السبت، 7 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد السادس ) - أبحاث محلية - الحوار مع الغرب : الهجرة والغزو ( حنا عبود )

مجلة السنونو ( العدد السادس ) - أبحاث محلية
الحوار مع الغرب : الهجرة والغزو ( حنا عبود )
الحوار مع الغرب: الهجرة والغزو
حنــا عبّود
 
  حوار الشرق والغرب
الحوار الحقيقي بين الشرق والغرب هو الغزو أو الهجرة. وما أكثر الحديث اليوم عن ’الحوار‘ دون أي ذكر لهذا النوع من الحوار. ففي كل مطبوعة أو مسموعة أو مرئية، لا بد أن يجري التطرق لمسألة ’الحوار‘ كبديل لـ’لصراع‘: حوار الثقافات وحوار الحضارات وحوار الشرق والغرب وحوار الأديان وحوار الشمال والجنوب وحوار الدول الفقيرة والدول الغنية. . . والمساهمون في هذه المسألة يعرف بعضهم أو معظمهم أن مسألة الحوار بين الشعوب تتعدى حدود الكلام، إلى المنهج والفعل. الحوار بين الشعوب ليس كلاما. الحوار عمل وممارسة، وإلا كنا اكتفينا بمحاورات أفلاطون التي لم تدع مسألة من المسائل البشرية إلا تطرقت إليها، وطرحتها طرحا يثير فعلا الجدل ويدعو إلى التفكير الجدي لحل تلك المسائل، كما يدعو إلى التأمل كيف فكّر فيلسوف، مثل أفلاطون، من القرن الخامس ق. م بمسائل ما تزال قائمة حتى اليوم ولم يحل شيء منها. وفشل محاورات أفلاطون، عمليا، هو المصير الذي لاقته كل المحاورات التي جرت في العصور التالية. فما جرى من محاورات بين الكاثوليكية والبروتستانتية(على سبيل المثال) كما سجلتها كتب كثيرة جدا، لم يفض إلى شيء. إن كل ما يفعله الحوار هو تفريع الكليات، أو العودة بالجزئيات إلى الكليات، وينير جوانب ربما كان يجهلها الطرف الآخر. . . ولكن كل هذا لا يحقق أي هدف من الأهداف التي يضعها الطرفان.
ولو أبرم اليوم الطرفان المتحاوران، أو الأطراف المتحاورة اتفاقية ’مدنية‘ فيما بينهم، ربما كان أفضل، حيث يعرف كل طرف ما عليه تجاه الطرف الآخر، على أن يكون الطرفان في مستوى متقارب، فكل اتفاقية بين القوي والضعيف، أو بين المنتج والمستهلك، أو بين المنتصر والمهزوم، هي اتفاقية تضيف مشكلات جديدة إلى المشكلة القائمة. وبغض النظر عما يخفيه كل طرف من طرفي الحوار: الشرق والغرب أو الشمال والجنوب أو ما شابه هذا من المحاورات الدينية والسياسية، فإن التاريخ يثبت أن الحوار بين الشرق والغرب كان دائما حوار هجرة وغزو، ولا شيء غير ذلك. ومن الهجرات والغزوات حصلت المثاقفة التي أثرت في الطرفين. والقول إن الغرب كان المنتصر في هذه المحاورة التاريخية التي تستغرق آلاف السنين، هو قول فيه شيء من التسرع. إن الغرب لم ينجح حتى هذه الأيام إلا قليلا. ومن هذه المحاورة: محاورة الهجرة والغزو بين الشرق والغرب، سنحاول الوصول إلى نتيجة منسجمة مع المسار التاريخي.
  أول هجرة كبرى في التاريخ
أول نزوح معروف في العالم القديم هو النزوح الآسيوي الكبير إلى القارة الأمريكية، بأقسامها الثلاثة: الشمالي والأوسط والجنوبي. قالوا عنهم ’الهنود الحمر‘ وتبين أنهم من أواسط آسيا، فهم مجموعة منوّعة من العرق المغولي. عاشوا وما زالوا يعيشون في الألاسكا والاسكيمو، وقد انتشروا من هناك في كندا والولايات المتحدة، إلى أن وصلوا إلى البرازيل والأرجنتين وتشيلي وأقاموا في الأمريكيتين الوسطى والجنوبية حضارات ضخمة إلى أن اجتاحهم الغزو الأسباني.
هناك تقديرات مختلفة عن الزمن الذي حصلت فيه هذه الهجرة، تتراوح بيـــن 14.000 و 40.000 سنة. وهي أول هجرة أمكن إخضاعها للدراسة، فلم تسبقها هجرة ولا حتى هجرة الطيور، أو الحيوان. وهي ’مسيرة كبرى‘ انطلقت من أواسط آسيا ووصلت إلى أمريكا الشمالية قبل 17.000 سنة وإلى أمريكا الوسطى قبل 13.000 سنة. والمعتقد أنهم من الشمال الشرقي للصين. والأنصاب الطوطمية التي أقاموها في أمريكا تشبه تلك التي كانت تستخدم للعبادة في المنطقة الآسيوية. ولكن هناك تنوعا في هؤلاء المهاجرين، وإن كانوا متقاربين.
ويفسرون سبب هذه الهجرة تفسيرات عدة، فيقولون إنهم جامعو ثمار، انتقلوا حسب الفصول، مما قادهم إلى الأراضي الجديدة. ربما كانت الصحراء القاحلة هي التي دفعتهم إلى هذه الهجرة أو هذا التجوال. يقال إنهم صيادون لاحقوا وفرة الصيد، فوصلوا إلى مضيق بهرنغ ومن هناك اجتازوا جسر العبور بين القارتين، وانساحوا في اتجاه معاكس، أي من الجنوب إلى الشمال. ولكن لم يذكر أحد الانفجار السكاني الذي اشتهر به الشرق وما يزال، على الرغم من الأفواج المتلاحقة التي غزت الغرب.  وحتى اليوم لا يوجد تفسير مقنع. كما أنه ليس هناك تأكيد بأن الأرض الجديدة كانت خالية من السكان، أو كانت مأهولة، فلم يذكر أحد أن دخول الوافدين الجدد كان دخولا دمويا.
تطورت عادات الوافدين، ولكن ليس تطورا كبيرا، فقد ظلت في إطارها العام عادات شرقية تقوم على العقائد الميثولوجية والاستبداد الشرقي. فكانت رؤوس الأسرى تقدم لرب الشمس، كما توضع الجماجم تحت أساسات كل هرم من الأهرامات التي شيدت هناك، بل كانت الطقوس الدينية تستوجب تقديم المزيد من الدم، حتى تظل الشمس قادرة على تقديم الضوء والدفء، وكانوا يختارون الأولاد والشبان، لاعتقادهم أن دمهم أفضل، يبقرون بطونهم، وهم أحياء، وينتزعون قلوبهم، في طقوس بدائية جدا. إن الشرق بسماته الأساسية امتد ليشمل كل العالم الجديد. ليس هذا وحسب، بل إن بعض الباحثين يرى أن هناك هجرة معاكسة، من أمريكا إلى بولينيزيا، في الألف الأول بعد الميلاد، نظرا لتشابه سكان الكثير من الجزر بهنود أمريكا، فتكون هذه الهجرة قد طوقت العالم المعروف بكامله.
  غزوات شرقية
حتى القرن الرابع ق. م لم تكن هناك أي غزوة ’غربية‘ للشرق. كانت المبادرات كلها من الشرق. ومن أبرز الغزوات التي أثرت في التاريخ العالمي، وفي الفكر اليوناني بصورة خاصة، الغزوات الفارسية على اليونان في القرن السادس ق. م. فقد ابتدأت بداريوس، بل بوالده، واستمرت مع سلالته. لم تنجح هذه الغزوات ولكنها غيّرت كثيرا من مسار العالم الغربي، أو لنقل اليوناني، الذي صار فيما بعد قدوة تحاول كل دولة متحضرة أن تستفيد من هذه التجربة اليونانية الفذة. وتعتبر الغزوات الفارسية أول صدام بين عقليتين مختلفتين: الشرقية والغربية (أو اليونانية بالتحديد، لأن الإغريق كانوا رواد الفكر التنظيمي والسياسي في الغرب، وليس فقط الفكر الفلسفي والأدبي).
سبب هذه الغزوات بسيط جدا، لا يكاد المرء يصدق أنه سبب وجيه. وقصة الغزو بدأت من تذمّر الإغريق في الأقاليم الآسيوية التي كان والد داريوس قد استولى عليها، أحيانا بالحصار فقط، وأحيانا بإخضاع عسكري تعسفي عنيف. وتذمّر الإغريق هو امتناعهم عن ’تقديم الولاء‘ المعتاد في الشرق. كان كل من يمثل بين يدي داريوس (أو حكامه في الولايات) يجعل جبهته تلامس الأرض، للدلالة على أن الملك أعلى منه بكثير، وعلى أنه العبد المطيع. ولما صار الحكام الفرس يجبرون الإغريق على القيام بمثل تلك العادات الشرقية، تمرد هؤلاء السكان، ورفضوا الانصياع لأوامر ولاتهم، فما كان من داريوس إلا أن اعتبر ذلك تمردا، فجهز جيشا هائلا (وما زالت هذه العقيدة بأن قوة الجيش تكمن في عدد المقاتلين موجودة في الفكر الشرقي) وأخضع كل المقاطعات التي لم ’تلتزم‘ بالقواعد الأخلاقية الشرقية في السلوك والخضوع للملك وأولي الأمر وكل من له علاقة بالدولة. وبعد أن أخضع جميع المقاطعات، معتقدا أنه أعادها إلى حظيرة المواطنين الشرقيين، رأى أن بقاء أي مقاطعة يونانية خارج حكمه وسلطته تشكل خطرا عليه، فصمم أن يهاجم اليونان برمتها، لا يستثني دولة (مدينة). ورتب قادته كل شيء وجهزوا كل الرعايا القادرين على حمل السلاح. وكان هناك ثري عجوز، جُنّد أولاده التسعة في هذه الحملة الكبيرة. وفي أحد مخيمات العسكر في الطريق، وكان داريوس معهم، أراد هذا الرجل إكرام الملك العظيم، فأولم له ولكل من معه في كتيبة الحماية، وفي نهاية الوليمة طلب منه أن يختار أي ابن من أبنائه ويستثنيه من الاشتراك في الحملة، حتى يعتني به وبزوجته، فسأله من يفضل من أبنائه، فسمى ابنه الأصغر. ولم يتكلم داريوس بعدها. وفي الصباح الباكر شاهد العسكر، وكذلك الأب المضياف، هذا الابن وقد قطع نصفين من رأسه إلى حوضه وعلّق كل قسم على جانب من جانبي الطريق. وحتى يعرف الناس أصول السلوك، كانت هناك لائحة تروي ما جرى وكيف تجرأ أب حقير أن يطلب إعفاء ابنه من واجبه، ناسيا أنه المُلك للمَلك وحده، وأن كل ما يملكه أي شخص، مهما كان، من أرض وقطيع ونسل. . . إنما هو أصلا للملك، ولا أحد غيره، فهو الرب الأرضي المقدس، الذي لا شريك له. ومن هذا التفكير نشأت فكرة وحدانية الإله، التي تمثل وحدانية الحاكم، وصار هذا الواحد يزيل من أمامه بقية الآلهة الشرقية، وما أكثرها! كما يزيل الحاكم الأرضي كل الحكام الآخرين، بالقتل أو الإخضاع.
نتائج الحروب الفارسية اليونانية أيام داريوس ومن أعقبه من أبنائه كانت نتائج خطيرة جدا على الفكر اليوناني. لقد فشلت كل الحملات، بلا استثناء، سواء في أيام داريوس أو ابنه. . . فشل الشرق الغازي في الماراتون وفي سلاميس وحتى في ترموبيليا Thermopylae حيث قضوا على الطليعة الإغريقية القليلة بسبب خائن قادهم إلى المضيق، لم يكن نجاحهم إلا مؤقتا. ففي الماراتون، على سبيل المثال، فقد الإغريق 192 قتيلا، بينما فقد الفرس 6400 قتيلا، حسب رواية المؤرخ اليوناني هيرودوت. وما نسميه اليوم ’سباق الضاحية‘ ليس سوى ترجمة للماراتون، السهل الذي انتصر فيه الإغريق، وبعثوا رسولا إلى أثينا حتى يعلمهم بالنصر الكبير، فوصل ركضا (40 كم) وتوفي إعياء بعد أن أبلغهم البشارة الكبرى.
  أسباب الغزوات الشرقية
ليس من سبب دفع الفرس إلى الغزو سوى العقلية الشرقية. كان الملك الفارسي يحكم منطقة كبيرة جدا في آسيا، ولم تكن تنقصه الثروة ولا السيطرة، ولا أي شيء آخر. إن الشرق غني وكبير بينما الغرب محدود الثروة ضيق المساحة تلتهم الجبال والثلوج قسما كبيرا منه، فغزواته على الشرق لا تكاد تنفصل عن الكنوز الشرقية. في الشرق أسرة ’مقدسة‘ تحكم كتلة بشرية ضخمة مروضة بالاستبداد ليس لها أن تطالب بأي شيء، ولا حتى بإعفاء واحد من الأبناء التسعة ليعيل أبويه في شيخوختهما. كان استخدام الحصان والعربات الحربية والسفن العسكرية قد خلق بلاغة خاصة، وأخلاقا خاصة، فصار الظرف المخلوق خالقا للحاجة أو ما يتوهم الناس أنها حاجة.  كانت هناك كتلة عسكرية كبيرة جدا. والإبقاء عليها دون عمل خطر كبير. كانت الحرب عبارة عن لعبة، مثل لعبة الشطرنج، وكان الملك وحده يحدد التسلية التي يرغب أن يتسلى بها. ولما رأى في مملكته من لا يمارس أخلاق الطاعة التي يفرضها الاستبداد الشرقي، شن حرب ’الطاعة‘ أولا على المتمردين، ثم حرب ’الإبادة‘ على بقية اليونان.
الحروب الفارسية اليونانية كانت أول صدام بين العقليتين: الشرقية والغربية أما نتائجها فكانت عميقة على الفكر الغربي، بينما لم تؤثر على الفكر الشرقي، ولم يستفد من هذه التجربة الكبيرة. فقد ظل الشرق شرقا.
 
  نتائج الغزو الشرقي
كانت النتائج خطيرة جدا، وقد ظهرت على الفور في اليونان. إن اليونان انتصرت في حروبها كلها، وهو انتصار أشبه بالمعجزة، فكيف انهزمت إمبراطورية ضخمة أمام حفنة من الرعاة وصيادي الأسماك؟ وبالطبع ليس هناك من تفسير سوى النظام الشرقي الذي يربط السكان بالملك ربطا قدسيا، ويجعل أكبر رأس ليس أكثر من رأس عبد مدلل، فالجميع كانوا عبيدا، حتى أقرب المقربين من الملك.
تحدث كثير من الإغريق عن الغزوات الفارسية، ومجدوا الانتصار الكبير الذي أحرزته اليونان على الخصم الكبير. ومن هؤلاء اسخيلوس (وقد اشترك في معركة الماراتون) الذي مجد انتصار وطنه ومدح شجاعة الفرس. ولم يبق شاعر إلا تغنى بهذا النصر، لأنه نصر السادة على العبيد، نصر الأحرار على المستعبدين، نصر النظام الديمقراطي على النظام الثيوقراطي. . . ولا نستثني من ذلك سوى مفكر واحد أعلن موقفا مخالفا، وهو أفلاطون. فقد رأى في الانتصار ولوجا في باب الاستبداد الشرقي. إن الشرق الذي انتصرنا عليه هو نفسه الشرق الذي دب الخوف في قلبنا وجعلنا نميل إلى الاستبداد. وقد كان صائبا في هذا.
  أول إمبريالية في الغرب
فعلا كما قال أفلاطون دب الرعب في قلب الإغريق، فكان لا بد من إجراء يحول دون اجتياح فارسي جديد. وكان أن هبت أثينا إلى إنشاء حلف يوناني وهو حلف ديلوس، نسبة إلى الجزيرة التي عرض فيها الحلف. وكانت أثينا متشددة في تقوية هذا الحلف فكانت تحارب كل جزيرة لا توافق على حلفها، وفرضت الضرائب المرهقة على الجزر للوقوف في وجه العدو الفارسي. من كان يتصور أن أثينا الديمقراطية صاحبة الريادة في الرياضة والفن والموسيقى والمسرح والشعر والأدب تتحول في أعقاب الحروب الفارسية عليها إلى أول إمبريالية في الغرب، تبسط سلطتها على الجزر، وتفرض نظاما صارما استعدادا لمواجهة هجوم جديد من فارس. العقلية الأثينية لم تعد متماسكة. كان الانتقال من الديمقراطية إلى الإمبريالية أمرا لا يسوّغه العقل اليوناني، فبدأ المتفلسفون والمفكرون والخطباء يوفّقون بين متطلبات الدولة المتروبوليت والدول التابعة، بحيث يظهرون أنه ليس ثمة تضارب بين الديمقراطية والإجراءات الجديدة. ولم ينجح عقل من العقول اليونانية في إقناع الجزر أن الضرورة تقضي بهذا الإجراء، أي بقيام إمبريالية أثينية، للوقوف في وجه العدو الفارسي، الذي لا يعرف أحد متى يهاجم هذا الوطن الصغير كما كانوا يطلقون عليه.
  أول غزوة إمبريالية على الشرق
لكن فارس دخلت من الباب الخلفي. فقد حرضت إسبارطة وقدمت لها كل المعونات، فتمردت هذه الدولة على أثينا ونشبت حرب انتهت باحتلال أثينا وقيام دكتاتورية، ثم انسحبت إسبارطة وأسقط الإغريق النظام الدكتاتوري، ولكنهم لم يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل الغزو الفارسي. صار الخوف ينام في فراشهم. ولكن في الوقت نفسه لم تمت فكرة الإمبريالية التي لجأت إليها أثينا لتحمي اليونان من الفرس، بل انتقلت إلى مقدونيا، فأعد الملك فيليب جيشا كبير يكون دائما في حالة استعداد للمواجهة. ولكن الرجل اغتيل في ظروف غامضة، وربما كان عل يد أحد أصدقاء ديموستين، العدو الأكبر للملك فيليب. فاعتلى العرش ابنه الإسكندر الذي كان تلميذا عند الفيلسوف الشهير أرسطو. ولا نعلم هل هو أم أبوه فيليب أم معلّمه أرسطو شرّع أسس الحرب الوقائية؟ كل ما نعلمه أنه قام بأول غزوة استباقية على الفرس. ولكنها كانت غزوة مدروسة بدقة، وتقوم على فكرة أن من المستحيل الانتصار عسكريا على الشرق الهائل الضخم الكبير الغني، حيث الناس وكل ما فوق الأرض وتحتها ملك للملك. إن اليونان الفقيرة أعجز من أن تتغلب على بلاد الكنوز الهائلة والجيوش الجرارة. فلا بد في هذه الحالة من نقل العقلية اليونانية إلى الشرق، لا بد من جعل الشرق ينصاع للنظام المدني العقلاني. بهذه الطريقة وحدها يمكن تجنب شرور الغزوات الشرقية. وطبق الإسكندر هذه الخطة تماما في الشرق الأوسط، فأنشأ المدن (هناك تسع مدن باسم الإسكندرية في آسيا، غير الإسكندرية في مصر) وجعل في كل مدينة مكتبة ضخمة، وزرع مصر والشاطئ الشامي بالمكاتب، مفتتحا المرحلة التي نسميها الهيلينية، حيث ازدهرت لأول مرة مراكز ثقافية كبرى تمتد من الإسكندرية وحتى الرها ونصيبين وجنديسابور وصولا إلى جنوب شرق آسيا. . . ولكنه بعد ذلك تخلى عن مشروعه الكبير واستسلم للشرق وصار شرقيا فتزوج أكثر من زوجة وأجبر ضباطه أن ينحنوا أمامه فتمردوا عليه وعادوا إلى اليونان. إن محاولة الإسكندر في جعل الشرق مكانا يمكن أن يأتي إليه الأوروبيون هجرة واستيطانا فشلت فشلا كبيرا جدا.
والمتأمل المعاصر اليوم، في تجربة الإسكندر يطرح عليها الكثير من الأسئلة. فهل يعقل أن يتحول عالم السهوب المتصلة بالآفاق والمكتظة بالعبيد، دفعة واحدة، إلى عالم فيه شيء من المنطق وشيء من النظام العقلاني؟ ماذا لو فعل في تلك الأيام ما فعلته أمريكا في اليابان، فاكتفى بالتركيز على بلاد واحدة، فإذا نجحت التجربة انتقل إلى بلاد أخرى، وربما لا يكون بحاجة إلى ذلك؛ لأن البلاد التي تنجح فيها التجربة تكون مركزا مشعا على الجوار؟ لماذا اعتمد الإسكندر على الإغريق في تنفيذ مشروعه ولم يشرك أحدا من أبناء الشرق؟ ألا يمكن بالصبر قليلا خلق كادرات ثقافية وتشريعية واجتماعية، تكون منطلقا لكثير من التغيير في الأنظمة الاجتماعية والعقلية الشرقية؟
  تجربة روما
قضمت روما الدول اليونانية الواحدة بعد الأخرى ثم امتدت إلى الدول اليونانية في الشرق، ونجحت في القضاء عليها جميعا، كسلطة سياسية وإدارية، ولكنها لم تستطع أن تفعل شيئا في سلطة الثقافة اليونانية (الهيلينية) التي شاعت في منطقة الشرق الأوسط وفي مصر، فكانت مدرسة الإسكندرية من أبرز الأمثلة على الثقافة الهيلينية الحية والمؤثرة. ولكن الخوف الذي نام في فراش اليونان نام في فراش الرومان أيضا وأقلق راحتهم. لقد ورثوا التراث اليوناني وورثوا معه أيضا الخوف من الشرق. كانوا يخافون من فارس العملاقة الجبارة، فعمدوا إلى السيطرة البحرية حتى لا تهاجمهم فارس من البحر بالإضافة إلى البر، كما جرى في التجربة اليونانية، فقد هاجمتها فارس برا وبحرا، وانكبت عليها من الجبال والسهول والأنهار، ولم تترك وسيلة حربية إلا استخدمتها.
لكن روما كانت أوعى حربيا من الإغريق، فلم تقترب كثيرا من الإمبراطورية الفارسية، بعد أن حولت البحر المتوسط إلى بحيرة رومانية. وقد حصلت حروب كثيرة بين الشرق والإمبراطورية البيزنطية، لم تؤد إلى ما أدت إليه الحروب الفارسية. لكنها كانت حروبا محدودة جدا. إن فكرة تغيير الشرق لم تعد بارزة في أذهان الغرب، ولكن فكرة الخوف من الشرق ظلت قائمة تقلقهم وتؤرقهم. كانوا يخافون من الشرق خوفهم من الموت تقريبا. وبالفعل فقد سقطت أكبر إمبراطورية عرفها الغرب على يد الشرق، ومن قبل مجموعة آسيوية، كانت صغيرة عندما خرجت من صحراء غوبي، ولكنها تضخمت وقويت فأسقط روما، إنهم قبائل الهون.
لم تستطع روما أن تفعل بالغزو أي شيء، فقد ظل الشرق خطرا كبيرا عليها، وعلى كل العالم الغربي. وما كانت تخافه روما وقعت فيه، واستطاع الشرق أن يقضي عليها.
  هجرة مسلحة
عاد الشرق إلى عادته في الهجرة إلى الغرب. بعض الهجرات كانت هجرات مسلحة. فهناك هجرة مسلحة بكل معنى الكلمة قام بها الهون. يقال إنهم من جنوب الصين، في أيام أسرة هان، وربما نسبوا إلى اسم هذه الأسرة، مع أنهم فرع من فروع المغول اختلط مع أعراق صينية، وهاجموا الدولة الصينية فطردتهم فظلوا لأكثر من ثمانين عاما يؤثرون في التاريخ الأوروبي، فقد طردوا القبائل الجرمانية وأزالوا دولة الغوط الشرقيين من جنوب روسيا ودخلوا إلى أوروبا مع بقاء سيطرتهم على بحر الأورال لمدة طويلة، ومن وسط أوروبا توحدت قواهم ليجدوا في أنفسهم القدرة على مهاجمة روما، فاستطاعوا إسقاط أكبر إمبراطورية في التاريخ. ويرى كثير من الدارسين أن التوسع الصيني هو الذي أسقط الإمبراطورية الأوروبية العظمى. وهكذا أمكن لأكلة ’البصل والثوم‘ كما يوصفون، أن يدمروا ’روما المقدسة‘ (الإمبراطورية الغربية) أو أن يكونوا من أهم أسباب انهيارها الظاهرة، إلى جانب العناصر الخفية الأخرى التي تحدث عنها جيبون بإسهاب.
والهجرات المسلحة من الشرق إلى الغرب كثيرة كالغزوات المغولية التي استطاعت أن تقيم إمبراطورية على معظم آسيا ونصف أوروبا تقريبا، والغزوات التركية التي أسقطت القسطنطينية واجتاحت أوروبا ووصلت إلى حدود فيينا. ولما لم تستطع الاستمرار في غزو أوروبا، انقلبت إلى غزو العالم الإسلامي، فاجتاحت بلاد الشام وأخضعت  مصر لسلطتها. أما الهجرات غير المسلحة فلم تنقطع في معظم مراحل التاريخ.
إن سور الصين لم يكن لصد خطر الغرب، بل لحماية الصين من هجمات الشرقيين الآسيويين، المستعدين دائما للغزو المسلح أو غير المسلح.
  فلسفة
منذ أيام أرسطو وحتى اليوم طرح المفكرون والفلاسفة مسألة الشرق والغرب. كلهم أجمعوا أن الشرق يتبع أسلوبا استبداديا بعيدا عن ’التنظيم العقلاني‘ للعلاقة البشرية. ولا يوجد شرق في عرفهم إلا في آسيا (كانوا لا يرفون من أفريقيا إلا شمالها) مصدر القلق والخوف. وكان أرسطو أول من طرح الاستبداد الشرقي كتفسير لتخلف هذه القارة الهائلة مساحة وسكانا، ولم يخالفه مفكر غربي، وبخاصة هيغل. بل إن ماركس نفسه اضطر أن يعترف أن نظريته في ’التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية‘ لا تنطبق على الشرق، وأصدر ’ملحقا‘ بهذه النظرية هو ’أسلوب الإنتاج الشرقي‘ القائم على مواصفات لا مثيل لها في العالم الغربي، وقد شغل هذا ’الملحق‘ المفكرين الماركسيين طيلة قرن من الزمن. فالدافع إلى غزو الغرب لم يكن الخوف منه بل ضمه إلى حظيرة الاستبداد، لا يستثنون من ذلك غزوة، من الهون والمغول وحتى الأتراك، آخر غزاة الغرب. . . بينما يرون أن الغرب كان يقوم بالغزوات لدرء هذه الخطر الشرقي. كان الشرق ’هما‘ مقيما إن صح التعبير.
وبعد تحرير أوروبا من الأتراك، في القرن التاسع عشر، طرحت مسألة ’أوروبا الشرقية‘ وكثرت الأبحاث حولها. والسؤال الكبير كان: لماذا تخلفت أوروبا الشرقية عن أوروبا الغربية، منذ قديم الزمان؟ ولم يجدوا تفسيرا لذلك لا في العرق ولا في الدين ولا في أسلوب الإنتاج ولا في العادات والتقاليد ولا في الذهنية ولا في تقدم العلم أو تخلفه، بل وجدوه في الغزوات الشرقية، فخارطة التخلف الأوروبي رسمتها سنابك خيل الشرقيين من الهون وحتى الأتراك، فحيثما جاست هذه السنابك، يكون هناك تخلف، بل يفسرون تخلف جنوب يوغوسلافيا عن شمالها بأن الغزوات الشرقية لم تصل إلى تلك المناطق. ويستدلون على هذا التخلف بالمقارنة التاريخية، فقد كان الجنوب الأوروبي متقدما على الشمال، فلما كان الإغريق والرومان في أوج عظمتهم، يستخدمون أرقى أساليب الحياة المادية والعقلية، كان الشمال عبارة عن قبائل تكاد تكون بدائية. واليوم تقدمَ الشمال وتخلفَ الجنوب لا لشيء إلا لأنه تعرض لغزوات الشرق. إن العقلية الغربية تربط بين الشرق والاستبداد والتخلف منذ القديم.
والملاحظ أن السياسة الأوروبية مقتنعة بهذه الفلسفة، لذلك سارعت في أعقاب الحرب العالمية الأولى إلى القضاء على تركيا سياسيا، وإنهاء هذه الدولة، وإعادة الأناضول إلى اليونان، التي شكلت حلفا مع الصرب والبلغار، وأوشكت أن تنهي المهمة، لولا الثورة الشيوعية التي قلبت الموازين، فأجبرت اليونان على التخلي عن المشروع الأوروبي، وأقيمت حكومة ’علمانية‘ لمواجهة خطرين كبيرين: الشيوعية من الشمال، والإسلام من الشرق. ولو كانوا يريدون الوقوف في وجه الشيوعية فقط لكانوا أقاموا حكومة دينية إسلامية، ولكنهم كانوا يشعرون بخطر الشرق بمقدار ما يشعرون بخطر الشيوعية، ولذلك عمدوا إلى ’العلمانية‘ لتقف في وجه الخطرين الكبيرين. وصارت سياسة دعم النظام التركي مهمة غربية أساسية لم تتخل عنها دولة أوروبية، ولذلك نلاحظ اليوم حيرة الأتراك، فهم لا يستطيعون العودة إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، ولا يستطيعون تنفيذ شروط أوروبا للاندماج فيها. فأوروبا لا تريد أي نظام تشوبه بقايا من الأنظمة الشرقية، سواء أكانت هذه البقايا اجتماعية أو دينية أو عرقية أم لم تكن. إن أي رائحة شرقية تشمها أوروبا تجعلها تقلق وتخاف، خاصة وأن أوروبا الشرقية ما تزال مثالا عمليا يجسد مخاوفها، فحتى الآن لم يتخلص هذا القسم الأوروبي من بقايا ’الشرق‘ التي تقلقهم أيما قلق وتجعل الخوف مقيما في أعماق مشاعرهم.
هذه الفلسفة أحادية النظرة، فكأن الغرب ’قنوع‘ مسكين لا يطمع بكنوز الشرق، بل يطمع ’فقط‘ بحماية نفسه من الخطر الشرقي المؤرق. قد يكون التاريخ مؤيدا لنظرتهم، ولكن في الوقت الذي يشددون على هذه الناحية، يخلقون ضبابا كثيفا جدا، يخفي المصالح المادية الأساسية، فثروات أوروبا لا تعيلها، أو لا تكفي لضمان الرفاهية التي نراها في الغرب اليوم.
  العقل الغربي: أنا القيصر
هناك ’عقل غربي‘ يختلف عن ’العقل الشرقي‘. واختلافه طبعا ليس اختلافا بيولوجيا، فمنذ عصر أرسطو كان العقل الغربي يتحدث عن ’الإنسان‘ بمعناه الشمولي. اختلافه عن العقل الشرقي هو في النظرة والوسائل. . . فالعقل الغربي نوع من المنطق البراغماتي الذي يعطي ’مال قيصر لقيصر ومال الله لله‘ بمعنى أنه لا يريد أن يكون هناك عنصر ’غير عقلي‘ في تنظيم ’العلاقة‘. العلاقة التي تكون فيها شائبة واحدة غير عقلانية تؤدي إلى تشويش المجتمع. هذا العقل هو الذي صنع الغرب وجعله في هذه الحالة المتقدمة. والعقل هو الذي كافح أكبر غزوة شرقية طيلة عشرة قرون. فقد غزت المسيحية أوروبا وسيطرت سيطرة كاملة تماما على الأقطار الأوروبية، فمنذ القرن الأول وحتى الرابع عشر دخلت الدول الأوروبية في المسيحية طوعا أو كرها. ولكن هذا العقل الأوروبي لم يرتح لهذه الغزوة التي لم تكن مسلحة أول الأمر، ولكنها انتهت بغزوات خطيرة مسلحة. لم تستطع النظرة الدينية أن تجعل أوروبا تتقدم. لم تكن لترضي ’العقل‘ الأوروبي أو ’العقل المطلق‘ كما يسميه هيغل. إن هذا العقل الشرقي الذي جاءت به المسيحية مخالف لعقلانية ’العلاقة‘ فهبوا ضده كأنه وباء، واتجه معظم أدباء أوروبا وفلاسفتها ومفكروها إلى الوقوف في وجه هذه الغزوة الشرقية. أطلقوا على العصور التي سادت فيها المسيحية اسم ’عصور الظلام‘ وصار الدين مرادفا للتخلف والجهالة والبربرية. وقد تطرف مفكرو الغرب وانقضوا على المسيحية وعلى كل دين، بشراسة لم تعرفها أكبر المعارك الحربية. هاجموا اليهود والمسيحيين وكل أسس الدين، وسخروا من الأعلام الدينية كموسى وداود والمسيح سخرية لم يعهد العالم من قبل مثل هذا الهجوم أو هذه السخرية.
ألف سنة والعقل الغربي يكافح هذه الغزوة الشرقية، إلى أن استطاع أن يزيل معظم سطوتها في القرن الثامن عشر. ومن يفكر أن العقل الغربي يسمح اليوم بأي غزوة من هذا القبيل، مسلحة كانت أو غير مسلحة، فعليه أن يعود إلى ما كتبه الغربيون عن الغزوة الشرقية المسيحية. وما يزال البولونيون حتى اليوم يحتفلون في التاسع من نيسان كل عام، بعيد الانتصار على المغول الذي حصل عام 1241. أكثر من سبعة قرون مرت على الغزو المغولي، دون أن ينسى الأوروبيون هذا الغزو ولو لعام واحد، بينما نسي الشرق الغزوات الغربية القديمة كغزوة الإسكندر وغزوة الرومان. وليس عبثا أن تظل ذاكرة محتفظة بحادثة كبرى، بينما ذاكرة أخرى تنسى الحادثة بكاملها. فهناك أسباب وأسباب لذلك. وعيد الرابع عشر من تموز في فرنسا هو في حقيقته عيد الانتصار على الغزوة المسيحية، التي سيطرت على أوروبا آلاف السنين.
واليوم، وبعد كل التطورات التي جرت استاءت البابوية من الاتحاد الأوروبي لأنه ’لم يعترف بالدين المسيحي‘ متجاهلة موقف العقل الغربي من المسيحية كغزوة شرقية، لا يسمحون لها بالتدخل في ’العلاقة‘ البشرية الدنيوية. هم مسئولون عن العلاقة البشرية، وعلى المسيحية أن تكون مسئولة عن العلاقة الإلهية، ألم يقل مسيح المسيحيين ’أعطوا مال قيصر لقيصر ومال الله لله؟‘. إن كل من يتوهم أن العقل الغربي يمكن أن يتهاون في هذه المسألة، يخطئ في حساباته، ويزيد من قتام نظرته إلى الواقع.
  الغزو الغربي وتغيير الشرق
كل غزوة قام بها الغرب كان ينوي من ورائها ليس فقط الاستيلاء على كنوز هذا الشرق المترامي الأطراف كثيرا، بل إنه كان وما يزال ينوي تغيير الشرق. وتغييره لا يكون بالاستيلاء عليه، فهذا مستحيل كما أثبتت الغزوات الغربية بدءا من غزوة الإسكندر. ولا يكون بنهب ثرواته، لأن الاستيلاء على الثروات وترك الكتلة الهائلة الضخمة التي تكاد تشكل ثلاثة أرباع البشرية في حالة من البؤس والفقر والجهل يشكل خطرا على الغرب مثل خطر الغزوات الفارسية على اليونان. إن التغيير يكون بغزو ثقافي يجعل البارادغما الغربي يسود في الشرق حتى يمكن قيام تفاهم. وعند ذلك يصبح الشرق قادرا على الإنتاج بالعمل وليس الإنتاج بما تقدمه الأرض، وهنا يصبح الغرب قادرا على ضمان عدم تدفق الشرقيين إلى بلاده بأعداد تشكل خطرا، وعلى ضمان أن الشرق تخطى حد الفقر، لأنه بالفقر يواجه خطرا كبيرا أيضا.
إن الإغريق هم الذين صاغوا العقل الغربي في إطاره العام. ولا يمكن لعقليتين مختلفتين أن تتفاهما. ولذلك لاحظنا أن كل غزو حربي من الغرب ترافق مع غزو ثقافي يشيع ثقافة الغرب. فالإسكندر جاء بجيوش جرارة، ولكنه جاء بمكتبات فيها من الكتب ما في فيالقه من جنود. ولكنه بعد جنديسابور لم يعد يهتم بالكتب والمكتبات، بل بالغانيات والكنوز الشرقية، فتزين بالذهب والجواهر، وخلع الثياب الأرجوانية التي اشتهر بها الإغريق، وارتدى اللباس الفارسي الإمبراطوري ووضع التاج على رأسه واعتلى عرشا رفع عن الأرض مسافة بعيدة، ورصّع بالأحجار الكريمة التي لا منافس لها في الأرض، وأدنى عتبة المدخل حتى يضطر كل ضابط من ضباطه أن يحني رأسه أمامه. . . لقد صار شرقيا يؤمن بقداسته وخلوده، ولا يقبل نقدا ولا مشاركة في الرأي. ولما رأى ضباطه هذا التبدّل فيه عافوه وعادوا إلى اليونان ثانية.
ولما جاء الرومان لم ينظروا إلى الشرق كمصدر لرزقهم فقط، بل أرادوا أن يشيعوا منطقهم في الحياة ففرضوا القانون الروماني المتقدم وبنوا المسارح والقناطر والحمامات ومدوا أقنية الري التي لا نظير لها في الشرق وما زالت حتى الآن تعرف بالأقنية الرومانية، وأدخلوا المحراث الروماني، فأحدث ما يشبه الثورة الزراعية، حتى أن منطقة حوران وحدها كانت تكفي الإمبراطورية من الحبوب، بل سماها الرومان ’أهراء روما‘. ولما جاء نابليون كان يعرف علة الشرق فأحضر معه أهم أدوات الثقافة، لنشر العلم وتغيير النظرة الغيبية المتأصلة منذ آلاف السنين. وأي غزو غربي لا يأتي بما يساعد الشرق على التخلص من العلاقة المغلوطة بين الحاكم والمحكوم، لن يخفف من خطر الغزو الشرقي للغرب بطريقة أو بأخرى، بهجرة غير مسلحة أو بهجرة مسلحة.
هذه الغزوات الغربية ترافقت دائما بغزو ثقافي (باستثناء بعض الغزوات ذات الطابع الشرقي ألاجتياحي كالحروب الصليبية على سبيل المثال) لإشاعة روح البحث العلمي، بينما لم يشهد التاريخ مكتبة واحدة أو أي أداة ثقافية أخرى، أدخلها الشرقيون إلى الغرب في غزواتهم. كانت الغزوات الشرقية جافة خالية من كل رونق ثقافي راق. كل ما فعلوه أنهم أدخلوا بعض عاداتهم وتقاليدهم، فلم يبق منها سوى بقايا قليلة جدا في جنوب أوروبا. لقد خلق الغربيون من أراضيهم وطنا حقيقيا لهم. . . ولغيرهم.
  الشرق والرهان على الدهماء
كان الرهان على الدهماء أسلوبا قديما. لكنه في الشرق ما يزال متبعا في معظم الأقطار. وهذا يعني أن هناك طبقة من الإنتلجنسيا لا تجد لنفسها مكانا، فتضطر إلى البحث عن عمل خارج هذا الشرق، مع أن الحاجة إلى تلك الطبقة التكنوقراطية كبيرة جدا. وتحويل الشعوب إلى دهماء له أساليب معروفة أهمها حرمانه من القيم الأدبية، فلا مسارح ولا رياضة ولا رسم ولا نحت ولا موسيقى ولا فن. . . الإنفاق الأمني هو الأساس، مما يحول الناس إلى ساعين إلى الرزق. . . إلى دهماء محرومين من أي حصة للإنماء الثقافي في الميزانية. إن القيم تتركز كلها في شعارات وطنية وقومية ودينية. . . تطرح بديماغوجية خطابية طنانة.
لا يوجد في الشرق ’نظام‘ حكم، فذلك يستدعي العمل بالدستور والقوانين والأنظمة، بل لا يجوز أن نستخدم أصلا مصطلح ’نظام حكم‘ والأولى أن نقول’أسلوب‘ حكم (أي نقل مصطلح ماركس’أسلوب الإنتاج الشرقي‘ إلى السلطة) فذلك يدل على ارتباط كل شيء بالحاكم، فكل القوانين والأنظمة تخضع له. وهذا ما جعل الشرق بيئة نابذة كما يقول علماء الديموغرافيا. فأنت لن تجد فرنسيا أو إنكليزيا أو سويديا أو دانمركيا، على ضيق أرضه، يهاجر إلى الشرق، بينما تجد ملايين من الشرقيين يهاجرون إلى الغرب. وليسوا جميعا من الإنتلجنسيا، بل من مختلف الفئات التي تؤلف الطبقة الوسطى. والملاحظ أن العمالة اليدوية تضغط اليوم على الغرب أكثر من العمالة التقنية والفكرية بكثير، فهناك معسكرات كثيرة تقام للمهاجرين حتى لا يختلطوا بالناس، ريثما يتم علاج حالتهم، كما أن هناك بحارا تبتلع المبحرين غير الشرعيين إلى الغرب، وأحيانا يبتلع البحر قوارب بكاملها. وهناك
وهذه الظاهرة موجودة منذ أول هجرة شرقية قبل عشرين ألف سنة. الهجرة كانت وما تزال من الشرق إلى الغرب. وستبقى من الشرق إلى الغرب ما دامت الأمور تجري على هذا المنوال، دون أن يحدث تغيير حقيقي يجعل الشرق يخضع لنظام ويلتزم بقانون، ويسمح بحرية الرأي، ويسقط المقدس من حساباته، مهما كان. . . الخ.
ليس هذا وحسب، بل إن الشرق يعاني من نقص كبير في الطيور، فكأنها غيّرت من مسار هجراتها، وصارت هي الأخرى تفضل الغرب. ففي كل حديقة أو ساحة أو خلفية منزل أو سطح قرميد أو نافذة في الغرب تهبط الطيور دون خوف وتلتقط ما تجده، وتقف على أكتاف الناس أو راحة أيديهم، بل إن ظباء كاليفورنيا تدخل الجنائن والحدائق دون أن يعترضها أو يؤذيها أو يمسك بها أو يخيفها أحد، فهذا يعاقب عليه القانون معاقبة شديدة، فترى الظبي يدخل الحديقة دون أي خوف من البشر، ويرتع كما يشاء. . . مشاهد لا يمكن تقريبا أن تعثر عليها في أي بلد من بلدان الشرق. إن كل شيء في الغرب صار خاضعا لقانون ونظام. وهذا ما جعله ملجأ لكل أبناء الشرق، فقلما تجد قطرا من الأقطار الأوروبية أو الأمريكية دون أن تجد فيه ملايين أو آلاف المهاجرين من الشرق، بينما لا تجد مهاجرا غربيا واحدا يأتي إلى الشرق. إن الشرق يبتلع المنطق والعقل والنظام، يبتلع كل الأدوات التي حوّلت الإغريق من قراصنة وآكلي ثعابين وقطاع طرق إلى معلمين للبشرية.
يرى هيغل أن العقل الشرقي يمثل العقل المطلق في غيبوبته عن ذاته، أي في عدم امتلاكه لقدراته الحقيقية ومنطقه الدقيق. وقد لاحظ هيغل أن العقل المطلق بدأ يتلمس قوانينه في الغرب. وعندما يصل المجتمع إلى مبدأ ’كل ما هو عقلي واقعي، وكل ما هو واقعي عقلي‘ يكون العقل المطلق قد وجد نفسه أو تعرف على نفسه. أما عندما يكون الوهمي في داخل العقلي، أو الأيديولوجي داخل الواقعي، فإن المعادلة غير صحيحة، فالعقل المطلق، العقل المنطقي ما زال يبحث عن نفسه في الشرق، بمعنى أن ما يجري على أرض الواقع ليس ’عقليا‘ كما أن ما يجري في أعماق العقل ليس واقعيا، ولذلك لم يستطع الشرق، بمعظمه، أن يقيم ’نظاما‘ يحل محل ’الاستبداد الشرقي‘ الذي أكثر الغربيون من الحديث عنه، منذ أرسطو وحتى يومنا هذا.
  لغة الحوار
ليس هناك لغة للحوار بين الشرق والغرب سوى الهجرة والغزو، وقد قدمنا بعض الأمثلة. وكلما ازداد الفارق بين القطبين تأكدت هذه اللغة من الحوار. إن مقابلة البارادغما العلمي بالخطابة والشعارات لا يغير من لغة الحوار شيئا، فكل منابر الشرق لا تقنع الغرب. هناك لغة واحدة يفهمها الغرب وهي ’كل ما هو عقلي واقعي، وكل ما هو واقعي عقلي‘ فهو يفحص العقل بالواقع ويفحص الواقع بالعقل. وحتى تتغير هذه اللغة لا بد أن يقضي أحد الطرفين على الآخر، بمعنى أن يتغلب الغرب على الشرق عن طريق دعم العقل المطلق في الشرق حتى يصحو من غيبوبته ويجد قوانينه ويلتزم بها، أو أن يتغلب الشرق على الغرب فيعود من مساواة العقلي بالواقعي إلى مساواة الوهمي أو الأيديولوجي بالواقعي. . . وبذلك يستريح العقل من الواقع ويستقيل من عناء النظر فيه، وينفصل الواقع من العقل ويصبح ملحقا بعالم الغيب. . . ويحل علماء الغيب محل علماء الفيزياء. . .
ما زال الغرب يخاف الشرق، ويسعى إلى التخلص من هذا الخوف بطريقة مقنعة، وما زال الشرق مضخة تدفع بالهجرات المسلحة وغير المسلحة إلى الغرب. . . وما زال الغرب يفكر فيما فكر فيه أرسطو وتلميذه الإسكندر من ضرورة غزو الشرق لتغييره، درءا للخوف المحشو في وسائد الغربيين، وسيبقى الحوار قائما حتى يزول أحد طرفي المعادلة، إن عاجلا أو آجلا.
مجلة "حوار العرب" العدد 0.
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق