير بآلية رتيبة.
في مسيرتي أعبر مجموعات من المخنَّثين والمومسات ورتلاً كبيراً من
المتشردين وهم هاجعون بعد عناء يوم طويل كله رجاء وتسول. ليل المدينة ثعبان يلتف
على عنقي، فهو لا يقتلني بل يترك كدماته العميقة في نفسي. ما أصعب الغربة عندما
تفور في الليل، فإنها تتحكم بكل نبضة في الفؤاد.
يسترسل الماضي في ذاتي كموجات بحر هائجة، إحدى موجاته بهيئة رجل غليظ
الطبع أبيض الوجه يسألني عن أصلي وأجيب باقتضاب، فتتغيَّر نظراته وتختلط ما بين
السخرية والازدراء، يعلِّق على الجمل والصحراء، فألوذ بالصمت مكرهاً. يغيب وقد
ارتسمت على محيَّاه علامات النصر. أتحوَّل إلى إنسان مهزوم، خائب أو دودة لا تنفع.
سأَلتْني مرةً إحدى النساء بنبرة عدوانية:
-
لماذا تأتون إلى هنا.. وتبقون تأكلون خيرات هذه البلد؟ فأجبت: نأتي بغية الدراسة..
تبرَّمت وألقت جملتها:
ـ
ليس لكم ولاء لهذا البلد.
فقلت لها عبارة كما قلتها لكثير من الفضوليين مثلها. فلم يرق لها كلامي، فردَّتْ:
ـ
كلُّكم إرهابيون..
بعدها أشعر بأني نصف إنسان. مبتور الكرامة والانتماء، وأعلامي منكَّسة وغائصة فــي
الوحل. المذلة لا تفارقنا أينما حللنا. غربة ومذلة. وحتى هوائها يخدش الروح شيئاً
فشيئاً حتى يوهنها.
أنتبه إلى طريقي، فأعرف أني قطعت أميالاً. فأستدير لأعود من حيث أتيت.
إلى غرفتي الراقدة تحت كوابيس الليل.. فالطريق طويل والغربة أطول.
قالوا إن الحضارة في بوسطن مركبة يمتد عصرها من أرسطو إلى إنشتاين.
يتفلسف علماؤها في الكتب عن الإنسانية كثيراً، إلاَّ أنك لا ترى فيها إلاَّ ذلك
الرجل الذي يسألك عن أصلك وتلك المرأة التي تأمرك أن ترجع من حيث أتيت. حضارة في
بطن وحش يلوك كل قريب لفمه.
لفت نظري لافتة عليها رسمٌ هنديٌّ أحمرُ بثيابه المعتادة مرسلاً ببصره
إلى المجهول ثم كُتب في الأسفل (البنك الوطني هو الأفضل). فكَّرت في الصورة وتساءلت
عن علاقة الهندي الأحمر بالبنك والإعلان، فعرفت أن الهندي قد تحوَّل إلى أسطورة
بالنسبة للبيض وإشارة واضحة للانتصار. انتصار البيض على عدوٍّ هُمْ صنعوه.
الهنديّ الذي كان كابوساً على القلب. اقتُلِع بالقوة وزُجَّ به في متاحف
التاريخ.
وفي رحلتي في الطرقات، أمرُّ على منظِّفي المدينة، كلهم من السود، يعتنون
بالشوارع دون تذمر بل يثرثرون بالنكات ويقهقهون. من الرقِّ والعبودية إلى جيش من
العمال لخدمة مجتمع السادة. معظمهم يتمرَّدون على العرقية بانخراطهم في مخالب
الجريمة.
عندما وصلت إلى غرفتي كانت الشوارع والأزقة قد أكلت كلَّ قوتي فانهرت على
سريري غائب الوعي مستسلماً لسلطان النوم. وفي الأحلام كانت بوسطن تأتي بصورة عجوز
دميمة كالتي قدَّمت لي القهوة.
من مجموعته القصصية
"الكلاب"
* *
* *
الكاتب خليل الشيخة..
-
ولد في مدينة حمص عام 1960
-
هاجر إلى الولايات المتحدة عام 1982
-
حصل على بكالوريوس في الهندسة الصناعية من الولايات المتحدة الأمير كية عام 1988
-
حصل على الماجستير في الهندسة عام 1990
-
أصدر مجموعته القصصية الأولى/ غابة الذئاب/ عام 1996 ثم الثانية (الكلاب).
-
كتب في عدة صحف ودوريات مهجرية وعربية.
|
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق