الاثنين، 2 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الثاني ) - فنون من الوطن المقيم - محمد طليمات وإعادة اختبار مقولات التشكيل ( بسام جبيلي )

مجلة السنونو ( العدد الثاني ) - فنون من الوطن المقيم
محمد طليمات وإعادة اختبار مقولات التشكيل ( بسام جبيلي )
 
          قـد يكون الدخول إلى عالم الفنان محمد طليمات في معرضه الفني الأخير في صالة نقابة الفنون الجميلة بحمص، من أكثر الأمور التباسا بالنسبة للمشاهد العادي مرورا بالإشكالية التي تطرحها أعمال المعرض بالنسبة للمتذوق المعتاد على محاكمة الفن ضمن معطيات بناء اللوحة التقليدية، كلاسيكية كانت ام حديثة .فالفنان هنا كمن يحرق السفن القديمة الراسخة المستقرة ويستبدلها بجذع شجرة مجوف و مجذاف بدائي ليبحر بنا ببساطة وهدوء في اعقد نظريات علم الجمال  وأكثرها التباسا.
    هـذه البساطة التي تبدو للوهلة الأولى مجانية وساذجة وسهلة، تتحول وبنظرة متأنية إلى أن تثير فينا حسا جماليا فريدا و مختلفا يناقض الجماليات المعتادة،فالفنان هنا لا يعتمد على الإبهار الشكلي أو اللوني لأنه بكل المقاييس وعن سابق إصرار  وتصميم يحطم الجماليات المألوفة، يبعثرها وينفيها، ليبني لوحته بمفاهيم جديدة متقشفة .
   وقـد يكون من التجاوز أن نتكلم عن معرض أخير دون المرور ولو بشكل مختصر على تجربة محمد طليمات الفنية الممتدة إلى اكثر من خمس وثلاثين عاما, والتي تحمل من الغنى الفني والفاعلية, بقدر ما تحمل من العشق والاستغراق, حيث يتحول الفن إلى هاجس يومي للتجريب, و إعادة اختبار المقولات القديمة المعروفة التي جربها تاريخ الفن لآلاف المرات, لعل الفنان يكتشف أثناء هذيانه المقدس,   ولو ثغرة صغيرة واهية في صلب القانون الراسخ, لينفذ من خلالها إلى وجداننا كمشاهدين مفسدين بالعادي و المألوف .
          والطريف في تجربة طليمات أنه في  كل مرحلة من مراحل تحولاته الفنية الكثيرة ومن خلال الانفتاح غير المشروط على فنون العالم متأثرا و مؤثرا . انه يبحث عن مستحيل لا يمكن الوصول إليه, ويتلمس بإلحاح كثيرا من الحقائق الزائفة, و أثناء ذلك يخترع  قوانينه الخاصة, ليقوم بنفيها و تدميرها في نفس الوقت .فتتبدل قوانين الرؤية من لوحة إلى أخرى ويصبح التحول  طاغيا وسريعا يتنقل عبر الأساليب والأفكار بسرعة تتجاوز محطات قطار الريف الصغيرة و إشارات المرور, وتصبح الحقائق كيانات مراوغة, واللوحة نافذة مشرعة نحو أعماق الذات .
      إن التجريب بما يحمله من احتمال الخطأ      و الصواب, ما هو إلا  بناء مرن للوعي المتغير باستمرار, و كلما تجاوز الفنان وعيه الخاص تصبح التجربة اشق و اصعب  فالتجاوز يحوي ضمنا بذور النفي لكل ما توصل إليه الفنان في محاولاته اللانهائية من الفعل و ردود الفعل .
       ومع طليمات يتحول الأسلوب إلى خيار عشوائي يختلف من لوحة إلى أخرى طبقا لانتقاء الفنان   اللحظة التي يوقف بها العمل على لوحته .  لأن ما  تراه عين المشاهد, ما هو إلا الطبقة الأخيرة من سطح اللوحة الذي يخفي تحته عشرات الطبقات من نجاحات اللون  و إخفاقا ته . اغلب الفنانين ينتهي
     إنجاز لوحتهم عند وصولها إلى أسلوبهم الخاص  بما يتطابق مع تصور مسبق أو حلم مستحيل . لكن قرار إنهاء اللوحة عند طليمات يتم بحرية مطلقة, بغض النظر عن سماكة العجينة اللونية أو زمن التنفيذ, ومن هنا هذا التعدد في الأساليب .  فالأسلوب في الحقيقة ما هو إلا هذه الطبقة اللونية الأخيرة  التي اختار الفنان إيقاف عمله عندها . وبالعودة إلى المعرض نعود للتساؤل ما هي تمردات محمد طليمات وضد أي الجماليات يثور؟
     انه يثور ضد المنظور، وضد التجسيم، وضد اللون، وضد الرشاقة، وضد الكتلة، وضد التوازن ،وضد التناسب، وضد الرهافة و ضد النسب الذهبية . ومن هنا تبرز المغامرة الخطرة التي يخوض الفنان غمارها حين يتخلى عن كل هذه الإمكانيات التشكيلية الأساسية ليعرض قوانينه الخاصة المتقشفة الفقيرة، ويتحرك ضمنها . فهو لا يحتفظ من أدوات التشكيل سوى بالخط وملمس السطح واللون الواحد المسيطر في بناء مفتوح، يعتمد على تكرار خطوط متوازية منفذة بعفوية مطلقة بواسطة الحز والحفر على عجينة لونية سميكة   و محايدة .
       لكن ما الذي يريده محمد طليمات من هذا التقشف الطوعي؟
      إنه يحيلنا إلى بدايات الأشياء بل إلى ما قبل البدايات فهو يحفر في طبقات الوعي الإنساني ليصل إلى اقدم الطبقات وأكثرها غموضا حيث تفقد الأشكال الأولى أسماءها وتتخلى حتى عن رمزيتها لتتحول إلى   إشارات بصرية تتراوح بين المعنى واللامعنى دون أن تصل إلى التجريد . وهذا بالذات ما يعطي لهذه الأشكال العشوائية حيويتها المبهمة. وتكرار هذه الإشارات اللانهائي وتوزيعها بشرائط أفقية أو عمودية يذكرنا بزخارف السجاد والقيشاني الأزرق القديم, إلا أن هذه التيمات ابعد ما تكون عن الزخرفة، فهي تستعير آليات الرقش وتستبعد منه الأناقة والرهافة والتناظر .
        في الحقيقة هناك ثلاث أساليب متباينةفي المعرض لكنها جميعا تنهل من مورد واحد هو البدائية والتلقائية الخطية .
       هنـاك مجموعه من اللوحات السوداء التي تعتمد على رهافة درجات الأسود وهي منفذة بعجينه لونية كثيفة وبخطوط تعتمد طريقة الحك والكشط وتمثل كائنات بدائية طفولية تحتل كامل مساحة اللوحة . ومشكلة هذه المجموعة أنها تتعامل شكليا مع فن الطفل دون أن تصل إلى حساسيته وبراءته وإدراكه،  وهي أيضا تقارب الفن البدائي لإنسان الكهف،  لكنها لا ترق إلى تعامله السحري مع الأشياء والكائنات، حيث أن الفنان قد نفذها بحيادية شكلية وبدم بارد، فهناك مسافة واضحة بين العمل وصانعه . وهذه المسافة باعتقادي تعطي الأعمال مصداقيتها لأنها تنسجم مع واقع معاش فقد فيه السحر والحلم والبراءة على حد سواء .
        هنــاك عمل تجريدي واحد كبير الحجم يحاول  الفنان فيه أن ينسف التكوين الذي هو أساس أي عمل تجريدي ويستعصي عنه ببقع تلقائية مبعثرة لا  يحكمها أي منطق بنائي أو لوني، مما يعطي إحساسا للمشاهد بان العمل غير مكتمل، خاصة أن الأعمال التجريدية ذات الحجم الكبير لا ينفع معها تلقائية التنفيذ فهي بحاجة إلى جهد هائل لبناء عجينتها اللونية المناسبة وبالتالي لاستكمال عناصرها التشكيلية القابلة لألاف الاحتمالات.
      هنـاك مجموعة من اللوحات يسيطر عليها اللون الواحد فتتحول فيها الإشارات إلى نوع من الأشكال الإنسانية و الحيوانية المختزلة و المحورة وكأنها خرجت للتو من نص مسماري محفور على الطين . وهذه اللوحات تعتمد وبعكس باقي لوحات المعرض على بنائية شكلية مألوفة وغير واضحة استطاع الفنان توزيع عناصره عن طريقها على سطح اللوحة مما اكسبها توازنا قسريا.
            أما بالنسبة للون فلكل لوحة لونها المسيطر الخاص الذي يفرض وجوده والذي يمتص كل الألوان المجاورة له فيعطي إحساسا بطغيان اللون الواحد . لكننا بالتدقيق وبإعادة المشاهدة والتأني نشعر بالرهافة التي يتعامل الفنان فيها مع اللون، إذ أن هناك مشتقات لونية لا ترى إلا عن قرب وهي تأسرنا ببوحها الهادئ الخالي من الضجيج اللوني الحاد . وهذا يخلق معضلة في الطريقة التي يتحتم على المشاهد أن يرى فيها لوحات طليمات الكبيرة الحجم لأنه سوف يفقد اللون إذا ابتعد مسافة عن اللوحة وبالعكس فانه سيفقد التكوين العام إذا اقترب منها.
 وأخيرا هناك انطباع يخرج به المشاهد من معرض محمد طليمات وهو أن تجربته الحداثية تعتمد على عمليات الحذف والاختزال والرجوع بالفن إلى منابعه الأولى،  والاعتماد على التلقائية الخطية . فهو يحاول خلق لوحة حديثة مقنعة وبوسائل متقشفة تتخلى طواعية عن كل اغراءات التشخيص والتجسيم وخداع البصر . وتتحول اللوحة بذلك إلى كيان مستقل يحمل خصوصيتها فهي تنفي محيطها و تتآلف معه في نفس الوقت, وكمثل رسوم كهوف ما قبل التاريخ فبمجرد تواجدها على الجدران يتحول الكهف المقفر إلى كاتدرائية بدائية , فيكتسب المكان قيمته و معناه . وعلى الرغم من تفرد وغرابة و جرأة لوحة طليمات فإنها تحمل سهولة التآلف مع المكان والتمازج معه ليصبح الاثنان شيئا واحدا .
         وصعوبة تجربته تكمن بمحاولته العمل على قطبين متناقضين قطب الحداثة وقطب البدائية الفطرية والخروج بلوحة تحمل النقيضين وتدمج بينهما.
 

WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق