الاثنين، 2 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الثاني ) - حمصيات عتيقة - المكافأة ( معتصم دالاتي )

مجلة السنونو ( العدد الثاني ) - حمصيات عتيقة
المكافأة ( معتصم دالاتي )
          كان الميسور مادياً في حمص كما في غيرها من المدن السورية أو العربية يُدعى أفندي أو بيك أو آغا أو غير ذلك من الألقاب يطلقها عليه المقربون منه والمستفيدون من خيره حتى وإن لم يكن قد حصل على أيِّ من تلك الرتب بشكل رسمي عن طريق السلطان. ولكي يكون جديراً بلقبه هذا فقد يتوجب عليه أن يكون وجيهاً. والوجاهة تقتضي بعض البر والكرم والإنفاق، بالاضافة إلى مظاهر الوجاهة كالطربوش المائل فوق الرأس، وحمل البسطون، أي العصا، والظهور بمظهر لائق كأن يكون لديه بعض الحزم، وأن يكون لديه تابع يسمونه "زلمي" فيقال: هذا زلمه فلان آغا. يرافقه في مشاويره ويقضي له حاجياته ويوافقه على كل ما يقول، ممتدحاً جميع تصرفاته، ضاحكاً لكل نكاته وإن كانت سخيفة، منتبهاً لكل قصصه وأحاديثه وإن غدت مكررة مملة، وله أن يستشهد بزلمته على صدق ما يقول أمام الآخرين فيوافقه على كلامه بالحق والباطل، وفي الصدق والكذب، وهو حافظ لأسراره والمؤتمن على أفعاله والمعجب بسيده من شرابة طربوشه وحتى نعل بابوجه..
باختصار هذه هي صفات ومهام من يُدعى زلمة فلان .
          كان أحد الآغوات الحمصيين "يكزدر" في واحد من شوارع حمص. يحمل بسطونه. وتحت طربوشه بعدة سنتمترات يستقر شاربه المفتول والمحمول على وجه قاسٍ، متغضِّن الملامح، فتلك سمات الهيبة، فالأثرياء يحرصون على تلك الهيبة، والاَّ فما معنى لأقوالهم وثرائهم إذا لم يؤمنا لهم تلك المهابة ؟. غير أن هذا الآغا رغم كل تلك الصفات السالفة الذكر كان يحمل في داخله نفساً شفيفة وتذوقاً عالي الحساسية مع روح الفنان المرهف الذائقة الفنية.
          كان الوقت حوالي الغروب حين صادف مروره بالقرب من أحد المساجد وقد بدأ المؤذن بالآذان. والمؤذن في ذاك الزمن قبل الكهرباء ومكبرات الصوت كان يصعد إلى المئذنة المرتفعة ويبدأ منها بالتكبير والآذان.
          إنتبه الآغا الذواقة لصوت المؤذن. فما كان منه إلاَّ أن أبطأ مسيره وهو يهز رأسه طرباً، منفرج الأسارير. فالمؤذن هذا يمتلك صوتاً شجياً يبعث على الانشراح. لكن الآغا لم يكن يستطيع الاستجابة لنداء المؤذن
بالدخول إلى المسجد لأداء الصلاة فالآغا هذا مسيحي وما من علاقة تربطه بالمساجد وطقوسها. فما كان منه إلا أن أخذ يتباطأ في سيره وهو يهز رأسه طرباً، ثم أخذ يجوب الرصيف جيئة وذهاباً مأخوذاً بالصوت الشجي.
          بعد انتهاء الآذان أخرج الآغا ليرة ذهبية من جيبه وأمر زلمته أن يأخذها ويقدمها للمؤذن صاحب الصوت الجميل مكافأة له على المتعة الروحية التي حققها المؤذن للآغا.
          امتثل الزلمي لأوامر سيده ثم تابعا مشوارهما (الكزدوره) والآغا في غاية النشوة والانبساط. وبعد حوالي الساعة وبضع الساعة صادف مرور الآغا بقرب مسجد آخر وقت آذان العشاء. فاستمع الآغا للصوت الصادر عن المؤذن هذا والمنفر من شدة قبحه، فما كان منه إلا أن أخرج من جيبه ليرتين ذهبيتين وأمر زلمته أن يقدمهما للمؤذن صاحب الصوت القبيح. فامتثل الزلمي كعادته بالامتثال. وحين عاد تجرأ وقال لسيده: يا آغا أعذرني. فقد وجدت منك العجب وأنت الذواقة. فكيف تنعم على المؤذن صاحب الصوت الجميل بليرة ذهبية واحدة في حين أنك أنعمت على المؤذن ذي الصوت القبيح والمنفر بليرتين ذهبيتين ؟!
          ضحك الآغا وقال : المؤذن الأول بصوته الشجي الجميل أخذ بعقلي وأستحوذ على جوارحي وكاد يستميلني إلى دينه. أما
المؤذن الثاني بصوته المنفر القبيح فقد أعاد إلىَّ ما أخذ المؤذن الأول صاحب الصوت الجميل فردني إلى عقلي وديني. أفلا يستحق هذه المكافأة يا قليل الفهم ؟.     
          لست أعجب من تصرف هذا الآغا الذواقة في مشاعره من المؤذنَين المختلفَين. فأنا لست مسيحياً. غير أنني حين أُنصت إلى الأورتريو الرائع والذي يحمل أسم "الميسيا" للموسيقي العظيم هاندل.. أو ما شابه من الحان سماوية رائعة تسكنني قشعريرة ونشوة. فأدرك أن "يسوع" قد صار في قلبي .. وأنني أيضاً قد صرت في قلب يسوع.
   منعرجاتُ ذكرى ... مراقدُ أهلٍ وحكايا... مواقعُ أمانٍ وتاريخ ... إليها تلفّت النازحُ يوم الرحيل حتى تشنّجتْ عروقُ رقبَتِه...! حينئذٍ " تلفّتَ القلبُ " ... نهاد
 
       
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق