الاثنين، 2 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الثاني ) - قراءة في كتاب - دون كيشوت : رومانسية مضادة ( حنا عبود )

مجلة السنونو ( العدد الثاني ) - قراءة في كتاب
دون كيشوت : رومانسية مضادة  ( حنا عبود )
 
دون كيشوت  : رومانسة مضادة
               في " دون كيشوت " نجد معالم حياة سرفانتس وفكره و موقفه من الأدب و الحياة . ومناقشة لحياته أو محاسبته لها هي التي قدمت له شخصيتين متناقضتين : دون كيشوت الفارس النقي الذي يريد أن يرتب العالم ترتيبا جماليا, و سانشو بانزا الإنسان المادي الذي يريد أن يرتب العالم ترتيبا ماديا . وليس عبثا أن يصف فارسه بالفارس ذي الوجه الحزين, وأن يصف التابع بالباحث عن طعام لإسكات معدته . فهذان هما الخطان اللذان اعتمدهما سرفانتس في أداء روايته. وهما الخطان اللذان لمسهما جيدا في حياته داخل إسبانيا و خارجها. تريد أيها المرء أن تكون فارسا و أن ترتب العالم ترتيبا جماليا ؟ إذن لا بد أن تكون ذا وجه حزين. فان كنت تريد أن ترتب العالم ترتيبا ماديا فعليك أن تهتبل الفرص للحصول على الماديات , وبذلك تنام ملء العين مثل سانشو بانزا .
إن الندم على حياة الفروسية التي عاشها سرفانتس و التي لم يخرج منها بشيء،  ولا حتى بكفاف يومه أحيانا, هو السبب الأكبر القابع وراء كتابة دون كيشوت . وبما أنه نادم على حياة الفروسية فانه مضطر أن يخلق شخصية تشغف بالفروسية قيما وممارسة, ليعود بهذا المخلوق في نهاية المطاف إلى منزله, كما عاد هو خالي الوفاض من كل شيء. انه ينتقم من الفروسـية بخلق دون كيشوت وليد الومانسات الوسطوية و دفعه إلى ممارسة قيم الفروسية في عالم الرصاص البارد  إذا سلمنا بتماهي شخصية سرفانتس في شخصية دون كيشوت كفارس في عصر البارود و المدفع, في عصر سانشوبانزا, فان كل حديث عن المخلوق هو بالضرورة حديث عن الخالق. و هذا ما سوف ننطلق منه في نظرتنا إلى هذه الرومانسة المضادة, التي أرادت شن حرب لا هوادة فيها على فن الرومانسة باعتباره فن الأوهام الذي لا صلة له بالواقع الذي يعيشه البشر. انه فن الجنون, فن من في عقله خبل أو هبل .
  ولادة عجيبة
الولادة من أم وأب متاحة لكل بني البشر وغير البشر, ونتيجتها مولود جديد, مما يجعل الأرض تكتظ بالبلداء و اللصوص و القتلة و السفلة, فهؤلاء لا يحتاجون إلى تدريب وتربية. يكفي أن ينساقوا وراء غرائزهم لا اكثر, فنحصل على هذه الأصناف التي تبعث على الحزن و النفور و تحفز على العمل من اجل تجميل الحياة. أما الولادة الاختيارية فهي التي تحدث بعد الوجود الجسدي والنضج العقلي. و ما الذات إلا ما نختاره, كما يقول الوجوديون . ومع أن هذه الولادة اختيارية إلا أنها عجائبية . ومن لا يختار ولادته الثانية يبقى بين المهملين بكل صنوفهم .
ولد السيد له المجد دون كيشوت ذو الوجه الحزين ولادة عجائبية . فقد فقسته كتب الرومانسات الكثيرة. ولو أحصينا ما ذكره الكتاب بجزأيه من الرومانسات القديمة و الوسطى, وكذلك رومانسات عصر النهضة, لكان الرقم كبيرا جدا , وعلى الأخص الرومانسات الإسبانية السابقة لدون كيشوت . ففي الكتاب تبرز أمامنا أسماء الفرسان من العصور السحيقة مثل جايون و اوليس وأخيل وكاستر و بولوكس وهرقل وميلغر, ومن العصور الوسطى مثل آرثر ولانسيلوت و ميرلن و ترسترام و غاوين وبرسيفال, بل نجد اسماء من الرومانسات التي ظهرت في القرن السادس عشر. ويكفي القول أن عشرات الرومانسات ألفت حول شخصية الفارس أماديوس. بل نجد في الكتاب ذكرا لرومانسات معاصرة, أي في النصف الثاني من القرن السادس عشر من أمثال "قصة الفارس الذي لا يقهر دون أوليفانتي دي لورا أمير مقدونيا الذي استطاع بفضل أعماله الجليلة أن يكون إمبراطور القسطنطينية " وقد صدرت هذه الرواية في برشلونة عام 1564.  عشرات الرومانسات ذكرت في الكتاب. ويدهش القارئ متسائلا : هل بقيت رومانسة واحدة لم يطلع عليها السيد دون كيشوت ؟ كان همه, قبل أن يهم بتكريس نفسه للفروسية أن يتتبع أخبار الفرسان و أعمالهم المجيدة . الكتاب في يده ليلا نهارا . عالم جديد يظهر له ويعده لولادة ثانية . راح يبيع أراضيه و أملاكه للحصول على المزيد من الرومانسات التي لم يقرأها . تحوله يشبه التحولات التي تحدث عنها فيما بعد . كانت ولادته عسيرة و مدة الحمل طويلة جدا . وعندما ولد كان في مرحلة الكهولة . لو ولد في الصبا و الشباب لكان افضل . كان أقوى وأقدر.  ولكن في هذه الحالة لا نحصل على الرومانسة المضادة، لأنه سينتصر في المعركة .
         كثيرون غيره ولدوا ولادة ثانية من فرسان و ملوك وكتاب و أدباء وروائيين . لكن اللذين عاشوا قلة جد ضئيلة . مثله ولد رانبو فيما بعد ولكنه لم يعش مثله . انه من القلة التي تولد لتبقى خالدة ابد الدهر. تتكرر الولادات كثيرا من بين الكتب . فلا يوجد أديب أو شاعر أو مسرحي إلا ولد من بين الكتب . ولكن كم يبلغ عدد الذي ولدته الكتب و العدد الأكبر الذي ولدته أرحام الأمهات .
        صحيح أن من يولد ولادة ثانية يتخلص من غباء الدهماء وغوغائية الحشد, ولكن الذين يصلون إلى مستوى الرهافة والصفاء والموقف الأدبي و الأحلام المجنونة و النضال من أجل النزاهة أمثال السيد له المجد دون كيشوت هم قلة قليلة كتب لها المجد والخلود . إن ولادته العجائبية هي التي يعانيها الأدباء والشعراء الذين يحضون البشر على مكافحة القذارة في هذا العالم, و يقنعونهم بأن من الممكن أن يغدو العالم جميلا . انهم وحدهم و بأحلامهم المجنونة يمسكون العالم من الانهيار, إذ يزرعون فيه بذور الأمل, التي ينمو قليلها رغم الأعشاب السامة المتكاثرة مثل الفطور أو الفيروس . ولولا هذه الولادة لما كانت بذور الأحلام منكسرة .

  حياة بائسة

         لا توجد صفة تعبر عن جوهر سيدنا له المجد دون كيشوت أفضل من" ذي الوجه الحزين " .انه شجاع عنيد ثابت وطيد نزيه كريم حليم رحيم مخلص غيور ...لكن كل هذه الصفات لا تصل إلى الجوهر . إنها صفات ذاتية . بعضها أوكلها لا يتجلى مقروءا في مظهره . الصفة الوحيدة التي تحدد علاقته بحياته و عالمه هي " ذو الوجه الحزين " .
          يقول أونامونو في كتابه المكرس لسيد مجانين الحلم دون كيشوت :" جاء ليفقد عقله . لكنه فقده لصالحنا, ليخلف لنا مثلا أبديا للسخاء الروحي ". وقد أصاب حقا في هذا التشخيص الذي يفسر لنا لماذا كان السيد ذا وجه حزين . إن من فقد عقله يكون ذا وجه بشوش, بل ذا وجه ضاحك مقهقه ... لأنه يعيش خارج العالم أما الذي يفقد عقله لأنه مزروع في هذا العالم و مهتم به فان وجهه لا بد أن يكون حزينا . ولهذا السبب، لأن وجهه حزين, فقد أصاب في أفكاره الغريبة العجيبة. كل مجانين العالم قبله وبعده أيضا لم يقدموا لنا أفكارا غريبة ومصيبة في آن معا مثلما قدمها هو لنا .
          اثنان حزينان لم يتكررا في تاريخ العالم : دون كيشوت و هيراكليت . الأول أعظم نموذج للموقف الأدبي, و الثاني أعظم نموذج للموقف الفلسفي. ولا يقتصر الشبه بينهما على
الوجه الحزين, بل يتعدى ذلك إلى الهم  الكوني و المصير البشري. و الهم قلق يلقي بالمسؤولية على كاهل صاحب الموقف... والهم وحده يجعل الوجه حزينا ... وليس ضياع العقل .
          والوجه الحزين لم ترسمه الحاجات المادية, و إنما ترسمه تلك الهموم الكونية هموم الارتقاء بالمخلوق البشري وجعله يترفع عن الغرائز الذئبية . إن نداءات الغرائز قوية و استجابة الإنسان لها تكون في العادة سهلة جدا , وهذه هي المشكلة الأساسية .
          كان دون كيشوت المترفع دائما عن مستنقع الغرائز ينهر تابعه سانشوبانزا و يدعوه أن يكون نبيلا نفسا وسلوكا, فلا يتهافت على الطعام و الشراب والثروة والحيازة . و التابع والمتبوع على طرفي نقيض . فقد كان السيد خارجا عن سلطان المادة و كان التابع أسيرا لها. الأول يهتم بسعادة البشر فهو ذو وجه حزين, والثاني يهتم بحياته فهو ذو وجه ضاحك, بؤس حياة الأول سببه الهم, و بؤس حياة الثاني سببه الحيازة و الامتلاك . وشتان بين البؤسين .
        قد يحتاج السيد أحيانا حتى إلى صحن طعام, ومع ذلك لم يكن هذا ما يهمه ولا ما يرسم معالم الحزن في الوجه . همه الأكبر هو كيف ننقذ الإنسان من نفسه . وهذا ما يجعل وجهه حزينا وحياته بائسة .
       هذا هو سبب القلق الذي يصيب نبلاء القلم على مر العصور ويجعل من حياتهم بائسة، وان كانت الرؤيا صافية . من لم يكن حزنه نابعا من هذا البؤس, من هذا الهم, فلن يكون فيلسوفا أو فارسا أو أديبا أو شاعرا أو مسرحيا أو روائيا ... وهذا الحزن شارة من شارات صفاء الرؤيا, فالرؤيا الصافية تكشف أبعاد الواقع المتردي, ومن هذا الواقع ينشأ البؤس المعذب .

معرفة بالعصر وتشبث بالموقف

        كل أصحاب الرؤيا يواجهون تهمة الرجعية و الجهل بوجهة العصر . "دقة قديمة وعملة باطلة " وهم دائما محط هزء و سخرية . انهم يشككون في كل تصرفاتهم و يجعلونها حجة عليهم. لكن التاريخ يثبت عكس ذلك, فأصحاب الرؤيا يدركون الجوهر العميق للعصر, و لا يأبهون بالسطوح التي تظهر لعامة الناس .
        في الفصل الثامن والثلاثين من الجزء الأول يلقي السيد دون كيشوت والحزن باد على وجهه, خطبة في مأدبة عشاء ناقش فيها السلاح والأدب و رأى أن كل سلاح لا يخضع للأدب يصبح وبالا على البشرية . إن قوانين الفروسية هي أدب الفروسية . كل قتال لا يقيم عدلا ولا يرفع ظلما ولا ينقذ أسيرا ولا ينصف منبوذا إنما هو خارج الأدب . وكل فارس يلجأ إلى الغيلة والخدعة لا يعتبر منتصرا ، بل ينصف الفارس القتيل و يعتبر هو المنتصر الحقيقي . و كل من دافع عن ظلم تنحط مرتبته في الفروسية .
         لكن الأمور طفقت تتغير في القرن الرابع عشر . صار العصر مختلفا ونظر الناس إلى أولئك الذين ظلوا يعيشون في الماضي على انهم مجانين رجعيون . فالفروسية بآدابها انتهت إلى الأبد والحرب اليوم صارت غيلة وخدعة ومكرا ونقضا للمواثيق و العهود . وبمقدار ما تخدع و تكذب وتخاتل وتقتل أبرياء وغير أبرياء, لا فرق, فأنت الرابح وأنت سيد العصر.
         قال السيد دون كيشوت له المجد :
         " الا كم هي سعيدة تلك القرون التي لم تعرف آلاف المدافع الرهيبة . أنا لا اشك في أن جهنم كافأت مخترع هذا السلاح المريع. فبهذا السلاح يمكن للجبان الوغد أن يقضي على حياة فارس شجاع, وهو يؤدي أعماله الرائعة, من دون أن يدري أحد كيف ومن أين جاءت الرصاصة اللعينة . ربما أطلقها هارب رعديد من بندقية . فتقضي على اعظم فارس وأنبل مشروع . عندما أتأمل هذه الأمور أندم حقا على اختياري لمهنة الفارس الجوال في هذا العصر اللعين الذي نعيش فيه،  فأنا و إن كنت لا أخشى الخطر, فاني لا أخلو من الهم حين أفكر كيف أن البارود و الرصاص يمكنهما في أي لحظة أن يسلباني الوسائل التي تجعلني شهيدا معروفا في العالم بفضل قوة ساعدي وحد سيفي " .
         كان الآخرون يتناولون العشاء عندما كان يخطب السيد دون كيشوت . لم يفكر في أن يتناول لقمة واحدة, مع أن سانشو نبهه كثيرا إلى ضرورة أن يتناول العشاء, وبعدئذ ليتحدث ما طاب له الحديث .
         أذن السيد دون كيشوت يدرك جوهر العصر, ويعرف أنه عصر بلا أدب ولا أخلاق
ولا وعد ولا أمل ولا شهامة ولا كرامة ولا ميثاق ولا عهود ... إن عصر الرصاص, مثل الرصاص, أعمى يخبط خبط عشواء, فقد تبيد الأسلحة الجديدة مدينة بكاملها من أجل القضاء على ثلة من العسكر المقاومين . كان السيف أكثر وعيا بكثير . كان يستهدي بالأدب, بقوانين الفروسية . الرصاصة لا تحتاج إلى أدب ولا إلى قلعة يمضي فيها الفارس نصف عمره حتى يكون فارسا . يمكن لأي أزعر داعر أو وغد أو خائن أن يطلق رصاصة قاتلة و هو مختبئ بكل جبن بعيدا عن أي مواجهة . لقد أعلن الرصاص بداية عهد النذالة و الخيانة و أتنهى عهد المواثيق والأدب .
          ماذا يفعل السيد دون كيشوت ؟ بإمكانه أن يحصل على بندقية و يلطو خلف صخرة و يطلق على من يريد و هو في أمان.  لكن أين الأخلاق ؟ أين الأدب وأين الفروسية؟  انه عصر قتال فعلا , ولكنه قتال غير فروسي أبدا إن رفض البندقية وحده يدل على القوانين الأدبية التي التزم بها السيد له المجد. كان الفارس يقول للآخر قف و امتشق سيفك ودافع عن نفسك . أما اليوم فبمكن لرجل لا يعلوا قدرا عن جرذ الحقل أن يقتل اعظم فارس و هو يأكل تفاحة على كتف ينبوع صاف .
         انقلبت الأوضاع في عصر البارود رأسا على عقب فلم يعد الفارس الجميل الشجاع الكريم هو الذي يحوز على الليدي, بل قد يكون لصا و قاطع طريق . إن السلاح الجديد الرافض لأي قوانين أدبية يساوي بين القزم و العملاق, بين الجبان والشجاع, بين أشباه الرجال للرجال, بين اللئيم والكريم ... إن في مقدار أي صعلوك أن يقضي على أعظم الناس كرما وأدبا ...هذه هي مأساة العصر .
         ما العمل ؟
         هل يستخدم السلاح الجديد وهو لا يخضع لقوانين أدبية ؟ أم يبقي على السلاح القديم وقد بات مثارا للهزء و السخرية ؟
          أختار السيد له المجد الموقف الأدبي، مع معرفته الدقيقة بالعصر الذي يعيش فيه و يرفضه .

المجاهدة

        في ساعة من ساعات الصفاء فكر السيد دون كيشوت في هذا العالم المضطرب الذي زج فيه نفسه . انه عالم من الخداع و المغريات المادية و القتل والتآمر . لقد سهل السلاح الناري الجديد تنفيذ المهمات . بيد أن الذين يستخدمون هذا السلاح ليسوا فرسانا, ليسوا في المستوى الأخلاقي حتى لحمل سكين مطبخ . و هنا تكمن المأساة . كيف ننقذ السلاح من التهاوي في الخيانات والاغتيالات؟  كيف نجعله أداة بيد النبلاء, أصحاب الشهامة الذين يشعرون بوجود الآخر, و يقرون بحقه...الحقيقة أن السلاح لا نفع فيه إن خلا من النبل .
         عرف السيد دون كيشوت أن السلاح الجديد يشبه السلاح القديم من جهة ويختلف عنه من جهة ثانية . فهو يشبهه من حيث أنه أداة يمكن استخدامها, ويختلف عنه في انه لا يحتاج إلى مواجهة, بل يمكن استخدامه غيلة من بعيد . والحل الحقيقي لأي سلاح, قديما كان أم حديثا, يكون بالموقف الأدبي الذي يسيطر على السلاح ويوجهه الوجهة الصحيحة في خدمة الحق والخير والجمال . وبهذه الطريقة يتحول أي سلاح إلى أداة لتحرير الإنسان, واقامة العلاقات السليمة بين البشر.
          كانت هناك مدارس للفروسية يتعلم فيها الفارس ليس القتال فحسب و إنما طريقة التعامل مع الناس, و على الأخص مع النساء.  ولكن هذه المدارس انتهت بظهور عصر البارود, ويقتضي هذا التعويض عما فات و انتهى. التعويض لا يكون بالمدارس العسكرية التي باتت تدرب الناس على النار والبارود, و إنما يكون بالمجاهدة , مجاهدة النفس والجسد.  ولهذا السبب و بعد أن تمعن في العصر الصاخب المقيت قرر أن يلجأ إلى جبل " سيرا مورينا " لينفرد بنفسه, بعد أن طلب من سانشوبانزا أن يعود إلى القرية ليقوم بالمجاهدة و التأمل .
           في هذه المجاهدة درب السيد دون كيشوت نفسه على ترويض النفس والجسد . أما ترويض النفس والجسد . أما ترويض النفس فيكون بالتأمل في الكون والناس و الناموس . و التأمل أشبه ما يكون بما يسميه الدروز" الخلوة " حيث يقوم الفرد بمحاسبة نفسه حسابا شديدا
ليكون أهلا للرقي والسمو و النزاهة . و كلما ازدادت المجاهدة النفسية ارتقى الفرد أكثر فأكثر لأنه يكون سيد نفسه فلا يتبذل في أي شيء نفسي : لا في الإساءة إلى الآخرين ولا في التفكير العدواني ولا في المكائد ...انه يقف في وجه العصر .
          أما مجاهدة الجسد فمن أجل التغلب على نزواته المادية واندفاعاته الغريزية, وجعله هيكلا مستحق للروح الصافية و النفس النقية . إن متطلبات الجسد كثيرة وهو يضغط بها على النفس باستمرار . فلا يكفي ترويض النفس وحدها, بل لا بد من ترويض الجسد حتى يكون قنوعا صافيا ...هذه هي المجاهدة الكبرى التي تعد الفارس لاستخدام أي سلاح .

العهد الذهبي : ملك و وطن و حبيبة

           ما الهدف من مغامرات الفارس ذي الوجه الحزين ؟
           انه استعادة العصر الذهبي . وهو مصطلح قديم متجدد, ما فتئ الأدباء و المفكرون يطرحونه حتى يومنا هذا . منهم من يرى أن العصر الذهبي يمكن استعادته, فهو ليس خلفنا بل أمامنا . وهذا هو السبب في شيوع الرعويات منذ أيام اليونان وأركاديا وحتى فرجيل والعصور الوسطى وصولا إلى عصر السيد دون كيشوت . و الرعويات ليست قصائد ريفية (اكلوغ ) وحسب, بل تجلت أيضا في القصة و الرواية و المسرح . ولسرفانتس نفسه بعض القصص الرعوية, وان لم تكن بشهرة غيرها .
         كلما مرت بضعة فصول من هذه الرومانسة المضادة صاح السيد دون كيشوت بأنه يريد استعادة العصر الذهبي . ويؤكد أن استعادته ممكنة . ومعنى ذلك أن لديه تصوراً واضحاً مقنعا لاستعادة هذا العصر . وقد حدد تحديداً دقيقاً الأركان التي تجلب العصر الذهبي وهي الملك والوطن والحبيبة .
       أما الملك فأنه كالفارس يحتاج إلى تعليم وتدريب . بل هو سيد الفرسان والممثل الأكبر لأخلاق الفروسية وآدابها . كان الملك آرثر ملكاً ولكنه كان فارساً أيضاً . وهو الذي ابتكر المائدة المستديرة ليكون المتقدم بين متساويين . فلا يكون " فوق " بل " أمام " فهو يمثل القدوة لا التسلط ولا الاستغلال . لا يجوز أن يصير المرء ملكاً إلا إذا مر بمدرسة آداب الفروسية . وكان الملك قديما ًيعزل ابنه من وراثة العرش إذا بدر منه ما ينافي آداب الفروسية, آداب الملوكية . على الوريث أن يتدرب على الملوكية كما يتعلم التلميذ حروف الهجاء تماما . فهو يتعلم كيف يحكم ولا يتسلط وكيف يوزع ولا يستأثر, وكيف يعدل ولا يحابي, وكيف يكون شجاعا من دون حماقة, وعفيفا من دون تنسك . و هذا هو الأساس الأول للعصر الذهبي . من دون ملك تصبح الأمور فوضى, ولا يكون ثمة وطن .
         أما الأساس الثاني فهو الوطن . والوطن علاقة وليس قطعة من الأرض . فالأرض ملك لجميع الناس, ولكن العلاقة التي تقوم بين الناس فوق هذه الأرض هي التي تحدد الوطن .
         أما الأساس الثالث فهو الحبيبة . ولكنها ليست مطلق حبيبة . إنها دوليسينيا رمز الحق و الخير والجمال . و المقصود هو الإخلاص للمثل التي تمثلها هذه الحبيبة وتدريبها عليها . إنها الحنان و الإخلاص والتفاني والعطاء والفرح الإنساني العميق . وللوصول إلى الحبيبة دون متطلبات, فلا بد أن يكون الرجل فارسا و أي فارس . أن يكون نورانيا قدسيا مترفعا عن الدنيا, شجاعا لا يهاب المنايا في نصرة العدالة, مخلصا لا يخاتل ولا يخادع ولا يستأثر .  هذا هو العصر الذهبي الذي أراد دون كيشوت استعادته, والذي أراد سيرفانتس أن يسخر منه على الرغم من إيمانه به .            

الفشل و المثابرة

          السيد دون كيشوت بطل حقيقي لأن البطولة ليست في النجاح بل في المثابرة . كم مرة أصاب الفشل الفارس ذا الوجه الحزين ؟ عشرات المرات. ومع ذلك لم يكن يأبه بالفشل بل يتابع مسيرته ليكمل مسيرته في الحق و الخير والجمال " من أجل عيون دولسينيا ".
          كل مغامرات الفارس ذي الوجه الحزين يمكن اختصارها بالكلمات الثلاث : الحق و الخير والجمال . كان دائما إلى جانب الحق و لو انتهى ذلك إلى الإضرار به,  وكان غير مناع للخير وان كلفه ذلك كثيرا , و أن يهفو إلى الجمال, جمال تلك الحبيبة الرائعة التي سماها دولسينيا, و التي سكنت عقله وحسه و ملكت عليه مشاعره . إن الواقع لا يقدم الحبيبة
المنشودة . علينا أن نخلقها نحن بأنفسنا . ولو منعنا الناس من شعر الحب و رواياته لمات الحب, ولما رأى الذكر في الأنثى أي جمال . إن الأدب هو الذي يجعلنا نحب ونتحسس الجمال, وبعدها نخطو في طريق الحق و الخير.
          إن انكباب الفارس ذي الوجه الحزين على قراءة روايات الحب و الإخلاص جعله يخلق حبيبة لا يمكن لليدي مهما كانت, حتى لو كانت الدوقة نفسها, أن تنافسها في الجمال و البهاء والخير . إن المثل لا تنبع من الواقع أبدا.  المثل يصنعها الإنسان . انه يكذب على نفسه باستمرار حتى لا يغوص في الواقع . و لو غاص في الواقع لما عثر على الحق و الخير والجمال . لا بد من أن يخلق هذه المثل لمواجهة الواقع والارتفاع به عن مستوى الغرائز المنحطة. إن الإنسان يبقى مشروعا فاشلا الا عندما يخلق مثله و قيمه الرفيعة . وعندئذ فقط يصبح مشروعا ناجحا.
         الفشل طبيعي في الحياة. لكن البطولة في المثابرة . ترى ما الذي جعل البطل ذي الوجه الحزين يثابر ولا يستسلم للفشل ؟ إنها المثل والقيم والآداب التي تمسك بها, و أخلص لها, وعمل من أجلها . الخنازير لا تعرف المثل, لذلك لا تعرف الفشل,  بل تبحث عن رزقها في القاذورات حيثما وجدت،  فتراها تسعى هنا و هناك,  ولا تلبث في مكان حتى تغادره . المثل التي نخلقها هي وحدها سبب فشلنا وسبب مثابرتنا في الوقت نفسه, مهما سخر منا الناس ومهما اضطهدنا.  الحياة لا تتحسن بالانقياد وراء الواقع . الحياة ترقى بالمثل . والمثل يخلقها الفرسان الأبطال، وعلى القطيع البشري البليد أن يتعلم من هؤلاء الأبطال كيف نسعى إلى المثل التي لا تتحقق, و لكنها تبقى حافزا . وبهذا الحافز تتحقق البطولة .
         بحسب الملك تكون المملكة . الملك يصنع المملكة, لكن المملكة لا تصنع الملك . الملك يجعل المملكة سعيدة, أو يجعلها تعيسة أيضا . ومن هنا يجب أن تنشأ مدرسة للملوك يتعلمون فيها كيف يملكون كل شيْ في المملكة من أجل ترتيب كل شيْ ترتيبا جماليا مفرحا . هذا هو تفسير خطاب السيد ذي الوجه الحزين حيث يقول: في العصر الذهبي لا يوجد" لي " و " لك " فالملك يملك كل شيْ ليوزع كل شيْ عن طريق العدالة . وبذلك يصبح للوطن وجهه الجميل ويصبح للمواطن وطن حقيقي . أما الحبيبة بصورتها المثالية فإنها تجلب السعادة .
          وهذا هو أيضا السبب في بحث السيد ذي الوجه الحزين عن ملك حقيقي يكون فارسا شهما . 

الخيبة     

         بعد مغامرات خطيرة من اجل الحق والخير والجمال يدحر العصر الداعر فارسنا المجيد ذي الوجه الحزين . عاد وقد ازداد العالم قبحا وتهاوى في القيم المادية التي شحنت النفوس بالحسد و الحقد فجعلت المزيد من الصراع يندلع حتى بين الاخوة .
         يقترب تابعه منه وهو على فراش الموت ويقول له : إذا كان الغم من هزيمتك هو الذي يجعلك تموت, فاني أتحمل المسؤولية . و أؤكد أنك انهزمت فقط لاني لم أشد سرج فرسك روسينانتي جيدا . أنت تعرف من كتب الفروسية أن من المعتاد أن يصرع فارس فارسا آخر . و لكن المهزوم اليوم سيكون المنتصر غدا .
          لم يقنع هذا الكلام فارسنا ذا الوجه الحزين . كان يعرف أن لا أحد يغلبه . من ؟ لماذا ؟ هل يعقل أن يغلب من لا يملك شيئا سوى قيم الحق والخير والجمال ؟ الفارس الذي يغلبه لم يولد بعد . لكنه العصر . العصر الذي أدار وجهه للفروسية وقيمها . طبعا المهزوم اليوم سينتصر غدا ... يبقى ويدان العصر . لقد نفض يده من عصره عندما أوصى بكل ثروته إلى ابنة أخته انطونينا كيخانا . فان أرادت أن تتزوج فلتتزوج من رجل لم يقرأ في حياته كلها كتابا واحدا من كتب الفروسية . فان أصرت على أن تتزوج من رجل قرأ كتب الفروسية فاني احرمها من كل الميراث و أوصى بان ينفق في أعمال البر .
          كما طلب من القس وكارسكو أن يبحثا عن مؤلف الجزء الثاني من مغامراته, ليعتذر منه لانه هو الذي هيأ له الفرصة لكتابة كل هذه الترهات الجنونية و انه نادم كل الندم على ذلك. البطل الذي لا يموت  
لم ينتصر دون كيشوت, ولكنه لم يمت أبدا . كل التاريخ الذي أعقبه يدل على ذلك وعدم انتصاره
وخلوده أمران حتميان . فلا يمكن أن ينتصر على عصر فيه كل هذه الزناخة . ولكن لا يمكن لعصر مهما أوغل في الظلامية أن يقضي على دونكيشوت, بل كلما ازدادت ظلامية العصور ازداد هو توهجا و إشراقا . لقد اثبت أن النبلاء لا يموتون .
أراد سيرفانتس أن يفش خلقه ويميت دون كيشوت انتقاما و سخرية من حياته هو التي قضاها في مواقف فروسية منذ أن وعى الحياة . قرأ كل رومنسات الفروسية وولد –كبطله – منها عمل و حارب وأسر وشلت يساره و أخلص و أظهر الشهامة في كل شيْ ..ثم عاد – كبطله – مدحورا ليموت على فراشه . أبى أن تبتر ذراعه المشلولة لتكون وسام الفروسية  يتباهى بها . وكم كانت خيبته حين أيقن أن أحدا من الناس لم يأبه به وبيساره وبيمينه, و بكل أعماله . ولا نشك في أنه كان يسمع بعض التأنيب من أهله و المقربين منه على هدره لحياته, فقد حولها إلى حيلة فروسية لا طائل منها ولم تعد عليه بشي الا سخرية الناس . عمر بكامله انصرم في خدمة الحق والخير والجمال . و ماذا كانت النتيجة ؟ أوبة إلى الوطن فالبيت, خالي الوفاض منهوك القوى . وعندما خلا إلى نفسه عزم أن يكتب رواية ضد الرومانسة ليبين أن الرومانسات الفروسية الرعوية و البيكاريسك ما هي الا ألاعيب و خيال كل غرضها ابتزاز القارئ بتسلية فارغة. و لكن ماذا كانت النتيجة ؟
كانت النتيجة أنه عرف الخير و السعادة منذ أن ولد السيد دون كيشوت ذو الوجه الحزين من نفث قلمه. وقتها فقط ابتسمت له الحياة وتيسرت أموره . لكن الموت زاره بعد زيارته لدون كيشوت بعام واحد فقط . ولو بقي حيا لعرف كيف أن البطل الذي لا يملك الا القيم لا يموت . فقد أعيدت طباعة دون كيشوت حتى ما قبل الحرب الكونية الأولى خمسمائة مرة في إسبانيا وحدها, ومئات المرات في فرنسا و إنكلترا . ولا نعتقد أن لغة حية لم تعرف أو تتعرف على دون كيشوت . عشرات الأفلام و المسلسلات و أفلام الكرتون تعرض دون كيشوت .
قيل أن سرفانتس أجهز على سيده دون كيشوت حتى لا يسطو عليه كاتب آخر من أمثال ابيانيدا . لكن ابيانيدا ( وهو اسم مستعار لم يعرف صاحبه الحقيقي حتى اليوم)  قرأ الجزء الأول منه فأعجب به فألف قسما ثانيا شحنه بالسخافات, مما جعل سيرفانتس يعجل بكتابة الجزء الثاني ليقضي في خاتمته على البطل فبقطع الطريق على أولئك العابثين الذين لا يحترمون فروسية الكتابة .
ولكن نتمنى ألا يكون هذا هو السبب الكامن وراء الإجهاز على البطل و بالرغم ما يصرح به سرفانتس في الخاتمة . فالموت لا بد منه لهذا الفارس . بل إن موته على فراش الموت هو خير نهاية للتدليل على الفشل الذي يلاقيه الفرسان في عصر افتقد الفروسية . انه لم يقتل بل انتحر . وهذا مصير كل الأبطال الذين يحملون القيم الأدبية والفروسية . انهم يعرفون العصر جيدا ويعرفون انهم منحدرون، ومع ذلك يقومون بمغامرات دونكيشوتية, ويأوون أخيرا إلى البيت والفراش فالتربة الصامتة, معلنين اندحارهم لا موتهم . تظل للقيم فرسانها الذين يندحرون و لكنهم لا يموتون لسبب بسيط وهو أن القيم لا تموت.
عندما ظهر المسدس في القرن التاسع عشر أطلقت عليه أسماء عدة . لكن أصدق الأسماء التي وصلتنا وأسبقها هو "الغدارة " .  و قد ظل هذا الاسم ساريا حتى أربعينات القرن الماضي. بعدما صرنا نسمع بالماركات المسجلة على المقبض . انه اسم يصدق ليس على الآلة وحدها, بل على العصر برمته . انه عصر بلا ملوك ولا فرسان ولا مائدة مستديرة ولا أخلاق ولا قيم.  انه فعلا عصر الغدر .
  من دراسة صادرة عن مطبوعات ا                        اتحاد الكتاب العرب دمشق 2002
  هنا ... هنا ... مفاتيح بيتكم الأهلـي الأول ... حيثُ إيقاعُ ماضيكم وحكايا رحيلكم وقناديلُ حضوركم  لا يشـحُّ لذبالتها زيتٌ ..!! نهاد
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق